كان علماء الاسلام المتوحدون في كثرتهم، المتكثرون في وحدتهم، على موجب التوحيد، يشكلون مجالا وفضاءاً رحبا للقائنا، من دون تشبث بإلزامية المعرفة التي تفضي في النهاية الى تعطيل المعرفة.
وليس سرا ان عددا من هؤلاء العلماء من اهل السنة، كانوا مهتمين بالتشيع لدى المتعصبين من السنة فقط، وهم القلة، وأن عددا من الشيعة كانوا مهتمين بالتسنن لدى القلة المتعصبة من الشيعة… وكان البعض ملتبساً اي متلبسا بكامل حقيقته الاسلامية والإيمانية، كجمال الدين الافغاني، الذي كان التباسه بين السنة والشيعة، بين ايران وافغانستان، توكيدا لانتمائه ووعيه لهذا الانتماء، ما رفعه الى مصاف الرائد والمعلم لعلماء ومفكرين نصارى ومسلمين. وامتد الأثر المحمود لهذا الالتباس الحميد، الى نماذج من العلماء والمفكرين، اطلوا على المذاهب الاخرى وأهلها إطلالة المؤمن بأن الآخر مكمل للهوية ، هنا يقع الشيخ محمد عبده والشيخ محمد شلتوت ومعهما فريق جماعة التقريب، التي ازدهرت في القاهرة المحروسة من اواسط ثلاثينيات القرن المنصرم الى اواسط ستينياته، واستطاعت السماحة المصرية ان تمنح العالم الشيعي الإيراني الشيخ محمد تقي القمي، وعن استحقاق، دور الناظم الكريم المكرم… فاستقبلت القاهرة ثلة من كبار علماء الشيعة الإمامية والزيدية والإسماعيلية والإباضية، مع فقهاء وعلماء المذاهب الاربعة، وبحثوا عن المشتركات في الفقه وأصوله في المنظومة العقدية لكل مذهب، واكتشفوا ان كثيرا من الخلافات لا تعدو أن تكون لفظية او مبنائية، ولمعت في تلك الفترة اسماء كالسيد محسن الامين الذي أصر على ان يكون عالم دمشق قبل التجزئة وبعدها، فرفعه سنة دمشق وسوريا الى مقام المرجعية للمدينة والوطن السوري كله.. كما لمع اسم السيد عبد الحسين شرف الدين والسيد محمد حسين كاشف الغطاء نجم مؤتمر القدس اواسط الثلاثينيات، والشيخ عبد الكريم الزنجاني، والشيخ سليم البشري، والشيخ عبد المجيد السليم، والشيخ عبد المعتال الصعيدي، ومحمد علوية باشا والشيخ محمد شلتوت…. ولم تكن مجالس التقريب والتقارب تخلو من الشيخ حسن البنا… وامتد الأثر الى جيل ثانٍ كان من اسمائه القريبة الى العقل والقلب والناس الشيخ محمد الغزالي والشيخ احمد حسن الباقوري والشيخ عبد الكريم الخطيب والشيخ محمد المدني والشيخ محمود ابو ريّة والشيخ عبد المقصود شلتوت والشيخ سيد سابق الخ….
وعندما صدر كتاب “الحالة الدينية في مصر”، عن مركز الدراسات الاستراتيجية في الاهرام، قبل سنوات، بإشراف الاستاذ نبيل عبد الفتاح، إكتشفنا احد اسرار مصر والأزهر، وهو أن في هذا الازهر الشريف لا يقل عن خمسة عشر من مجموع شيوخه العظام، عدد الذين لم يكن لهم مذهب فقهي خاص….
(…) لقد كنت منذ أوائل الستينات من القرن الماضي الى أوائل السبعينات منه طالبا في حوزة النجف، وفي كليتها النظامية، (كلية الفقه) التي أصر مؤسسوها من كبار علماء النجف ورواد التطوير الحوزوي ودعاة التقريب أن يجعلوها مضمار شراكة علية، فكان نصف أساتذتها أو أقل أو أكثر، من السنة، ومن بين كبار هؤلاء كان العالمان المصريان الكبيران الدكتور حسين نصّار والدكتور عبدالله درويش. وفي أول الستينات تلك، كان قد سافر وفد من علماء النجف بقيادة الشيخ محمد رضا المظفر الى فاس للمشاركة في مؤتمر علمي إسلامي، وحصل نوع رفيع المستوى من التبادل العلمي لدى علماء السنة والشيعة معاً… وعاد المظفر، عميد كلية الفقه وقتها، ليصّر على زميله ورفيق دربه السيد محمد تقي الحكيم، لتدريس الاصول المقارنة والفقه المقارن، ما كان ثمرته سفرا جليلا يدرس حتى الآن في كليات الشريعة في العالمين العربي والإسلامي.
ومن النجف الى قم في نفس المرحلة الزمنية، والتي انصرف مرجعها الأول السيد حسين البروجردي لمدة اربع سنوات عاكفا في أصفهان على التبصر بفقة المذاهب الأربعة ليعود بعدها الى الحوزة بعد المجتهدين على أساس تأسيس الفقه الإسلامي المشترك، لا فقه المذاهب المنفصلة او المتفاصلة، ما أثر في منهجية ورؤية كثير من تلاميذ البروجردي الذين اصبحوا من كبار العلماء والمراجع، وما زالوا حتى الآن دعاة تقريب على موجب التأصيل الفقهي والشراكة، لا على أساس الخطاب المنبري…. وعلى مدى قرنٍ من الزمان اصبح الكتاب السني المعني بهموم المسلمين وفكرهم، جزءا أساساً في الثقافة الحوزية في النجف وقم معاً. هذا الامر كان متصلا بمفصل او متحول كبير، اعني محطة الثورة الدستورية التي إنطلقت من اسطنبول، وكان صداها عظيما في النجف وقم وبغداد وطهران، وفي الوسط الشيعي على الخصوص… وهناك تفاصيل لا يتسع لها المقال… ومنها ان رسالة أرسلت من كبار المجتهدين في النجف الى السلطان العثماني محمد رشاد ، إثر إعلانه الإلتزام بتطبيق الدستور، وخاطبته بلقب (الخليفة) باسم الشيعة، في حين كان هؤلاء العلماء المجتهدون قد أرسلوا برسالة أخرى الى السلطان القاجاري الشاب محمد علي هددوه فيها بالثورة عليه ووصفوه بالمجنون لأنه تقاعس عن تطبيق الدستور، ومنع إنعقاد مجلس النواب المنتخب على أساسه….
ومن هنا الى الذاكرة البعيدة …(…) إلى القرن الذهبي، القرن الرابع الهجري، وكبار علماء الشيعة الذين يعتبرهم الشيعة مؤسسين للمنظومة الفقهية والفكرية والشيعية.
( ) فقد قرأت لائحة أساتذتهم وتلامذتهم، فوجدت نصف هؤلاء ونصف أولئك من علماء السنة… هذا في ظل مساحة من الحرية العلمية والرغبة المعرفية، وصلت الى حد خلط الأمور واختلاطها على الجهلاء ووضوحها لدى العلماء، فكان الشريف المرتضى الملقب بعلم الهدى عند الشيعة وشيخ الطائفة الطوسي، وتلميذه الرائد فقها وكلاما وحديثا، الشيخ المفيد، كان مهتما بالاعتزال وما زال الجدل مستمرا حتى الآن حول هذه المسألة، (…) هذا وعندما وجد السيد المرتضى وتلميذه الطوسي أن عددا من العلماء الشيعة في ذلك القرن وعلى رأسهم ابن الجنيد المعروف بالإسكافي، قد اقتربوا جدا من المذهب الحنفي حيث القول بالرأي والعمل بالقياس، لم يستفزهما ذلك، ومع توكيد الخلاف معهم، امتدح الطوسي ابن جنيد ومستواه العلمي.
ألا يكفي هذا حتى نكف عن تحويل المذاهب من روافد او فروع الى نقائض وأطر نمطية؟
وإذا لم يكن ذلك يكفينا، أفلا يكفينا ما يجتاحنا من أخطار خارجية نغذيها بما نضيفه اليها من تبادل للجهل والتجاهل بوابتي الفتنة التي لا تبقي ولا تذر؟