من الأهمية بمكان متابعة ما يجري من جدل وخلاف بين الكونغرس بقيادة الديمقراطيين وإدارة البيت الأبيض بقيادة الجمهوريين حول مستقبل الدور الأميركي في العراق، بخاصة لجهة ما يمكن أن يتركه من آثار في المنطقة عموماً وتجاه مستقبل العراق على وجه الخصوص، على الرغم مما يرجح عن لجوء الرئيس جورج بوش لحق النقض والانتصار لجوهر خطته وسياساته في هذا البلد.
فيما مضى وإبان الحصار الذي فرض على العراق لم يكن من موقف صحيح سوى رفض الحصار ومساندة الشعب العراقي في مقاومته، تلاه موقف إدانة الحرب ورفض الاحتلال، أما اليوم فاللوحة تغيرت ومن الخطأ قراءة ما يحصل بصورة ساكنة أو جامدة، بل ويفترض بعلم السياسة الابتعاد عن الأحكام المسبقة وقراءة كل خطوة في سياقها وما قد ينجم عنها من احتمالات وتحديد الموقف المناسب منها؟! فليس الأمر سيان بين استمرار دور أميركي ضابط نسبياً لتوازنات القوى وداعم للتحولات الجارية في العراق في سياق إعادة بناء دولة ومؤسسات قادرة وبين انسحاب سريع سوف يفتح صندوق العجائب ويطلق الصراع على مداه بأبشع الأشكال.
فهل نعي ماذا يعني نشوب حرب أهلية مذهبية في العراق تسود فيها شريعة الغاب وتعيث فيه الميليشيات الطائفية المسلحة عنفاً عشوائياً لا تحركه سوى مشاعر الغضب ورغبة الانتقام العمياء، أو حين تتصدر اللوحة ممارسات الذبح والقتل والتطهير العرقي والمذهبي لتغدو سيدة الموقف بلا منازع وتصل ربما ليس الى تقسيم العراق ثلاث دويلات فحسب، بل الى حد أن كل فئة أو جماعة لن تجد آمنها إلا بذبح الآخر وإزالته عن الوجود؟! وتالياً من منا لا يخشى على العراق من تكرار المثال الصومالي بعد انسحاب القوات الأممية منه وهي محاولة جارية على أية حال تغذيها مراكز قوى مختلفة تضم قيادات دينية ونخباً سياسية تجد في هذا الخيار أسهل الطرق لتحقيق مطامعها، وما يسترعي الانتباه والارتياب أن أكثر من يشدد على الإسراع في إخراج القوات الأميركية من العراق هم قوى الميليشيا وحملة السلاح من القاعدة وجيش المهدي.
وأيضاً هل نعي الى أي مدى سوف يخلخل الانسحاب المبكر من توازنات القوى القائمة ويطلق أكثر دور العوامل الإقليمية في تقرير مصير العراق والصراع عليه، ممكناً القوى الموغلة في العنف من عنفها ومعززاً مواقع الأنظمة التي تستند في استمرارها الى الاستبداد والقهر، وفي مقدمتها النظام المتشدد الحاكم في إيران والذي يعيد إحياء نهج ” تصدير الثورة ” ويبحث عن معالجة أزماته الداخلية عبر تعميم نموذجه في الحكم ومد أذرعه الى بلدان الجوار، خاصة وإنه استطاع نسج علاقات وثيقة مع قوى عراقية وتشجيعها على خلق نظام موالٍ يمكنه من الاستئثار بالورقة العراقية أو بعضها وتوظيفها في سياق الصراع على النفوذ الإقليمي.
ما سبق من أسئلة لا بد أن يطرح ليس تشكيكا بأهمية التحرير واستعادة السيادة بل من زاوية واقعية لدراسة ما يمكن أن تذهب إليه الأوضاع في حال فرض انسحاب سريع للقوات الأميركية ولم ينجح العراقيون في بناء دولتهم الجامعة، الأمر الذي يحث على التفكير في ظل تعقيدات الوضع العراقي الراهن وتداخل مساراته، أيهما أسوأ بالنسبة للمواطن العراقي ودوره في الحياة، هل أولوية رفض الاحتلال والدعوة إلى مقاومته أم بناء الدولة وإطلاق عملية التنمية السياسية على مداها والتي دونها لن يسلم العراق سيداً وحراً، كاشفاً خطأ وخطورة القول : لينسحب الأميركيون أولاً وبعدها لكل حادث حديث، وتغذية الرهان بقدرة العراقيين على حل مشاكلهم بأنفسهم، وأن الأمور سوف تغدو بينهم سمناً وعسلاً بمجرد طرد الأجنبي!
لعل دوافع هذه الفكرة نبيلة ومفعمة بالروح الوطنية وربما تنطلق من الحرص على وحدة العراق وتتوجس انقسامه وتفتته لكن المشكلة أنها لا تتوخى معالجة الأمور بغير التفكير بالأماني والتنكر لواقع قائم نجم عن عوامل عديدة من أهمها ماضٍ ديكتاتوري قاسٍ وما خلفه من نزعات متخلفة ومصالح إقليمية لعبت أدواراً نوعية فيما وصل إليه الوضع العراقي اليوم.
صحيح أن الاحتلال الأميركي هو واحد من العوامل التي وضعت العراق على السكة التي يسير عليها، لكنه تبسيط ساذج قراءة اللوحة السياسية من زاوية الاحتلال فقط وما يعنيه ذلك من تطاول على حق مجتمع منكوب نقرر عنه توقيت وأساليب طرد الاحتلال ونهزأ من معاناته المريرة تحت سنابك الديكتاتورية لعقود طويلة، ولنعترف بجرأة بأن الاحتلال وحده ليس أساس الداء والبلاء ولنعترف بجرأة أكبر أن مواجهته اليوم والإسراع في إنهائه ليس الدواء والمهمة الأولى التي لا تقبل التأجيل أو التفكير بغيرها! وما يزيد الوضع سهولة أن طرد الاحتلال الأميركي من العراق في ضوء ما يجري من تفاعلات وتداعيات بات أمراً إجرائياً أو أنه صار بحكم المحقق حتى لو طال الزمن قليلاً، بسبب أن شروط استمراره أصبحت أكثر تكلفة وأقل إقناعاً عربياً وإقليمياً وعالمياً.
ما سبق ليس دعوة لتأييد الاحتلال، فهو أمر بغيض متى حل وأينما كان، لكن تبدو انعكاسات انسحاب أميركي مبكر من العراق ليست هينة كما يعتقد البعض، بل على جانب كبير من الخطورة يرجح أن تؤثر بقوة على الشعب العراقي وخيارات العديد من قواه، ما يشدد على برمجة هذا الانسحاب بما يضمن وحدة العراق وتطوره بالمسار الأقل آلاماً والأفضل لمستقبل أجياله، أو البحث الجدي عن دور عالمي بديل قد توفره الأمم المتحدة لتجنب الإخلال بتوازن القوى القائم والحفاظ على مسارات التنمية السياسية، فالعامل الخارجي ودون أن نسبغ عليه قدرات فائقة لا يزال ضرورياً لاستكمال المؤسسات العراقية ربطاً بأولوية وإلحاح الحفاظ على الوحدة الوطنية للشعب في مواجهة بعدي الصراع القومي والمذهبي، اللذين لن تنفى مخاطرهما دون معالجة عقلانية تبدأ بضمان الأمن والتفاعل حول العملية السياسية في إطار بناء دولة ديمقراطية وترسيخ دورها العمومي، هذا إلا إذا كان البعض لا يزال يحلم في إمكانية إعادة العراق الى ما كان عليه وتسوية ما يشهده بالأرض بقوة الحديد والنار؟!
أخيراً، لعل أحد وجوه الفائدة من الجدل الأميركي حول العراق في أنه أطلق إنذاراً صريحاً للعراقيين لتنمية مسؤوليتهم الذاتية من أجل الخلاص مما هم فيه، واضعاً أمامهم تحديات جدية لا بد من الاستعداد لها كي لا تذهب بلادهم ضحية التنافس على قيادة أميركا بين الجمهوريين والديمقراطيين!
لقد خطا العراقيون خطوات مهمة على طريق بناء دولتهم، من صياغة الدستور الى انتخاب جمعيتهم الوطنية، وها هو دور المؤسسات السياسية والأمنية يتقدم ويستحث إعادة الاعمار وضمان الحاجات الحيوية لجميع المواطنين، فليس من خيار سوى الدفاع عن صيرورة بناء ضد عمليات هدم، صيرورة لا بد أن تتوج بقوى وبنى ديمقراطية تختصر دورة الآلام وتتمكن من وأد الفتنة وطرد الاحتلال وتضمن وحدة العراق وسيادته!
akrambunni@hotmail.com
* كاتب سوري
جريدة الغد