بداية، أرجو أن يتسع صدر الأصدقاء والزملاء في اللجنة الوطنية لحقوق الإنسان، وليس كل ما سأذكره موجهاً بالضرورة لهم، إنما هي تداعيات تفاعلي مع التقرير المفرح والمبهج بالنسبة إليّ، وإلى غالبية المهتمين بقضايا الإصلاح، وحقوق الإنسان، والمجتمع المدني في بلادنا، خصوصاً حين يصدر من هيئة يعتبرها قطاع واسع من الناس أنها شبه حكومية، سواء في طريقة تكوينها، وتوقيت تشكيلها، وفي مصادر تمويلها، وفي مدى استقلاليتها، غير أني أبارك (في ضوء تقريرها المنشور) جهودها الجديرة بالتشجيع، ضمن ظروفها وإمكاناتها وصلاحياتها المحدودة، والمعوقات والتعقيدات البيروقراطية المعروفة التي تواجهها، وتحد من فعالية نشاطها الحقوقي المستقل، وتمثل في فشلها في حل كثير من القضايا الحقوقية المهمة العالقة، ومن بينها عدم فاعليتها إزاء رفع الحظر عن السفر عن كثير من الإصلاحيين، ودعاة الدستور والمجتمع المدني، والذي مضى عليه أكثر من ثلاث سنوات ونصف السنة، رغم عدم قانونيته، لأنه تم من دون محاكمة ومن دون حكم قضائي. لكن في الوقت نفسه أجد نفسي متعاطفاً مع اللجنة، حين يدلي رئيسها بندر الحجار بتصريح لـ «الشرق الأوسط» يقول فيه «إن أي من الجهات الحكومية المعنية بالتقرير، لم تخاطب الجمعية أو تتصل بها، للإشادة أو الاعتراض» وهناك «كثير من القضايا ومنها خطوة الجمعية المستقبلية، القيام برصد لانتهاكات حقوق الإنسان في دول العالم، وهي الدعوة التي أطلقها السفير السعودي السابق لدى واشنطن الأمير تركي الفيصل في محاضرة له في العاصمة السعودية. وكذلك قضية منع المواطنين من السفر، إضافة إلى كثير من القضايا المرتبطة بالصحة والبيئة والتعليم».
وفي الواقع، فإن الصحافة السعودية والكتّاب السعوديين (وأنا منهم) لم يتفاعلوا مع التقرير (انطلاقاً من حساسية القضايا المثارة لدى بعض الناس، أو كموقف سلبي باعتبار اللجنة هيئة وواجهة شكلية). أقول هذا رغم أني مازلت على موقفي من ضرورة استقلالية منظمات ومؤسسات المجتمع المدني، بعيداً عن هيمنة وتدخلات الجهات الرسمية، لكن في الوقت نفسه أعتبر صدور التقرير وما تضمنه من جوانب مهمة وأساسية بمثابة حدث غير عادي، سواء من حيث شفافيته، أو شموله لكثير من القضايا الحيوية والمهمة المتعلقة بهموم وتطلعات المواطنين.
أعود للتقرير، الذي جاء في الفصل الأول منه، وتحت بند الإسلام وحقوق الإنسان، أن الإطار القانوني لحقوق الإنسان في السعودية «يستند إلى الإسلام كدين شامل ينظم حياة الإنسان بجوانبها كافة» حيث تشير المادة الأولى من النظام الأساسي للحكم في المملكة إلى أن «المملكة العربية السعودية دولة عربية إسلامية ذات سيادة تامة دينها الإسلام ودستورها كتاب الله وسنة رسوله». كما نصت المادة السابعة من النظام نفسه على أنه «يستمد الحكم في المملكة العربية السعودية سلطته من كتاب الله وسنة رسوله»، وبالتالي فإن دستور المملكة هو القرآن والسنة، أي أن مبادئهما ذات قيمة دستورية، بحيث لا يمكن لأية قاعدة قانونية أخرى أياً كان مصدرها أن تخالف ما ورد في القرآن والسنة من مبادئ، كما أن المادة 26 من النظام نفسه تنص أيضاً على أن «تحمي الدولة حقوق الإنسان.. وفق الشريعة الإسلامية، ومن هنا فإن أهم مكون لحقوق الإنسان في النظام القانوني للمملكة العربية السعودية هو أحكام الشريعة الإسلامية». كما أن «حقوق الإنسان قديمة قدم الإسلام، فهي ليست وليدة تطور ظروف سياسية ومدنية معاصرة كما في حركات حقوق الإنسان الغربية التي ظهرت في بدايات القرن الثامن عشر الميلادي» ومع اتفاقي وتأكيدي على المبادئ الأخلاقية والروحية السامية التي جاء بها الإسلام، والذي اشتمل على مبادئ حقوقية متقدمة حمت حقوق المسلمين (بما في ذلك حقوق المرأة المسلمة) وغيرهم من المستضعفين (العبيد والجواري) قياساً إلى الممارسات الوحشية المتفشية في عصر الجاهلية، مثل وأد البنات، وقتل وتعذيب العبيد والإماء، واعتبار المرأة المتزوجة، جزءاً من المتاع تنتقل في حال موت عائلها إلى الوارث الجديد. كما تضمنت سيرة الرسول ثم الخلفاء الراشدين من بعده، حرصهم الشديد على صيانة حقوق المسلمين، وكذلك حقوق أتباع الديانات السماوية الأخرى في الجزيرة العربية، وفي غيرها من البلدان التي فتحها المسلمين لاحقاً. وعلينا بالطبع أن نأخذ بعين الاعتبار أن الإسلام عالج وتعامل مع تلك القضايا، وهو يعي مدى عمق وتغلغل الأعراف، التقاليد، ومستوى الوعي والتطور الاجتماعي المتخلف السائد آنذاك، بين قبائل وأنحاء الجزيرة العربية، بل في العالم أجمع، والتي من بينها وجود ظاهرة الرق (العبودية) للرجال والنساء والأطفال، والمتاجرة بهم، واسترقاق وتملك الجواري للخدمة، والمتعة الجنسية.
لا يخدش الإسلام كعقيدة روحية، ومبادئ أخلاقية سامية، ما ارتكب من ظلم وتعدٍ وجور وسلب للحقوق (وغالباً باسم الدين)، في معظم العهود الإسلامية، على أيدي الخلفاء والحكام المستبدين الذي طال الجميع من مسلمين وغيرهم، بل ضلوع فقهاء السلاطين في تسويغ أفعالهم المشينة. لقد ظل الاسترقاق والعبودية على سبيل المثال ساريين في معظم الدول والمجتمعات العربية/ الإسلامية حتى أمد قريب (جرى تحريم الرق رسمياً في السعودية العام 1964 في عهد الملك الراحل فيصل بن عبدالعزيز)، ولا يمكن أن نعزل ذلك عن تأثير ظهور وسريان القوانين الوضعية المحرمة للرق في الولايات المتحدة (إثر الحرب الأهلية) وفي الدول الغربية الأخرى، في مجرى التحولات الفكرية، العلمية، الاجتماعية، والاقتصادية العميقة (الإصلاح الديني، عصر النهضة، والأنوار) والثورات التي اندلعت. كما فرضتها القوانين والعهود الدولية التي أصدرتها الأمم المتحدة، وبالتالي جرى الالتزام بها في فترات متفاوتة، وهو ما أدى إلى منع وتحريم ممارسات وأحكام أقرها الإسلام في حينه، واستمرت عشرات القرون، مثل الرق، تملك العبيد، فرض الجزية (على غير المسلمين) كما جرى تعطيل بعض أحكام الجهاد (جهاد الطلب) وما يستتبعها من أحكام الغنائم، سواء بسبب العجز والتبعية، أو مراعاة المستجدات في العالم. وضمن هذا السياق جرى في غالبية الدول العربية/ الإسلامية تجميد العمل ببعض أحكام الحدود، التي اعتبرت مخالفة لحقوق الإنسان، رغم وجود سندها الشرعي، مثل قطع الأعناق (حد القتل)، الرجم حتى الموت للمرأة والرجل (حد الزنا) إذا كانا محصنين، وقطع الأيدي أو الأرجل (حد السرقة)، واستبدالها بعقوبات أخرى تتوافق مع قوانين حقوق الإنسان، والمعاهدات الدولية، رغم أن كل تلك الممارسات والإجراءات والأحكام السالفة، أقرتها وتضمنتها الشريعة الإسلامية.
وهذا ليس بجديد، فالدين الإسلامي وكل الشرائع السماوية، والمثل الأخلاقية والإنسانية الرفيعة التي توصلت إليها البشرية، أتت لمصلحة الإنسان أولاً وقبل كل شيء، لذا تضمن القرآن الكريم آيات منسوخة، وأخرى متشابهة، كما تتعين معرفة أسباب التنزيل للآيات، ضمن سياقاتها التاريخية والاجتماعية المختلفة، والتي تسمح بالقياس والتأويل، وترجيح فقه الواقع، والضرورات التي تبيح المحظورات، وتقديم مصالح الأمة، والإنسان في كل ذلك، تأسياً بقول الرسول الأعظم «أنتم أدرى بشؤون دنياكم» وتأكيده أنه جاء «ليكمل مكارم الأخلاق»، وهذا يعني أن الإسلام يتواصل مع المنجز الإنساني ويتفاعل مع الآخر ولو لم يكن ينتمي إلى دائرة الإسلام.
صحيفة الوقت البحرينية
* كاتب سعودي
na.khonaizi@hotmail.com