هناك نوع من التوافق على أن الأزمة الوطنية التي يعيشها لبنان منذ استقالة الوزراء الستة وإطلاق حملة المعارضة لتشكيل حكومة اتحاد وطني تُمنح فيه “الثلث المعطل” هو مجرد تغطية لعرقلة المحكمة الدولية. بل إن بعض أقطاب الأكثرية صرح في وقت ما بأن هذه مستعدة لإعطاء المعارضة “أكثر من الثلث” في حال تمت الموافقة على إقرار المحكمة الدولية.
حقيقة الأمر هي أن جزءا فقط من الصراع يدور بالفعل حول المحكمة لكن الجزء الأهم منه يتناول محاولة جدية لتغيير معادلة الطائف وتحويل لبنان لأول مرة من بلد ديموقراطي برلماني إلى فيدرالية مقنَّعة مؤسسة على الكتل الطائفية المحتقنة والمستنفرة. ومن نظام أكثري مستقر يفوِّض السلطة للتحالف الذي يفوز بأكثرية مجلس النواب إلى “مجلس مِلل” أو ائتلاف غير مستقر لكانتونات طائفية. وهذا المسعى الحثيث لتعديل صيغة النظام اللبناني، وإن خلسة، يترافق ويتوافق مع سعي متزامن من “حزب الله” لتثبيت ثنائية السلطة وتالياً تكريس الوضع الخاص الذي تأمن له في ظل المرحلة السابقة لقيام “الحكم الاستقلالي”. والحزب يبدو مستعجلا لتكريس صيغة معينة “تطمئنه” بسبب شعوره القوي أن الوقت ليس في مصلحته في ضوء الموازين الداخلية المستجدة و”الحماية” الدولية الشاملة للبنان، ونذر المتغيرات الإقليمية وأخصها الضغوط المتصاعدة على إيران ثم مخاطر المحكمة الدولية على السند الإقليمي الأول في سوريا.
ولأن الوقت مداهم فإن الحزب يريد صرف ما يعتقد أنها الأوراق المتبقية في يده على طاولة التسوية قبل نفاد آجالها. ومن هنا يمكن فهم العجلة ووتيرة الضغوط التي رافقت جولة “الحوار” الأخيرة، إذ أنذِر فريق الحكم – في مهلة أسبوع لا غير- إما التسليم بحكومة مع “ثلث ضامن” وإما فتح البلد على المجهول بكل ما يعنيه ذلك من معنى.
بالطبع بدت المحاولة الصاخبة منذ بدايتها بمثابة سباحة عكس التيار، وقد أمل كثيرون في السابق أن ينتبه “حزب الله” وقياداته المدركة إلى جديد الوضع اللبناني والإقليمي بعد المتغيرات الهائلة التي نجمت عن هجمات 11 أيلول 2001 الإرهابية ثم صدور القرار الدولي 1559 واغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري ورفاقه. أملوا على الأخص حدوث تبديل استراتيجي يقرر الحزب بموجبه وفي الوقت المناسب تثمير هيبته ورصيده في تعزيز دوره الوطني بدلا من تبديده المجاني في تحدي الدولة وغالبية اللبنانيين والمجتمع الدولي. لكن الحزب – ولأسباب لا حاجة للخوض فيها هنا- قرر كما يبدو المخاطرة بكل شيء بأمل انتزاع الاعتراف بوضعه الخاص وربَط مستقبله بل وجوده كله بموضوع السلاح وبأحلاف وموازين إقليمية لا يمكن الوثوق بمسارها ومستقرها النهائي. وقد جازف الحزب أولا في محاولة “إسقاط” الحكومة واستبدالها بحكومة يسيطر عليها ولم يتردد في الوعد بأنه سيكون هو من سيختار رئيسها وأعضاءها. ثم وإذ بدا ذلك من نسج الوهم انتقل إلى “مطلب الحد الأدنى” وهو “الثلث المعطل” أو “الضامن” في حكومة اتحاد وطني، وذلك كخيار يؤدي عمليا إلى استبدال النظام الأكثري الحالي، الذي لا يعطيه الضمانات المرجوة، بـ “ائتلاف طوائف” يعطيه ما يشبه حق الفيتو في أمور الدولة كبيرها وصغيرها.
لكن الحصول على مثل هذا التعديل الخطير لدستور الطائف غير ممكن من خلال “الحوار السلمي” أو من خلال آليات المؤسسات. لذلك جنحت المعارضة نحو افتعال سيناريو “حرب أهلية باردة” يمكن من خلاله “تعليق الحياة السياسية” وتسخين خطوط التماس الطائفية ومن ثم فرض إعادة التفاوض على النظام السياسي على أفرقاء البلد. إذ يستحيل بعد الجهد الهائل الذي تطلّبه عقد اتفاق الطائف وسيل الدماء الذي سبق التوصل إليه، أن يقبل أحد طوعا وضع هذا الاتفاق على طاولة المساومات كلما توهم هذا الطرف أو ذاك أن الظروف باتت مواتية لإعادة كتابة قواعد اللعبة. أما هدف الحزب فهو التوصل إلى صيغة “شراكة حقيقية” في الحكم تأخذ في الاعتبار ما ألمح إليه قادته مرارا باعتباره “المعطيات” أو “الموازين” السياسية الجديدة التي لم تكن في نظرهم موجودة وقت التباحث حول اتفاق الطائف.
اللافت أن “حزب الله” سجل في الشكل على الأقل نجاحا محدودا بمجرد فرضه لصيغة الحوار خارج مؤسسات الطائف وأهمها مجلس النواب ومجلس الوزراء، وأثبتت الأحداث أن الحزب كان مستعدا للتساهل في نقاط عدة بل التسليم الشكلي بأمور تخالف اقتناعاته ونياته الحقيقية طالما أن النتيجة هي استدراج الأكثرية النيابية إلى خارج أسوار الدستور اللبناني ومؤسسات النظام الديموقراطي حيث تصبح المنازلة على “أرض” الحزب وغير مضبوطة تالياً بأي مرجعية بل مفتوحة على احتمالات التأزيم والقطيعة قبل الدخول ربما في التسويات الجديدة المأمولة.
لكن، وفي المضمون، فإن الإصرار على مطلب “الثلث المعطل” – عدا كونه مطلبا مستحيل التحقيق لمخالفته النظام الديموقراطي وشله موقع رئاسة الوزراء- لا يعبر عن موقف المنتصر بل هو على العكس سلوك انهزامي لأنه يعكس خوفا قويا من أن لا تتمكن المعارضة الحالية في المدى المنظور على الأقل من استعادة المبادرة السياسية التي كانت مؤمّنة لها في ظل الوجود السوري. وإلا فما حاجة المعارضة لـ “ضمانات” وهي التي كانت وما زالت تتحَدّى الأكثرية الحاكمة للقبول بمنازلة سياسية في انتخابات مبكرة تقول وتردد أنها واثقة من كسبها؟ هذا مع العلم أن الدلائل متزايدة على أن التحالف الأكثري الحالي، وبسبب الأخطاء المتوالية للمعارضة، قد ينجح على العكس في تحسين أكثريته النيابية في أي انتخابات مقبلة وتحت أي قانون انتخابي.
وهكذا فإن الحكومة التي أريد إسقاطها قد تعود بقوة أكبر وهذه المرة مع رئيس جمهورية “استقلالي” يعزز موقفها. وهذه الحكومة أو غيرها ستواصل تثبيت السلطة الجديدة ليس شعبيا فحسب، بل وهذا هو الأهم، عبر الإمساك الفعلي بأجهزة الدولة الإدارية والأمنية والعسكرية كافة وتحصين النظام تالياً إزاء احتمالات الاختراق.
بالطبع يشكل هذا الاحتمال في حد ذاته أفقا قاتما بالنسبة للقوى التي عملت جاهدة – في ظل الاستنزاف الدموي لقيادات 14 آذار والتعويق الشارعي للحكومة- لإجهاض السلطة السياسية الجديدة والتعامل معها كمجرد “حادث” أو “نكسة” لمسار بدا أنه أسس بنجاح لحقبة سورية طويلة Pax Syriana في لبنان. وهذه القوى التي تعمل لرد البلد إلى تلك الحقبة تجد صعوبة كبيرة في الاعتراف بالتغيير الذي حصل ولا تعرف حتى كيفية التصرف كمعارضة والعمل في البيئة الديموقراطية المتحررة من الخوف التي ولّدها خروج العامل السوري من المعادلة الداخلية. ولا ننسى أن العديد من هذه القوى أدمن لوقت طويل على كونه سلطة مطاعة ومهابة ولا يمكن محاسبتها على شيء فكيف يطلب منها الآن إثبات استحقاقها في انتخابات لا يكون فيها لأي طرف ميزة على آخر ويكون القول الفصل فيها لناخبين محررين من أي ضغط أو ترهيب؟
لكن قوى المعارضة، رغم الضوضاء وسلوك الصلف المتأصل، مرتبكة في الوقت نفسه لأنها تكتشف في صبيحة كل نهار جديد، ومع كل مصادرة لسلاح أو كشف لشبكة إجرامية، أنها لم تعد السلطة أو على الأقل أنها فقدت سطوتها السابقة ولم يبقَ لها سوى القدرة على الإعاقة والتعطيل. أما التهديد الذي يمارس كامتداد لأساليب الأمس فقد ذهب سحره عن اللبنانيين ولم يعد يخيفهم بل بالعكس فإن الناس المنعتقين من أي خوف يواجهون بكثير من الاحتقار والإصرار المحاولات المتواصلة لكسر حريتهم المستردّة وتهديدهم المستمر في أمنهم واقتصادهم ومستقبلهم.
وبالنظر إلى حجم هذه المقاومة المدنية الشجاعة وعمقها فإن تحالف الأكثرية الحالية محق كل الحق في معارضته المطلقة للتسليم بمبدأ “الثلث المعطل” في الحكومة بل أن ذلك واجبه الأول “ومهما كان الثمن” (وفق تعبير مختصر ومفيد للدكتور سمير جعجع)، لأن أي استسلام لهذا المبدأ سيؤدي عاجلا أم آجلا إلى تقويض النظام السياسي اللبناني من أسسه، وهو “رأس الإسفين” الذي ما أن يدخل في شقوق النظام السياسي اللبناني حتى يصبح ممكنا لأي قوة داخلية أو خارجية دفعه عميقا في الجسد السياسي للبلد تفسيخا وتفتيتا.
وما مفهوم “الثلث” الذي يراد إدخاله بالقوة إلى المصطلح السياسي اللبناني إلا تعبير موارب لفكرة “المثالثة” التي طرحت بصورة غير رسمية كبالون اختبار في أوقات مختلفة قبل الأزمة وخلالها. و”المثالثة” عودة إلى فكرة ديكتاتورية العدد التي رفضها بشدة المغفور له الإمام محمد مهدي شمس الدين، وقد أدى انزلاق الأميركيين (الساذج) إلى فكرة الديموقراطية العددية في العراق إلى قيام ديكتاتورية جديدة وفاسدة محل البائدة وجرّ تالياً إلى تمزيق هذا البلد العزيز ودفعه إلى أتون الحرب الأهلية.
وقد يكون المنطق العددي “مهربا رخيصا” من موجبات الاندماج بالنظام الديموقراطي وبالكيان السياسي والمجتمعي لبقية اللبنانيين، لكنه في ظل الوضع اللبناني الحساس وصفة خطرة لحروب أو أزمات أهلية لا تنتهي ودفع بالنظام الديموقراطي إلى الاضمحلال وبالبلد إلى الزوال المادي. فمع الإضعاف المميت للدولة المركزية الواحدة ومؤسساتها من يضمن السلم الأهلي وأين تقف عندها حدود المطالبات الطائفية؟ وكيف تكون للبلد عندها صيغة اجتماعية وسياسية مستقرة واقتصاد مزدهر يجتذب اللبنانيين أولا من منافيهم القريبة والبعيدة ويشجع الاستثمارات والسياحة ويعيد للبنان دوره وإشعاعه الذي فاق على الدوام وبما لا يقاس حجمه الجغرافي أو البشري؟
إن منطق الغلبة الطائفية أقرب إلى عصور الهمجية والقرون الوسطى منه إلى العالم المعاصر الذي يريد اللبنانيون العيش فيه والتفاعل ضمنه، وهو بطبيعته منطق لا يعترف بالآخر ولا بالوطن الواحد بل بالعكس يحوِّل الآخر والوطن إلى خصم وإلى قيد يجب كسره وإخضاعه، وهو يحول الحدود السياسية للبلد إلى “حدود داخلية” بين الطوائف، ولا بد أن ينجم عن هذا المنطق عاجلا أم آجلا إغراءات قوية بمدّ “تنازع البقاء” الطائفي إلى ساحة الجغرافيا (كما حصل بالتحديد عندما انفلت عقال الحرب الأهلية وما رافقها من عمليات تهجير)، وما الذي سيمنع في غياب أي روابط أو مواثيق وطنية جامعة أن يتراءى لبعضهم يوما أن لهذه الطائفة أو تلك حجما لا يتناسب مع الرقعة التي تحظى بها مما يبرر تالياً إعادة قسمة الجغرافيا؟
وإن لم يتم ذلك بالاتفاق – أو بالحرب- فما المانع أن تنشأ – حتى في ظل السلم الأهلي الزائف- حركات وجهود ترمي خصيصا لتشجيع بؤر الاستيطان ثم “إعادة ترسيم الحدود” تكرارا بين المناطق والغيتوات الطائفية وربما التشجيع على “النقاء السكاني”؟ علما أن الصدامات الأخيرة في الشارع وما رافقها من حملات تحريض وهستيريا مذهبية بدأت بالفعل في إحداث تناقلات سكانية بين بعض المناطق وإن على نطاق محدود حتى الآن. وهذا ما يجب في حد ذاته أن يفتح الأعين على ما يمكن أن يجرّ إليه إغراء القسمة الطائفية المقنعة بفكرة “المشاركة” وهي في حقيقتها وصفة مرعبة للبنانيين الذي انتزعوا استقلال البلد ويريدون مهما كلف الأمر الحفاظ عليه كجسد واحد وشعب واحد ونظام ديموقراطي يكون مثالا حضاريا لشعوب المنطقة والعالم.
أغرب ما في أمر الأزمة الحالية أننا في الوقت الذي نسعى فيه إلى مواجهة إسرائيل باعتبارها دولة ثيوقراطية تقوم على الانتماء الديني والتمييز العنصري نخاطر في الوقت نفسه بمنح هذا الكيان المشوّه التبرير الأمثل لوجوده عبر هدم النظام السياسي الوحيد في المنطقة الذي بسبب قيامه على الديموقراطية السياسية والتعددية والتسامح والازدهار الاقتصادي يؤرق ساسة إسرائيل ويحرج الدولة الصهيونية أكثر بكثير ربما مما يحرجها أو يخيفها التسلح الفوضوي وخطب الجهاد من فوق منابر الديماغوجية الطائفية.
النهار