هذه ليس أول مقال ينشره “الشفاف” حول مشكلة التفلّت الأخلاقي والتشبيح في المناطق الشيعية. وآخر السلسلة كان مقال الصديق قاسم قصير بعنوان “هل يعاود حزب الله إطلاق حملة النظام العام وتعزيز القيَم؟
في ظل ازدياد المظاهر الاجتماعية والأمنيّة السلبيّة“. ولكن
مقال “نجاح خليل” الجديد
يخلص إلى أن “الأحاديث ليست سبيلا لمعالجتها. كذلك تذمر حزب الله، وخططه المبتورة، ليس كافيا لوضع حد لها. فهي بحاجة إلى ما هو أعمق و أكبر بكثير، الكثير الذي قد لا يناسب الطائفة الشيعية واستراتيجيتها وأيدولوجيتها.”!
بكلام آخر: المواطن اللبناني (وهو مواطن لبناني قبل أن يكون شيعياً) الذي “يطرب” حينما يقول عنه قادة حزب الله أنه “أشرف الناس” (أي “أشرف من غيره من .. المواطنين اللبنانيين”!)، والذي “يعتزّ” بسلاح الحزب، ويغض النظر عن استقوائه بسلاح “إيراني”، أو بسلاح “سوريا الأسد”، على جيش دولته ودركها وبوليسها، والذي يقبل بممارسة “الهوبقة” على أملاك “دولته” ومشاعات “بلدياته” (وهذه “الهاء” مهمة جداً) ثم يطالب نفس”دولته” بزيادة راتبه، أو بتحسين المدارس العامة لأولاده… أو الذي يقبض راتباً بدون عمل مقابل، أو الذي يسمح لنفسه بـ”النصب” على وزارة الصحة.. أو بسرقة الكهرباء العامة..
هذا المواطن، الجنوبي أو البقاعي، نفسه، هل يتحمّل مسؤولية سياسية، وأخلاقية، عما آلت إليه أحوال
المناطق الشيعية في لبنان؟
وهذا المواطن، الجنوبي او البقاعي، نفسه، هل يصدّق، فعلاً، “خرافة” أن حزب الله “يحمي” الطائفة الوحيدة المدجّجة بالسلاح من مشروعٍ يحضره له بقية اللبنانيين لـ”اقتلاعها” من أرضها وتشريدها لا نعرف إلى أين؟
أم أن المواطن اللبناني، وهو لبناني قبل أن يكون شيعياً وليس العكس، بدأ يدرك أنه بدأ “يلحس المبرد”، وأن مشروع “الهوبقة” على الوطن كله مشروع “مستحيل” من جهة، ومدمّر للجميع من جهة أخرى. كما اكتشفت طوائف أخرى من قبل؟
وبدل أن يستمر هذا المواطن “اللبناني” في “المرجلة” على دولته، فهل حانت اللحظة لكي يدافع، هو نفسه، عن “دولته” وليس عن “دويلته”، ولكي يتذكّر “العقد الوطني” الذي يجمعه ببقية المواطنين اللبنانيين؟ ولأن يردّ لهذا “الوطن الصغير” بعضاً مما أمّنه له من رغد في الحياة، ومن حريات عامة، ومن مستوى تعليم ومستوى صحة يحسده عليه بقية العرب؟
بيار عقل
*
التفلّت و”التشبيح” في المناطق الشيعية: الدولة ليست إطفائية “غب الطلب”!
لا يُبعِدُ وقوفُ “حزب الله” موقفَ المعترض على مظاهر التفلت الأخلاقي والتشبيح والبلطجة، التي خرجت عن السيطرة في المناطق الشيعية، من مسؤوليته المباشرة عنها، ولا تورّطه في أغلبها.
فهي، بدايةً، كانت حاجة له لإثبات ضعف الدولة من جهة، وتقصير أجهزتها ومؤسساتها في معالجة مشاكل الناس. ومن جهة أخرى، ساعدته على طرح نفسه كبديل موضوعي لتعويض النقص والتقصير الرسميين. كما أن الدعوات والحملات التي يطلقها حزب الله خاصة في مناطق الضاحية الجنوبية للعودة إلى التقيد بالنظام والقيم
الإجتماعية، وفتح الباب أمام أجهزة الدولة الرسمية لإرسائها، هي، واقعاً، سلاح ذو حدين. فهي تبعده عن مواجهة وقمع العصابات الخارجة عن القانون، التي ربيت في حضنه، لئلا تنقلب عليه لاحقا، وتصبح سببا في استنزافه أمنيا! و تساعده، كذلك، في تحسين صورته أمام الرأي العام والخاص اللبناني، الذي يتّهمه بتهميش دور الدولة وأجهزتها في مناطق
سيطرته.
يمكن القول إن حزب الله دخل، وأدخل معه المناطق الشيعية، في النفق المظلم
في ما يتعلق بمجموع القيم والمبادئ الإجتماعية والأخلاقية.
فظواهر مثل الدعارة والإدمان على المخدرات باتت تسجل أعلى نسبها حاليا في المناطق الشيعية، رغم الأجواء الدينية المصطنعة القابضة عليها. فنجد في مناطق البقاع إزدهارا غير مسبوق في زراعة وتجارة وتعاطي المخدرات، وتساهلاً متعمداً مع “قدماء المصلحة”، وتشاركاً “إلهياً” لافتاً في تيسير وتسيير العمليات! والهدف زيادة الأرصدة المالية لدعم المقاومة. ما أدى إلى تحول مناطق الجنوب والضاحية الجنوبية، إلى بؤر لتسويق هذه الممنوعات
وتصريفها، وإفساد جيل كامل من الشباب.
مخدّرات..
القاطنون في الضاحية الجنوبية يتحدثون عن أحياء “عائلية” مغلقة بالكامل أمام الأجهزة الأمنية وعناصر حزب الله تجري فيها عمليات الإتجار والترويج والتعاطي، بشكل علني، وأصبحت تشكل خطرا أمنيا وقلقا أخلاقيا على سكان الضاحية. بينما يتحدث عضو في إحدى بلديات الجنوب عن إحصائه لـ250 حالة إدمان على جميع أنواع المخدرات، عدا حالات
التعاطي، في بلدته التي لا يتجاوز عدد سكانها العشرة آلاف نسمة.
ودعارة..
إلى جانب ظاهرة المخدرات المتنامية، تبرز ظاهرة الدعارة!
فلا يمر يوم دون اكتشاف شبكة من هنا وشبكة من هناك. ويكثر الهمس عن وجود “شقق” و”بيوت”، وسط مناطق سكنية، تُستعمل لهذا الغرض. والأبرز على هذا الصعيد هو تآمر المعنيين في التستر عليها والتعمية عنها، وتكذيبها في الإعلام، تلافياً لافتضاح وجوه وشخصيات معروفة متورطة فيها.
و”تشبيح”…
على صعيد “التشبيح”، صار أمرا عادياً، في المناطق الشيعية، أن يستيقظ الموظف ليذهب إلى عمله فيجد سيارته مسروقة! أو أن يعود لقضاء عطلة نهاية الأسبوع في قريته ليجد أن أرضا ورثها عن أبيه قد جُرِفت وصُوِّنَت وتهيأت للبناء! أو أن رصيفا عاما قد تحول إلى مستودع لعرض البضاعة! أو أن أحد “أشرف الناس” قد سطا في غيابه، أو حتى أثناء وجوده، على “ساعة الكهرباء” أو “عيار المياه” خاصته!
يضاف إلى هذه “اليوميات”، مسألة التعدي المستمرة على المشاعات ومصادرة الأوقاف.
ينقل أحد أبناء بلدة “الطيبة”، قضاء مرجعيون، أن حوالي خمسة آلاف دونم من أراضي الدولة قد تم مسحها وفرزها وتسجيلها في الدوائر العقارية باسم “نائب إلهي”!
وآخر من بلدة “أنصار” في قضاء النبطية، يتحدث عن تقاسم حوالي عشرين ألف دونم، في مشاعات “أنصار” و”الزرارية”، بين مسؤولين في حركة أمل وحزب الله، إضافة إلى أن مسألة مصادرة الأوقاف الدينية آخذة بالتمادي رغم نداءات “المجلس الشيعي الأعلى” لإيقافها! وقد قضم مسؤولون في حزب الله حصة أحد أبناء شهداء بلدة حاروف في قضاء النبطية، بحجة تنظيم أراضي “الوقف”!
وفي التشبيح المنظم أيضا، تقوم البلديات التابعة لحزب الله في الجنوب بعمليات نهب يومية لمؤسسات الدولة، بالإتفاق مع موظفين مرتشين!
إذ يبدو أن خزائن حزب الله تعاني جفافا في السيولة بعد خفض منسوب التحويلات الإيرانية. ومنها على سبيل المثال ما يجري في مكاتب وزارة الصحة في المناطق، حيث يتم تحرير وصفات طبية وهمية، تبلغ قيمتها مئات الآلاف يوميا، لموظفين في هذه البلديات، وتحول إلى صناديق دعم المقاومة.
وفي “البلطجة”، حدث بلا حرج…
فالإحتكام إلى السلاح،عند أي حادثة، صار أمرا اعتياديا في مناطق سيطرة حزب الله. كحادثة “مكيانيك الحدث” وحادثة “بئر حسن” الأخيرة، التي راح ضحيتها المعاون الأول في مديرية المخابرات “حسن أيوب. وحوادث أخرى متفرقة توقع قتلى وجرحى، لأتفه الأسباب. كما حصل منذ أسبوع في محلة “الرويس” في الضاحية، حيث أصيب مواطن وهو يدخن “نارجيلة” على شرفة منزله بطلق ناري لم يعرف مصدره! عدا عادة إطلاق الرصاص ابتهاجا بعد خطاب سياسي حامٍ، أو في الأعراس والمآتم، وحتى أعياد الميلاد والنجاحات في الإمتحانات الرسمية.
مظاهر التفلت الأخلاقي والتشبيح والبلطجة وتبعاتها هي حديث الساعة حاليا
بين أبناء المناطق الشيعية، لكن الأحاديث ليست سبيلا لمعالجتها. كذلك تذمر حزب الله، وخططه المبتورة، ليس كافيا لوضع حد لها. فهي بحاجة إلى ما هو أعمق و أكبر بكثير، الكثير الذي قد لا يناسب الطائفة الشيعية واستراتيجيتها وأيدولوجيتها.
كما أن استدعاء أجهزة الدولة عند الحاجة فقط, لم يعد مؤثرا في احتوائها، لأن الدولة التي أفقدتها “الدويلة” هيبتها وحضورها سوف يُفسَّر أي تحرك لها في هذا الشأن على أنه استهداف أو تصويب سياسي – مذهبي على “الطائفة” و”شرفائها”!