في المقال السابق تمت الإشارة إلى مسألة ارتداء الحجاب الإسلامي والتأكيد على أنها من عرضيات الدين وليست من ذاتياته، وأنها ترتبط ارتباطا وثيقا بالسلوك الاجتماعي للمجتمع العربي الذي نزلت أثناءه الآيات القرآنية، وأنها تتماشى مع الظروف الحياتية للإنسان العربي آنذاك. كما تمت الإجابة على سؤالين أساسيين بالنسبة لموضع الحجاب وهما: هل يعتبر الحجاب الحصن الحصين للمرأة؟ وهل له علاقة مباشرة بحفظ كرامتها وإنسانيتها؟
وسوف نستكمل هنا الإشارة إلى المحور الأخير المتعلق بتأثير عدم ارتداء الحجاب الإسلامي على سلوك المجتمع، وهل يؤدي عدم الالتزام به إلى فساد المجتمع، أم أن “فرضه” يؤدي إلى الفساد؟ وهل كل مجتمع غير ملتزم بالحجاب هو في المحصلة مجتمع فاسد؟ وهل توجد مجتمعات فاسدة أخلاقيا رغم أن غالبية نسائها محجبات؟
لو تمعنا في الجرائم التي تؤدي إلى فساد المجتمعات أخلاقيا، لوجدناها جميعا لا علاقة لها لا من قريب ولا من بعيد بلبس أو عدم لبس المرأة للحجاب. فجميع الذين يدعّون أن ترك الحجاب هو أحد أسباب الفساد، فشلوا في طرح أمثلة تثبت مزاعمهم. فمثلا، لا علاقة للحجاب بالمشكلات التي تكون المرأة عنصرا رئيسيا فيها، كقضية الدعارة التي تبيّن الصور والمشاهد التي توردها الصحف في الكويت حين القبض على بعض شبكاتها أن العديد ممن يتم اعتقالهن يضعن الحجاب على رؤوسهن.
وعلى الرغم من أن مفهوم الفساد نسبي، ويختلف تفسيره من مجتمع إلى آخر ومن زمن إلى زمن، إلا أن جميع تلك المتغيرات لم تكن سببا في ربط الفساد بترك الحجاب، وإنما الفساد الأخلاقي له أسبابه المتعلقة بعوامل مختلفة ومتباينة يأتي على رأسها الاستبداد السياسي والفساد الاقتصادي والظلم الاجتماعي. ففي المجتمعات العربية والإسلامية، والمجتمع الكويتي بالذات، لا أدلة أو أرقاما تثبت أن “فرض” الحجاب على الخادمات القادمات للعمل في المنازل ساهم في التقليل من الفساد الاجتماعي والأخلاقي، بل سوء معاملة الأسر للخدم يبدو، حسب تقارير المنظمات الدولية، هو السبب الرئيسي لانفلات عقال الهدوء الاجتماعي المسبب في مرحلة لاحقة إلى الهروب من المنزل والتعدي على قانون البلاد، من أجل التخلص من ظلم المخدوم وصولا في بعض الأحيان إلى التسفير من البلاد وفي معظم الأحيان إلى حالة من اللامبالاة بل والفساد في المجتمع للحصول على القوت اليومي.
من جانب آخر، فإن “فرض” الحجاب كان ولا يزال من الظواهر المسببة في الفساد بالمجتمع. وقد طرق باب مجتمعات عربية وإسلامية، ومنها المجتمع الإيراني الذي “فرض” على نسائه لبس الحجاب استنادا إلى نظامه السياسي الديني ودستوره القائم على فقه شيعي، وذلك بهدف الدخول في منطقة أدى خلالها هذا “الفرض” إلى فساد اجتماعي، وهو خير مثال على ما نقول، حيث تتشابه تلك التجربة مع العديد من التجارب العربية والإسلامية.
ففي إيران بدأت حملة الشهر الماضي ضد كل امرأة لا تلتزم بأسس اللباس الإسلامي وفق القوانين الدينية الواردة في الدستور الإيراني. ووصف مسؤولو أمن إيرانيون يديرون هذه الحملة النساء اللواتي لا يلتزمن بالحجاب الإسلامي بأنهن إما مريضات نفسيا، أو يفتقدن هويتهن الدينية ويسعين لنشر الفساد الأخلاقي، أو متهيجات ويسعين لإخراج هياجهن بعدم التزامهن بقوانين اللباس الإسلامي. وفي نظر هؤلاء المسؤولين فإن أي امرأة تضع على رأسها قطعة قماش صغيرة لا تغطي كامل شعرها، أو أن بنطالها قصير بحيث يظهر جزءا من رجلها، وأن لباسها الإسلامي (المانتو) قصير أيضا، فإنها تعتبر من النساء المنحرفات ومن المريضات نفسيا وفاقدات الهوية الدينية!!. (هل مواصفات اللباس هذه لها علاقة بالفساد الاجتماعي والأخلاقي؟).
وعلى الرغم من أن مسؤولين إيرانيين قالوا إن الحملة ضد غير الملتزمات بالحجاب تهدف إلى تأمين الأمن الداخلي والمحافظة على أخلاق المجتمع، إلا أن الباحثة الإيرانية فريبا داودي مهاجر (وهي بالمناسبة محجبة) قالت في تعليق لها في موقع “روز” الإلكتروني منتقدة الحملة: “لماذا لم يوجه أفراد وزارة الداخلية وقوات الأمن ضرباتهم (بدلا من الحملة ضد “مسيئي” لبس الحجاب) نحو القوى التي تستغل المرأة الإيرانية أكبر استغلال وتصور منها أفلام فيديو خلاعية (أفلام البورنو الإيرانية) وتبيعها وتنشرها في المجتمع لتستفيد منها اقتصاديا؟”. فالباحثة الإيرانية توجه أصابعها نحو قضية الفساد الحقيقية لا المزيفة، مؤكدة أن على وزارة الداخلية الإيرانية أن تركز على مواجهة قوى الفساد الاجتماعي والأخلاقي الرئيسية، بدلا من تركيزها على قضية لا ترتبط بذلك الفساد. وتضيف مهاجر: “لماذا لا توجه وزارة الداخلية الإيرانية هجومها على العصابات التي تختطف البنات والنساء الإيرانيات وتعتدي على شرفهن؟ فأخبار تلك الحوادث تنتشر في صفحات الجرائد كل يوم”.
وتقول مهاجر، في إشارة إلى ضرورة وضع الأصبع على جرح الفساد، وهو جرح لا صلة له بلبس الحجاب أو بتركه: “إذا كان نوع لباس المرأة وحجابها يساهمان في تأمين الوضع الداخلي والأمني للمجتمع، فلماذا في مدينة قم المقدسة (المدينة الدينية)، والتي يعكس مظهرها الخارجي اللباس الإسلامي المتشدد والشادور الأسود وما يسمى بالحجاب الأمثل، تم في الشهر الماضي العثور على أكبر شبكة من شبكات تهريب الفساد ونشر الخلاعة؟ ألا يدل ذلك على أنه يجب الإشارة إلى عوامل أخرى لا إلى الحجاب لبيان أسباب الفساد الاجتماعي والأخلاقي”. ثم تتساءل، موجهة سؤالها إلى القيادات الأمنية الإيرانية: “المسؤولون الأمنيون يتوعدون البنات والنساء اللائي لا يلتزمن باللباس الإسلامي بمواجهة متشددة، لكن هذه المواجهة لم نرها حتى ضد متعاطي المخدرات الذين نراهم عند كل حارة وطريق”. إن المثال المتعلق بمدينة قم يثبت بما لا يدع مجالا للشك وجود مجتمعات فاسدة أخلاقيا رغم أن غالبية نسائها محجبات.
إن مهاجر توجه سؤالا آخر إلى قيادات بلادها الأمنية، فتقول: “لماذا لم تقم أجهزة الأمن في وزارة الداخلية الإيرانية بدورها في وضع خطط واقعية وصارمة لتعقب شبكات الدعارة التي تستغل البنات والنساء اقتصاديا وتهربهن إلى دبي وبعض دول الخليج من أجل الاستفادة منهن في تجارة الرقيق الأبيض”. وتضيف أنه “حينما تتمنى القيادات الأمنية أن تؤدي الحملة ضد المسيئين للباس الإسلامي إلى التقليل من ظاهرة اللباس غير الإسلامي، ألا تتساءل تلك القيادات لماذا يتوجه المجتمع الإيراني بسرعة نحو عدم الالتزام باللباس الإسلامي؟ وفي ظل وجود رقابة حكومية على مسألة اللباس الإسلامي والحملات الدورية للشرطة ضد غير الملتزمات بالحجاب وتأكيد الحكومة على أهمية احترام اللباس الإسلامي، لماذا كل ذلك لم يؤد إلاّ إلى نتائج عكسية؟”. إن الإجابة باختصار هي أن علة الفساد الاجتماعي في المجتمعات لا تتعلق لا من بعيد ولا من قريب بالحجاب.
ssultann@hotmail.com.com
* كاتب كويتي