لم أزر الجزائر منذ 15 سنة،وما كنت أظن اني سأغيب عنها كل هذا الوقت،أنا الذي هزتني من الأعماق بسحرها الخاص وجمالها العصي على الحدود، منذ أن وطأت قدماي أرضها في المرة الأولى سنة 1982. كانت زيارتي الأخيرة في لحظة فاصلة من تاريخ هذا البلد، الذي كان قد شرع بالخروج من حكم الحزب الواحد،والسير نحو التعددية وما تمثله من خيار يتطلب شجاعة خاصة،وما يترتب عليها من تكلفة عالية على جميع المستويات. أمضيت حينذاك أقل من اسبوعين، حيث حضرت جانبا من اعمال الدورة العشرين للمجلس الوطني الفلسطيني،الذي انعقد في نهاية شهر أيلول/سبتمبر سنة 1991 بعد حرب الكويت،وقبل انعقاد مؤتمر مدريد للسلام في تشرين الثاني/نوفمبر من نفس السنة.
كانت الجزائر في ذلك الوقت في ذروة البياض ،وفية للاسم الذي اطلقوه عليها في التسمية الشائعة، ككناية عن اللون الذي صبغها بها الفرنسيون، وبقيت تحافظ عليه. لم تكن قد تلطخت بدماء دورة اعمال العنف الاهلي، الذي بلغ درجة عالية من الخطورة، إلى حد أن العالم أعتقد بأن هذا البلد لن يقف على قدميه من جديد،وحتى لو وقف فإنه سوف يبقى ضعيفا بفعل حالة الانهاك المبرمج، التي تعرض لها من طرف جهات دولية ومحلية، لاتريد له الاستقرار،لأن مصالحها تكمن في السيطرة عليه، والتحكم بمقدراته.كانت الجزائر ماتزال بيضاء، ظلت روحها عصية على الشيخوخة،تعيش في مصاف المفاجأة المستمرة.
تعامل الفرنسيون تاريخيا مع الجزائرعلى نحو يختلف عن كافة البلدان التي استعمروها، العربية وغير العربية،فرضوا عليها قاطبة الانتداب، بينما اعتبروا الجزائر فرنسية في وقت لم تكن قد ظهرت فيه ثرواتها النفطية والغازية. التقت تجاهها نظرات ومواقف رجال الحكم والسياسة والثقافة الفرنسيين ،من اليمين واليسار والوسط. بدءا من الجنرال ديغول مرورا بفرانسوا ميتيران، وحتى البير كامو. يحبونها جميعا ويحقدون عليها، يتمنون ان تضمها فرنسا، أو أن يبتلعها البحر والصحراء،لكي لا تعود من جديد تقف في وجه التاريخ والاسطورة،ولئلا تتحكم بالجغرافيات والتضاريس. ثمة ما هو اقوى من السر ،شيء يشبه النداء الخفي دفع بالفرنسيين لكي يستميتوا، ويتشبثوا بها الى حد الجنون،ولم يتخلصوا من حضورها الطاغي في المخيال العام حتى اليوم . إن الطريق الوحيد لفهم قرار فرنسا باستعمار الجزائر لمدة 132 سنة،واعتبارها جزءا عزيزا من ترابها الوطني، هو الذهاب الى الجزائر، تلك البلاد الرائعة المترامية الأطراف التي تشبه نباتا بريا استعصى على الازمنة والفصول وتعاقب البشر،هناك سيجد الزائر صفاء السماء وحرارة الأرض، وسيخلد إلى وردة برية مازالت تتدلى من على شرفات التواريخ التي عبرتها الامبراطوريات الغازية،لونها القاني يجرح سكون الفضاء،وعطرها يضج من الاوراس حتى البحر،ومن الصحراء حتى غابات الارز، التي تشمخ شاهدة على نبل الطبيعة، وقدرتها على حراسة وتقديس روح المكان.
زرت الجزائر مرات كثيرة في السابق، تجولت فيها من تبسة وعنابة وقسنطينة وسطيف وبجاية شرقا،حتى وهران غربا.قصدت صحراء “الهقار” الذي لا يضاهيها في سحر شروق الشمس وغروبها، أي مكان آخر في العالم ،وقعت في غرام تيبازة التي خصص لها البير كامو كتابا كاملا”أعراس”،يشهد فيه على قيمة وقوة وسحر حضور المكان، لم يكتف ساكن “حي بيلكور” بالحديث عن جرح الجمال الذي لايندمل أبدا، وقد خلفه العابرون في الآثار الرومانية المتوسطية، بل أفاض في مديح الشمس والنبات والتراب والقمر والليل والطير والناس، الذين اعطوا لهذه الاساطير معناها.مشيت ادراج النهار والليل نزولا وصعودا في العاصمة الجزائرية،قاصدا شرفات البحر المسورة بالجهنمية والنخيل ورائحة الاوراس،ولكني بقيت أسير الدهشة تجاه هذه القارة من التنوع والغنى والجاذبية التي لا تنتهي.
لم تتغير الجزائر كثيرا هذه المرة سوى انها ذهبت اكثر نحو الداخل، لقد ازدادت بهاء واتسعت آفاقها أكثر،ونما نخيلها ووردها بعيدا في اتجاه البحر والصحراء والجبال والنجوم العالية،وعرشت أحلامها نحو فضاءات أبعد من دائرة الفرانكوفونية التي حلم البعض في سجنها داخلها.وعليّ ان اعترف بأن قلبي لم يخطئ حين استجاب على نحو سريع لدعوة الزيارة ، التي وصلتني من طرف مدير المكتبة الوطنية الجزائرية الروائي امين الزاوي، والمركز العربي للأدب الجغرافي الذي يشرف عليه الشاعر محمد أحمد السويدي،ويديره الشاعر نوري الجراح.لقد كان بي شغف كبير لتتبع الآثار والخطى التي محاها الزمن، والبحث عن ظلال الاصدقاء القدامى،والتاريخ الذي يعيدنا إلى اللحظة التي وقفنا فيها في “قصر الصنوبر”، ونحن نعول على حلم ياسر عرفات،بعد أن تشرد طويلا في الاقاليم والجغرافيات الشرق اوسطية،وكان يحاول الصعود من الاوراس نحو فلسطين،على وقع “حكمة” الرئيس الجزائري الاسبق هواري بو مدين،التي ذهبت مثلا عربيا وعالميا: “الجزائر مع فلسطين ظالمة ام مظلومة”.
لقد كنت مهموماعلى نحو اساسي بمعاينة التغير الذي اصاب الجزائر خلال 15 سنة، ولكني جدت هذه المرة جزائر جديدة، ليست منقطعة أو بعيدة عن تلك التي حملت صورتها الأولى في وجداني،،وإذا اعترف ان تجوالي واحاديثي، خلال الاسبوع الذي امضيته لحضور “الملتقى الدولي الأول للكتاب العرب بالمهجر”،لايكفيان لرسم صورة نهائية عن التحولات التي مرت على الجزائر في ظروف استثنائية،إلا ان المؤشرات كافة تؤكد على ان هذا البلد تجاوز المحنة بأقل قدر من الأضرار،بعد أن قطع الشوط الاكبر من تجربة المخاض الصعب،التي ارادتها اطراف دولية ومحلية، أن تتحول الى رافعة لحرب أهلية طويلة الأمد.
لم تتح لي الفرصة كاملة لتكوين موقف نهائي، من قضية “المصالحة الوطنية” التي عرفت تطبيقها الفعلي خلال حكم الرئيس عبد العزيز بوتفليقة،ولكن يمكن الحكم بدون تردد على ان الجزائر قطعت نهائيا مع النزاع الأهلي المسلح،وهي تتجه نحو بناء مشروع جديد ،مختلف وواعد.
حين غادرت الجزائر لأعود نحو باريس فجر التاسع والعشرين من يونيو ،شعرت بألم حاد شبيه بذاك الذي يصيب العشاق ،لذا تصرفت على نحو غريزي، فوجدت نفسي قبل ان اغادر غرفتي في فندق “الأوراسي”،أقف لدقائق على الشرفة لأرى شروق الشمس، وهي تنهض ببطء من بين المدرجات المتعرجة، كانت النظرة مفتوحة على مدى الحب، لكي تبقى الجزائر في القلب.
bpacha@gmail.com
* كاتب سوري