بما أن مجتمعنا، السني الشيعي، “منقسم” مذهبيا، بسبب “اشتعال” نقاشاته الطائفية الخلافية، فنحن لا نملك إلا أن نحث على التعايش بين مكوّنَيه الدينيين في إطار التعايش بين مكوناته الأخرى المختلفة، كالمكوّن القبلي.
غير أن التعايش، أي تعايش، بما فيه الطائفي، لابد أن ينبني على أسسه الحديثة ورفض ما يعرقل ذلك، وبالذات رفض الصور النمطية الدينية الفقهية التي عادة ما تساهم في “تفجير” محاولات التعايش، وهي صور تاريخية لا تلتقي مع شروط التعايش الحديثة، صور تنتمي إلى ثقافة الإقصاء الماضوية المستندة إلى التولي والتبري الدينيين.
فالمشكلات الطائفية التي هيمنت وتهيمن على مجتمعنا، لا تكمن فحسب في ممارسات الشخوص، كياسر حبيب أو عثمان الخميس أو غيرهما، بل تتعلق بالنهج الفقهي التاريخي الإقصائي، الذي لا ينتمي في ثقافته وفي كلامه وفي قوانينه وفي طرحه الضيق حول التعايش، إلى الواقع المعاصر. فهذا النهج يعرض أطروحاته النقدية الهجومية المزعجة دون أن يمتلك مقومات قبول طرح الآخر المغاير.
وبعبارة أخرى، هل التعايش يتعارض مع المفاهيم الفقهية التاريخية؟ هل نستطيع أن نعيد قراءة بعض تلك المفاهيم، مثل مفهوم التولي والتبري، بحيث لا يؤدي ذلك إلى نزاعات تكون نتيجتها إقصاء الآخر؟ هل يمكن طرح تلك المفاهيم بصورة حديثة بحيث لا تؤدي إلى ضرب مبدأ التعايش؟
إن ضمان الحقوق المدنية لجميع المواطنين وبمختلف انتماءاتهم، هو الأساس الذي يجب أن ينبني عليه أي تعايش في الكويت، سواء أكان تعايشا طائفيا أم قبليا أم غيره. ومن الضرورة بمكان أن تكون تلك الحقوق قائمة على قبول النقد اللاذع للتاريخ الديني وللرموز الدينية. ومن الأهمية أيضا أن يخرج تشريع جديد من مجلس الأمة يستبدل التشريع القديم الذي يحث على معاقبة من ينتقد أو يتعرض للصحابة ولآل البيت وللرموز الدينية.
وليكن القضاء هو الجهة التي يلجأ إليها الجميع لمواجهة أي خطاب يشتمّ منه رائحة الكراهية، الدينية وغير الدينية، ومواجهة أي محاولات تهدف إلى إقصاء الآخر المختلف وإلغائه. إن ذلك في تقديري يعتبر أحد المخارج الاستراتيجية التي قد تقفز بالمجتمع الكويتي قفزات مدنية مهمة.
ولا يمكن التطرق إلى احترام الرأي والرأي الآخر إلا بتقديم تنازلات فقهية ومفاهيمية واجتماعية رئيسية تساهم في تحفيز مفهوم التعايش الطائفي. أو، القبول بالحلول الحكومية الضعيفة، التي إما أنها تستهدف في الدرجة الأولى التعدي على الحريات تحت عنوان المحافظة على الوحدة الوطنية، أو تختار الحلول التي تحقق لها مصالحها السياسية، أو تفضّل تأجيل الحلول باعتماد سياسة “الترضية”، فيما كرة الثلج الطائفية الإقصائية تكبر وتكبر لتهدد بهدم اليسير مما تحقق من طموحات مدنية.
إن من الخطورة بمكان على الأمن والسلم الاجتماعي وعلى مستقبل التعايش في ظل النظام الديموقراطي في الكويت، أن تختار الحكومة حلولا للأزمات الطائفية تكون نتيجتها إحساس إحدى الطوائف – وبالذات الطائفة الأصغر – بأنها تعرضت لاضطهاد. خاصة وأن الطائفة الأصغر – أي الشيعة – تحمل مخزونا ثقافيا تاريخيا يساهم في إبرازها باستمرار بأنها “ضحية”، وهو ما يساهم في الإيحاء لدى الطائفة الأكبر بأنها لابد أن “تهيمن” على شؤون المجتمع، الأمر الذي سيؤدي إلى فرز طائفي مقيت تكون إحدى نتائجه سعي الطائفة الأصغر “الضحية” إلى الانتقام لمواقفها. وقد حدث في العراق ما يشبه ذلك، حينما انتقمت الأقلية السنية من مواقف الأغلبية الشيعية، بسبب إحساس الأولى بأنها مضطهدة وحقوقها مهضومة، مما أثر على الأمن والسلم وعلى استقرار النظام الديموقراطي، وساهم في ضرب التعايش الاجتماعي.
إنْ لم تكن مواقف الحكومة الكويتية “حكيمة” في معالجة الأزمات الطائفية – وليس فقط الإشارة إلى التساؤل بأن هل موقفها في سحب الجنسية من ياسر حبيب قانوني أم غير قانوني؟ – فإن ذلك سيساهم في “تأصيل” التنافر الطائفي بالمجتمع بدلا من المساهمة في وضع الخطط للتعايش الطائفي ووضع الحلول لمعالجة مشكلاتها وعلى رأسها مشكلة الإقصاء. فأي خطط أو حلول لابد أن تنتمي إلى “إصلاحات” تدريجية سياسية واجتماعية وقانونية تصب في النهاية في تطوير الدولة المدنية والمجتمع العصري. لكن الموقف الحكومي، بل والبرلماني والحزبي والمؤسسي أيضا، غير معني إلا بالسكوت أو بتبني معالجات تحقق حلولا مؤقتة تخدم مصالح ضيقة.
إن الخوف كل الخوف بشأن الموقف الحكومي “غير الحكيم” والضعيف، هو أنه قد يساهم في تقوية النزعة الطائفية الإقصائية، والتي من شأنها أن تحدد هي العلاجات للمشاكل الطائفية، بسبب أن الحكومة قبلت أن يغيب منطقها الإداري العلماني المساهم في التعايش، وهو ما قد يستتبعه إضعاف المفاهيم التي تحث على التعايش مثل مفهوم المواطنة.
كاتب كويتي
ssultann@hotmail.com