مع انعقاد موتمر القمة السادس عشر لحركة عدم الانحياز في العاصمة الإيرانية في أواخر شهر أغسطس الجاري يثور التساؤل حول جدوى وجود مثل هذه الحركة وإستمرار إنعقاد قممها التي يحاول بعض أعضائها من خلالها الخروج من عزلتهم الدولية المريرة وتلميع صورة أنظمتهم القمعية البائسة.
نعم، كانت للحركة بريقها وجدواها ومبرراتها زمن الحرب الباردة، وفي حقبة الثنائية القطبية والتنافر الايديولوجي ما بين المعسكرين الشرقي والغربي، مثلما كانت لها دواعيها في عصر حروب الاستقلال التي خاضتها دول وشعوب العالم الثالث للإنعتاق من قيود المستعمر الاجنبي وجبروته، خصوصا قبل إختفاء آبائها المؤسسين موتا أو إغتيالا أونفيا أوخروجا من السلطة. غير أن كل هذه العوامل التي أملت في خمسينات وستينات القرن الماضي قيام الحركة، بدءا من الإجتماع التمهيدي في قمة الدول الأفرو آسيوية في باندونغ في إبريل عام 1955 التي خصصت لوضع الخطوط العريضة للسياسات الخارجية لدول العالم الثالث المتحررة وفق المباديء الخمسة المعروفة بإسم “البانجشيلا” (السلام والتعايش السلمي، تعزيز المصالح المشتركة وتبادل المنافع، إحترام سيادة الدول وإستقلالها، الإمتناع عن تهديدها أو الإعتداء عليها، عدم التدخل في شئونها الداخلية) ومرورا بإجتماعات قادة هذه الدول في نيويورك على هامش الدورة السنوية الخامسة عشرة للأمم المتحدة في أكتوبر عام 1960 ، وإنتهاء بأول قمة رسمية للحركة في بلغراد في سبتمبر عام 1961 ، صارت شيئا من الماضي الذي لا نجد له ذكرا سوى في الكتب العتيقة.
وهكذا فإن الاصرار على إبقاء هذه الحركة تحت عنوانها المذكور، الذي كان أول من إقترحه هو وزير الدفاع الهندي “كريشنا مينون”، رفيق رئيس الحكومة الهندية الأسبق “جواهر لال نهرو” أثناء إجتماع للأمم المتحدة في عام 1953، والإنفاق على إجتماعاتها بسخاء هو ضرب من ضروب العبث واللاوقعية السياسية، وإغفال متعمد للمتغيرات الدولية التي شهدها العالم منذ أوائل تسعينات القرن الماضي حينما سقطت الثنائية القطبية بإنهيار الإتحاد السوفيتي وكتلته الإشتراكية، وبالتالي إنتفى شيء يبرر وقوف دول العالم الثالث على مسافة واحدة من قطبين متناحرين لأنه لم يعد هناك قطبان أصلا.
هذا علما بأن دولا كثيرة ضمن الحركة (وفي مقدمتها الدول المؤسسة كمصر والهند) في أوج قوتها لم تستطع الوقوف موقف الحياد، وإنما إنحازت إلى هذا الطرف أو ذلك عبر إتفاقيات دفاعية وإستراتيجية تم تبريرها وقتذاك بـ “مقتضيات المصلحة الوطنية العليا”، بل أن الحركة فشلت أيضا في ما كانت تسميه بـ “الحياد الإيجابي” أي تقريب وجهات النظر ما بين المعسكرين المتخاصمين للحيلولة دون إصطدامهما أو شنهما حروبا ضد بعضهما البعض بالوكالة، دعك من فشلها في إيجاد حلول عملية سريعة للحروب والصراعات والأزمات ما بين دولها، بسبب عدم إمتلاكها للقدرات والأدوات اللازمة لذلك (الحرب العراقية – الإيرانية، والصراع حول الصحراء الغربية، والنزاع الهندي-الباكستاني، والملف الأفغاني مثالا). هذا ناهيك عن أن دولة مؤسسة للحركة مثل يوغسلافيا تحت قيادة “جوزيف بروز تيتو” سرعان ما عادت للتعاون والتفاهم مع القطب السوفياتي والإرتماء في أحضانه من بعد فترة قصيرة من التمرد الإيديولوجي عليه.
وإذا كان بعض الدول الاعضاء مثل كوبا – ومعها شريكاتها اليساريات في إمريكا اللاتينية وفي المقدمة منهن فنزويلا تحت قيادة زعيمها الراديكالي الحالي “هوغو شافيز – يرى في إستمرار الحركة جدوى لإستخدامها كمنبر صوتي وإعلامي ضد ما تسميه مقاومة الإمبريالية والإمبريالية الجديدة، وصون الإستقلال وحرية القرار الخارجي، ومحاربة العنصرية والهيمنة والتدخلات الخارجية، وضمان العدالة والمساواة، فإن منابر أخرى عالمية وإقليمية كمنظمة التعاون الإسلامي ومنظمة الدول اللاتينية ومنظمة الإتحاد الإفريقي والجامعة العربية يمكنها أن تقوم بمثل هذا العمل بطريقة أفضل لأن مواثيقها جميعا تؤكد على تلك المباديء المستمدة أساسا من ميثاق المنظمة الأم (الأمم المتحدة)، خصوصا وأن تلك المباديء أصبحت موضع إجماع العالم كله.
وقد يقول قائل أن الحركة ذات فائدة لجهة التعاون الإقتصادي والثقافي والبيئي المشترك ما بين أعضائها الكثر، وأنها إستوعبت فكرة تغيير أهدافها مبكرا، وقبل إختفاء الثنائية القطبية بزمن طويل. والشق الثاني من هذه المقولة صحيح! ففي منتصف السبعينات لاحظ المراقبون أن الحركة، بمبادرة من الزعيمة الهندية الراحلة أنديرا غاندي التي كان يؤرقها وقتذاك إرتفاع أسعار النفط بصورة صاروخية، تتجه نحو تغيير دورها من التركيز على الشئون السياسية والأيديولوجية إلى التركيز على المسائل الإقتصادية والتجارية والبيئية والتكنولوجية، الأمر الذي جعل دورها أقرب إلى مجموعات مثل مجموعة الـ 77 للحوار ما بين الشمال والجنوب ، ومنظمات مثل “الغات” ووكالة الأمم المتحدة للتعاون والتجارة، وبالتالي غابت القضايا السياسية عن محافلها فيما عدا قضية الشرق الأوسط والصراع العربي – الإسرائيلي المزمنة.
غير أن هذا القول رغم صحته لا يعني أن بمقدور حركة عدم الإنحياز تحقيق نتائج باهرة في الحقول المذكورة، لأنها تعاني من غياب البوصلة السليمة بحكم تنافر سياسات أعضائها، وتنوع تحالفاتهم وإرتباطاتهم، وإختلاف مصالحهم، وتفاوت درجات نموهم الإقتصادي، وتباين رؤاهم حول مسائل التنمية الإقتصادية، ونقل التكنولوجيا، والعولمة، وسياسات السوق، والحد من إنتشار الأسلحة. ويكفي دليلا على صحة قولنا هذا أن دولة مؤسسة للحركة مثل قبرص فضلت الإنسحاب منها للإنضمام إلى الإتحاد الأوروبي، وأن الكيانات المستقلة التي ظهرت على الساحة الدولية جراء تفتت دولة مؤسسة أخرى (يوغسلافيا) لم تبد حماسا للإنضمام إلى الحركة. هذا ناهيك عن الدعوات التي تموج بها الوسائل الإعلامية والمنتديات الفكرية في الهند التي لعبت دورا محوريا مع مصر ويوغسلافيا في تأسيس الحركة، وكلها دعوات محورها إنتفاء الأغراض والأهداف التي قامت من أجلها الحركة زمن “جواهر لال نهرو” وسياساته الخارجية التي كانت تهدف إلى إستخدام منبر حركة عدم الإنحياز لجمع الدول الأعضاء وغيرها حول بلاده في مواجهة باكستان من جهة والصين من جهة أخرى.
لقد ظهرت الحركة في زمن مختلف عما نعيشه اليوم لخدمة أهداف وقضايا محددة. وكان بروزها وإنطلاقها وجماهيريتها مرتبطة أساسا بكاريزما آبائها المؤسسين وتاريخهم الوطني من أمثال عبدالناصر في مصر، ونهرو في الهند، وتيتو في يوغسلافيا، وسوكارنو في إندونيسيا، وكوامي نكروما في غانا، والأسقف مكاريوس في قبرص، وأونو في بورما، وسيهانوك في كمبوديا، وكاسترو في كوبا، لكن لا تلك القضايا حاضرة ولا أولئك الرموز موجودون على قيد الحياة اليوم (بإستثناء كاسترو الكوبي). كما أن الحركة لا زالت، كما كانت يوم تدشينها، تفتقد آليات تحقيق المهمة المحورية التي جندت لها نفسها وهي السلام والتعايش السلمي بين الأمم. وهكذا فإنه من الأجدى أن تـُرحل الحركة إلى زوايا النسيان قبل أن يستغل منصتها الشوفينيون والإرهابيون والخارجون على القانون لتلميع صورهم وأجنداتهم الخاصة المريبة.
باحث ومحاضر أكاديمي في الشأن الآسيوي من البحرين
elmadani@batelco.com.bh