بيروت- “الشفّاف
حكاية “المصالحة المسيحية-المسيحية” باتت أشبه بخرافة تلك الصبية الحائرة في أمرها، فتسلم بختها الى زهرة المارغريت الدائرية بأوراقها البيضاء وقلبها الأصفر، وتروح تنزع منها ورقة تلو الأخرى قائلة: “بتزوج… بترهب (أي تذهب الى الدير)”، مستسلمة الى ما سترسو عليه في النهاية الورقة الأخيرة!
ففي حين تجتاح موضة “المصالحات الاسلامية-الاسلامية” الشارع الاسلامي، سنيا-علويا وسنيا-سنيا بمبادرة سعد الحريري (من باب طرابلس)، وشيعيا-درزيا بين وليد جنبلاط و”حزب الله” (برعاية طلال ارسلان في الجبل)، الذي حاول غزو الجبل في 7 ايار الماضي، وسنيا-شيعيا على الطريق، عبر قيام وفد نيابي من “حزب الله” بزيارة قريطم (دارة الحريري في بيروت) بعد انقطاع دام أكثر من سنتين – وعلى اثر غزوة الحزب العسكرية لبيروت – تعبيدا للطريق أمام اللقاء الموعود والذي لم يعقد بعد بين الحريري وحسن نصرالله… تبقى “المصالحة المسيحية-المسيحية” عصية على التحقق، فيما يبدو “الرأي العام المسيحي”، في جزء منه غير مكترث كثيرا لها، والجزء الآخر حريص على التعددية السياسية والحزبية التي طبعت تاريخيا الشارع المسيحي، رغم محاولات السيطرة (خصوصا في مراحل الحرب الأهلية التي اندلعت عام 1975) من قبل هذا الفريق أو ذاك.
ولكن من هم المراد مصالحتهم مسيحيا؟ وما هو الهدف من ذلك؟ وانطلاقا من أية خلفية، ومن أية حروب أو فتن، قديمة أو جديدة؟
وفي هذا السياق، لا بد أولا من توضيح ان الكتائب اللبنانية كانت السباقة، عام 1976، الى محاولة السيطرة بالقوة على الساحة المسيحية، خصوصا بعد أن سيطر بشير الجميل على الأرض وقام ب”توحيد البندقية المسيحية”، عام 1980، تحت ما بات يعرف باسم “القوات اللبنانية”.
وتخلل تلك المرحلة المأساوية صدامات، واقتتال، ومجازر هنا وهناك، في الشمال بين “الكتائب” و”المردة” التي كان يتزعمها سليمان فرنجيه الجد، بلغت ذروتها مع الهجوم الذي شنته مجموعة من ميليشيا الكتائب، في 13 حزيزران 1978 على بلدة اهدن، معقل فرنجيه، وانتهى باغتيال طوني فرنجيه، ابن سليمان الجد ووالد سليمان الحفيد، مع زوجته وابنته وآخرين. وكان سمير جعجع يومها مسؤولا عن “القوات” في بشري ومنطقة الشمال، وشريكا في الهجوم على أهدن، مثلما فعل ايلي حبيقة الذي وصل اهدن على رأس مجموعة كتائبية من بيروت…
ومن أجل توحيد “البندقية المسيحية”، خاض بشير الجميل معركة اخضاع الأحزاب والتنظيمات المسيحية المسلحة، وارتكبت مجازر الصفرا وكفرياسين ضد مواقع حزب الوطنيين الأحرار الذي كان يتزعمه على الأرض داني شمعون، الأبن الأصغر لكميل شمعون، وشقيق دوري الرئيس الحالي ل”الوطنيين الأحرار”، والذي اغتيل، في 20 تشرين الأول 1990، في جريمة بشعة قل نظيرها، مع زوجته وأفراد عائلته، بعد أسبوع على اقتحام الجيش السوري منطقة بعبدا، حيث كان يسكن المغدور داني شمعون.
وبعد اغتيال بشير الجميل، في 14 ايلول 1982، بدأت مرحلة الانقلابات داخل “القوات اللبنانية” الى أن آلت قيادتها، في بداية 1986 الى جعجع، الذي ظل ممسكا بالقرار المسيحي في شرقي بيروت وبعض المناطق. وأثر حصول فراغ في سدة الرئاسة، في نهاية صبف 1988، عين أمين الجميل المنتهية ولايته الرئاسية ميشال عون، قائد الجيش يومها، على رأس حكومة عسكرية انتقالية، الى حين اجراء انتخابات رئاسية. ولكن هذا الأخير، تمركز في القصر الجمهوري وراح يتصرف وكأنه رئيسا للجمهورية. وانطلق في حروبه العبثية، بدءا ب”حرب التحرير” ضد الجيش السوري، ثم “حرب الألغاء” ضد “القوات اللبنانية”، التي ذهب ضحيتها مئات من المسيحيين، وألحق الدمار في المناطق المسيحية.
ومع دخول الوساطة العربية (والدولية) بقوة على خط الأزمة اللبنانية، تم التوصل الى “اتفاق الطائف” (تشرين الثاني 1989)، فانتخب رينيه معوض رئيسا للجمهورية، وأخرج عون من قصر بعبدا، وذهب الى “منفاه الباريسي”. وبعد أسابيع فقط من انتخابه اغتيل معوض، وانتخب مكانه الياس الهراوي، ودخل لبنان زمن الوصاية السورية المباشرة. وبعد نحو ثلاثة سنوات ونصف السنة (14 نيسان 1994)، أدخل جعجع الى السجن بتهمة تفجير كنيسة في الذوق، شمال بيروت، بعد أن رفض المشاركة في تركيبة الحكم الجديدة.
في 14 شباط 2005، زلزلت جريمة اغتيال رفيق الحريري لبنان، ومهدت الطريق أمام “انتفاضة الاستقلال” في 14 آذار، التي أجبرت النظام السوري على سحب جيشه من لبنان بعد ما يقارب الثلاثين سنة. وانطلقت مرحلة جديدة شهدت استقطابا حادا بين الأطراف اللبنانية، أي بين “قوى 14 آذار”، التي خاضت معركتها باسم استعادة سيادة واسقلال لبنان وحريته، و”قوى 8 آذار” التي أصرت على ابقاء “حبل السرة” مع حكم بشار الأسد. وقد وقفت معظم القوى المسيحية في معسكر الاستقلاليين، فيما
اختار عون، بعد عودته الى لبنان، الالتحاق ب”فريق 8 آذار”، عبر “ورقة التفاهم” التي وقعها مع “حزب الله”، في 6 شباط 2006. أما جعجع، الذي شارك حزبه في “انتفاضة الاستقلال” مثل “التيار العوني”، فقد أبقي في السجن الى ما بعد الانتخابات النيابية في حزيران 2005، من أجل تمكين عون من حصد أكثرية نيابية مسيحية.
بعد هذا العرض السريع، والمقتضب، والمكثف، كيف تبدو الساحة المسيحية اليوم؟ ومن يجب أن يتصالح مع من؟
بعد عودته من باريس، سارع عون الى زيارة جعجع في سجنه، في بادرة أراد من خلالها اجراء مصالحة مع خصمه القديم اللدود، ولكي يعبر عن استعداده لفتح صفحة جديدة وتخطي الماضي الأليم. وقابله جعجع بحرص على احترام التنوع والاختلاف على الساحة المسيحية، وتحاشي اي مواجهة مع “التيار العوني”. وتم بشكل أو بآخر الالتزام بهذا النمط من العلاقة، رغم بعض التعرجات والتوترات من حين الى آخر.
وراحت “الكتائب” تلملم صفوفها، وتذهب الى انفصال حبي مع “القوات اللبنانية”، بعد ان كانت قد بدأت مصالحة منذ سنوات مع سليمان فرنجيه، أطلقها جورج سعاده عندما كان رئيسا للحزب في مرحلة التسعينيات، واستكملها من أتى بعده، وعززها أمين الجميل الذي استعاد رئاسة الحزب بعد انتهاء زمن الوصاية السورية، وهو اليوم على تواصل شبه دائم مع رئيس “تيار المردة”.
أما في ما يخص “حزب الوطنيين الأحرار”، فقد رفض دوري شمعون باستمرار اتهام “القوات” وجعجع باغتيال شقيقه دوري، وهو يجلس اليوم الى جنب جعجع ضمن تحالف “قوى 14 آذار”. فيما تحولت علاقة الصداقة مع عون الى قطيعة وعداء، بعد التحالفات الانتخابية التي عقدها الأخير في انتخابات 2005، ثم ارتباطه بعلاقة لصيقة مع “حزب الله”.
في المقابل، لم يكن على حزب “الكتلة الوطنية”، المنخرط أيضا في صفوف “قوى 14 آذار”، “التصالح” مع أحد، أو اعادة النظر بموقف مسيء لأحد، اذ أنه لم يشارك أساسا في الحرب، وكان له موقفا واضحا ضد الاقتتال واللجوء الى العنف.
بعد خروج جعجع من السجن، عاد التوتر بين “القوات” وفرنجيه، الذي أعاد الروح الى تيار “المردة” بعد خروجه من السلطة. وحصلت مواجهات هنا وهناك، في مناطق مختلفة من الشمال، وقع ضحيتها أربعة قتلى من محازبي “القوات”، وواحد من “المردة”. وكان آخرها الاشتباك الذي حصل في بلدة بصرما، في قضاء الكورة (شمال لبنان)، في 17 ايلول الماضي. وهو الحادث الذي اعاد بقوة طرح موضوع “المصالحة”، الذي تسعى الى تحقيقة “الرابطة المارونية”، عبر اتصالات تجريها مع مختلف الأطراف المسيحية، وعبر تواصلها مع البطريرك الماروني نصرالله صفير، ورئيس الجمهورية ميشال سليمان. وقد أبدى الطرفان استعدادهما لل”مصالحة”، الا أن فرنجيه يصر على حضور عون اللقاء مع جعجع، فيما الأخير لا يرى أي مبرر لذلك…
لماذا يصر فرنجيه على ابقاء حالة التوتر بينه وبين “القوات”، رغم انه تصالح مع الكتائب، وخاض الانتخابات على نفس اللائحة مع جورج سعادة، في 1996، وسامح الكتائبي حنا شليطا، الذي حكم عليه بالسجن في جريمة قتل والده. ونشأت بين فرنجيه وايلي حبيقة علاقة صداقة، فكان الأخير يزوره باستمرار، وجلسا لسنوات جنبا الى جنب، على مقاعد الحكومة، بعد أن اصبح حبيقة في أركان “الخط الوطني” السوري في لبنان. علما ان التحقيقات أفادت يومها ان حبيقة كان هو من دخل مع شليطا الى منزل طوني فرنجيه خلال حدوث جريمة إهدن. وقبل أشهر، التقى فرنجيه أيضا أمين الجميل في لقاء “مصالحة” و”مصارحة”، بحسب المصطلحات الدارجة اليوم.
من الواضح انه بعد خروج الجيش السوري من لبنان، فقد فرنجيه سنده الأساسي، ونفوذه الذي كان ممتدا الى كل مناطق الشمال تقريبا، بدعم سوري حاسم، سياسي وأمني. ووجد نفسه يقاتل من أجل الحفاظ على موقعه في زغرتا والجوار، بعد ان صغر حجمه وانحسر دوره اثر سقوطه في انتخابات 2005. وقابل ذلك، عودة “القوات” الى التحرك، محاولة استعادة وزنها انطلاقا من الشمال، الذي يشكل الخزان الأساسي لثقلها الشعبي، في بشري، والكورة والبترون، وعكار، وبات لها حضورا في زغرتا نفسها. أي انها، عادت الخصم الأساسي، والوحيد المنظم والقادر على مواجهة فرنجيه سياسيا وانتخابيا. فهي، اليوم لها نواب في البترون والكورة وبشري، ومعظمها كانت مقاعد يحتلها نواب من كتلة فرنجيه، او يدورون في فلكه، مثل بعض نواب الضنية والمنيه وعكار…
كما أن تحالف فرنجيه مع “التيار العوني” بدأ يشهد بعض التباينات والاشكالات، مع اقتراب موعد الانتخابات، المقرر اجراءها في الربيع المقبل.
فالعونيون لهم قواعد في بعض الأقضية، ويريدون الدخول من الباب الواسع، والحصول على بعض المقاعد في الشمال. وهذا ما لم يحصلوا عليه في الانتخابات الماضية. الا أن فرنجيه غير قادر على ضمان أي مقعد لهم، وعليه ان “يزمط بريشه” أولا، آخذا بعين الاعتبار الحسابات العائلية في زغرتا. وهو لذلك، سارع الى الاعلان باكرا، قبل إسبوعين، عن لائحته قاطعا الطريق على محاولة عونية لضم فايز كرم الى اللائحة.
وفي الكورة، ليس بامكانه أن يضمن فوز حتى من يرشح، أما بشري فهي عمليا مقفلة ل”القوات”. وحدها البترون، يأمل فيها العونيون ايصال جبران باسيل، صهر عون ووزير الاتصالات الحالي، مدعوما بما تبقى لفرنجيه من أصوات.
أما في جبل لبنان، حيث الثقل الأساسي ل”التيار العوني”، فالصورة مقلوبة. اذ ليس لفرنجيه أي وجود انتخابي. فوزنه يقارب الصفر، وليس بامكانه أن يقدم أي دعم لحليفه الجنرال، الذي تنتظره، هو أيضا، معركة قاسية في المتن، وكسروان وجبيل، ناهيك عن بعبدا. ولهذه الأسباب، يبدو عون غير متحمس، وغير معني بال”المصالحة” بين فرنجيه وجعجع، خصوصا وأن ذلك سيعيد فتح المواجهة مع البطريركية المارونية، هو بغنى عنها عشية الانتخابات…
الا ان الذي “قصم ظهر” فرنجيه هو “الاعتذار” العلني والمدوي الذي اطلقه سمير جعجع قبل ثلاثة أسابيع، في 21 ايلول الماضي، أمام عشرات الألوف من المحازبين والمناصرين، الذين تجمهروا في ذكرى “شهداء المقاومة اللبنانية”. اعتذر جعجع عن الماضي والأخطاء و”الأعمال المشينة”، التي ارتكبتها “القوات”، وطلب “السماح”من الله وممن أسأنا اليهم”. وهي خطوة جريئة، وحضارية، لم يقدم عليها أحد من قادة الميليشيات السابقين في لبنان!
وهكذا، فاذا ذهب فرنجيه الى “المصالحة” مع جعجع، فماذا يبقى له من سلاح قبل أشهر من الانتخابات المقبلة، سوى خطاب تعبوي يشد به عصبية محازبيه، ويوجه من خلاله سهامه على جعجع و”القوات اللبنانية”، مستعيدا الماضي، ومآسي زغرتا والشمال، المتوارثة منذ ثلاثين سنة؟
وأمس، خطا جعجع خطوة أخرى معلنا موافقته على مشاركة عون في لقاء “المصالحة” مع فرنجيه، اذا كانت لعون “دوافع عاطفية وشخصية”!
فهل يتقدم فرنجيه أخيرا الى هذه “المصالحة”؟
s.kiwan@hotmail.com