نبّه نائب منتصر زميله المعارض، قبل ان يقذفه بتهمة العمالة، الى أن “جمهورنا”، “أي الجمهور الفائض قوة”، يستمع الى ما يطرحه النائب المعارض من آراء، وأن امتناعه عن الرد إنما هو خوفا من “فتنة” قد ينزلق اليها الشارع حيث “الجمهور”! الا ان هذه التبريرات أو المحاذير سقطت عندما اطلق النائب المنتصر حكما بـ”العمالة”، ولعل هذا استجابة لما يطلبه بعض الجمهور!
منطقيا، وفي لحظة احتقان شعبي، يصبح الاتهام أداة تبرير لبعض من جمهور قد يبدو أكثر جاهزية بفعل تراكمات ومبررات، أتيحت له دون غيره، كي يندفع إلى تخطي المحظور وتجاوز الممنوع. وهذا ما تبين من خلال حركة بعض الاهالي، التي ظهرت في الفترة الاخيرة، ولم يتم تبنيها رسميا من قبل الطرف المعني، والتي تُبَرَّرعادة على أنها “ردة فعل شعبية عفوية”،علما أن الفتنة تبدأ عادة من القواعد لتستثمرها القيادات عندما تنمو.
وفي ممارسة، قام هذا البعض من الأهالي بناء على قرار شعبي، بالتعرض لقوافل قوات الطوراىء الدولية في الجنوب أكثر من مرة. وأصبحوا يقيدون حركة جنود اليونيفل، حسب أدبياتهم السياسية والأمنية. وهذا البعض من الاهالي هم من يعترضون طريق الدبلوماسيين الغربيين اثناء تواجدهم في مناطق نفودهم، وهم من أوقفوا لجنة التحقيق الدولية ساعة دخولها عيادة طبية ولا احد يعلم ما قد يفعله “الاهالي” اذا استمرت الامور على هذا المنوال وظلت نوبات ردات الفعل الشعبية تنتابهم إزاء أي قرار أو تحرك غير ملائم، داخليا كان او اقليمياً.
لقد استطاعت الثنائية الحزبية، وخصوصا الطرف المهيمن، ان يستخدم ظاهرة “الاهالي” أو “الجمهور”، لإيصال رسائل سياسية في عدة اتجاهات، دون أن يكون المسؤول المباشر.
وبين الإنتماء إلى الدولة و الخروج عليها، أسّس حزب الله استراتيجيا الاحتجاج الأهلي أو الجماهيري، وقوّى بنيانه على أرضية ضعف أداء الدولة اللبنانية المزمن، وبخاصة في الفترة الأخيرة، وأخرجه بصورة الخيارات الأهلية أو الإرادة الشعبية! وقد غاب عن ذهنه، أن أي تجربة ثورية في العالم لا يمكن أن تصبح بديلاً، ولو مؤقتا، عن مؤسسة الدولة وإن كانت مهتزة.
وفي مسيرة الغاء الدولة “قانونا” و”اجتماعا”، اتسعت “الديموغرافيا البشرية”، التى أصبحت معروفة بظاهرة”الأهالي”، عن حيز “الجغرافيا” التي غض اللبنانيون الطرف عنها، لأسباب أمنية ملحة تحتاجها قيادة “المقاومة”، في الضاحية الجنوبية لبيروت. إلا أن هذه الجغرافيا مع اتساع ديمغرافيتها ، أصبحت حدودا استثنائية لدولة افتراضية داخل دولة منجزة غيرمستقرة.
وبين حاجة المقاومة لبيئتها، واستغلال هذه البيئة لحاجة المقاومة، اختلطت الحماية الذاتية بالأمن الذاتي، فسقط دور اجهزة الدولة وعملها، واتسعت رقعة التوتر الاجتماعي بالتزامن مع فلتان تخطى النظام العام، عجزت الثنائية الحاكمة في تطويقه والحد من انتشاره, خاصة بعد فشل حملة “النظام من الايمان” التي قادها الحزب داخل الضاحية ، ضد عصابات استغلت ظروفا معينة، فمارست افعالا شائنة.
الان يستشعر هذا البعض من “جمهور”، ومعه بعض من “اهالي”، بمزيد من القوة، حيث الدولة المصادرة تقع تحت مناطق حركته، فلا حدود ولا مكان لانفعاله، ولا مجال لمحاسبته، وهو يدرك حجم الحاجة إليه و الرغبة في ارضائه، و بأن بعض “الرعاة” يغضون الطرف عن كثير من ممارساته، فيدخل العفوي بالمدروس، ليصبح البلد بأسره أسير “يوم مجيد” جديد.
في إرادة الحصانة من الفتنة، تصبح هذه الظاهرة اقلية عابرة. فقد علمتنا التجارب حسن الظن بالجمهور، و بأن المراهنة على توتيره لا تستطيع ان تصل الى نهايتها ، وذلك بانحياز جمهور عريض من اللبنانيين الى المطالب الوطنية، والذاكرة المشتركة. ولعل الايام الاخيرة الماضية خير دليل.
mhfahs@gmail.com
• كاتب لبناني