شبه البعض سقوط نظام الرئيس محمد حسني مبارك في مصر بسقوط حائط برلين. آخرون شبهوه بسقوط أنظمة دول الستار الحديدي في أوروبا الشرقية في أواخر الثمانينات. لكننا في هذه العجالة سوف نقارن ما حدث مؤخرا في مصر بماحدث في عام 1998 في إندونيسيا، خصوصا وأن هناك ثمة أوجه شبه وأوجه إختلاف ما بين الثورتين المصرية والإندونيسية، ونظامي الرئيسين السابقين مبارك وسوهارتو.
كان مجيء مبارك إلى سدة الحكم بطريق الصدفة المحضة، ذلك أن الكثيرين قبل عام 1981 لم يتوقعوا حدوثه قائلين أن إختيار الرئيس المصري الأسبق أنور السادات لمبارك كنائب له لم يكن إلا لكسب ولاء القوات المسلحة المصرية لنظام حكمه، ومضيفين أنه مجرد مسألة وقت قبل أن يختار السادات شخصية أخرى لخلافته. غير أن حادثة المنصة المعروفة في أكتوبر 1981 التي أبعدت السادات عن المشهد السياسي إلى الأبد عجلت في تولي مبارك للحكم وتثبيته في سدة الرئاسة.
وبالمثل، فلولا الإنقلاب الشيوعي المزعوم في إندونيسيا في عام 1965، وما رافقه من مقتل كبار جنرالات الجيش، وما تلاه من شائعات حول تورط رئيس البلاد نفسه فيه، لما تم أبعاد أحمد سوكارنو عن سدة الرئاسة لصالح ضابط مغمور من ذوي المؤهلات العلمية والعسكرية المتواضعة هو أحمد سوهارتو الذي منح نفسه رتبة “جنرال” وأمسك بزمام الأمور بقبضة حديدية لأكثر من ثلاثة عقود متواصلة.
من ناحية أخرى، مثل مبدأ التحالف القوي مع واشنطون ودول الغرب عموما، والتماهي مع إستراتيجياتها الدولية والإقليمية حجر الزاوية في سياسات جاكرتا والقاهرة الخارجية في ظل عهدي سوهارتو ومبارك، بل أن هذا التحالف هو ما شجع الأول على غزو تيمور الشرقية وضمها بالقوة لإندونيسيا، ورتب للثاني القيام بلعب دور إقليمي فعال في الشرق الأوسط.
وإذا كان يحسب لمبارك أنه نفض يديه من سياسات المغامرات والتدخل في الشئون الداخلية للدول الشقيقة لمصر على نحو خالف به ما كان سائدا في عهد الرئيس الأسبق جمال عبدالناصر تارة تحت يافطة مقاومة الإمبريالية، وتارة أخرى تحت شعارإسقاط الأنظمة العربية الرجعية، وأرسى سياسات داخلية تنموية حسنـّت نسبيا من موقع مصر الإقتصادي على الخارطة العالمية، وأمنت للبلاد إستقرارا طويلا، ومنحتها بنية تحتية جيدة إلى حد ما، فإنه يحسب لسوهارتو أنه تخلى هو الآخر عما كان سائدا زمن سلفه من سياسات المماحكة مع جارتيه الماليزية والسنغافورية، مركزا جهوده على التنمية الداخلية التي وضعت إندونيسيا في إحدى الفترات في مصاف دول النمور الآسيوية. لكن على العكس من مبارك، الذي إقترنت سياساته تلك بفسحة من حرية القول والتعبير وتكوين التنظيمات السياسية والأهلية لم يعرفها المصريون منذ سقوط النظام الملكي في 23 يوليو 1952 ، أخرس سوهارتو كل صوت منتقد لنظامه أو حزبه أو عائلته أو بطانته، ووضع أصحابه في غياهب السجون.
وهكذا تمثل الإختلاف الجوهري ما بين مبارك وسوهارتو في أن الأول لم يتعامل قط بقسوة وبطش مع خصومه في الداخل أو الخارج من أفراد أو دول، بمن فيهم الجهات التي كانت وراء حادثة إغتياله الفاشلة في أديس أبابا، وبعبارة أخرى لم يكن مبارك قط دمويا كصدام حسين أو جعفر النميري أو زعماء عرب وعالمثالثيين آخرين في تعامله مع خصومه السياسيين، بينما كان سوهارتو – رغم بشاشته ووجهه الطفولي – شرسا وعدوانيا وميالا إلى الإقتصاص العنيف من خصومه، بدليل مسئوليته عن مقتل نحو نصف مليون إندونيسي شيوعي ونصف مليون آخر من أبناء تيمور الشرقية.
إن الثورة التي قادها الإندونيسيون ضد ديكتاتورية وعنجهية سوهارتو كانت بقيادة الشباب من طلبة الجامعات ومن في حكمهم من قادة المجتمع المدني غير المسيسين الذين إستلهموا الكثير من مفردات وأساليب ثورة “قوة الشعب” الفلبينية ضد ديكتاتورية “فرديناند ماركوس”، مستخدمين كل المتاح من وسائل الإتصالات الحديثة ووسائط التواصل الإجتماعي. وهذا هو نفسه الذي حدث في مصر. فالشباب هم الذين قادوا الثورة مستلهمين تجربة ثورة الياسمين التونسية، ومعتمدين على وسائط الإتصال الجماهيري الحديثة. وهناك متشابه ومشترك آخر، لابد من الإشارة إليه في هذا السياق هو دور الجيشين المصري والإندونيسي اللذين إنحازا إلى الجماهير المتطلعة إلى التغيير، ولعبا دور الحامي لها، غير عابئين بما قدم لهما من إغراءات أو ما مورس ضدهما من تهديدات من قبل رموز الحزب الوطني الحاكم في مصر، ونظيره الإندونيسي ممثلا في حزب “غولكار”.
وأخيرا نأتي إلى العامل المحوري المشترك الذي أدى إلى سقوط نظامي مبارك وسوهارتو، وهو الفساد، وترهل القيادات، وعدم القدرة على تقديم المبادرات الخلاقة والوجوه القيادية الجديدة حسنة السمعة، فسوهارتو ظل يحكم لعقود طويلة، ويجدد لنفسه الفترة تلو الأخرى بمباركة الحزب الذي أسسه وترأسه بنفسه وأدخل فيه مجموعة كبيرة من رجال الأعمال الشرهين الذين ظلوا يزورون الإنتخابات البرلمانية، ويرهبون منافسيهم كي يضمنوا الفوز والنجاة من المحاسبة. وسوهارتو هو الذي أطلق أيادي ولديه وبناته الثلاث وأصهاره وصديقه المقرب “بوب حسن” للإستحواذ على كل الصفقات والمشاريع في مجالات الإعلام المرئي والإتصالات والسياحة والطيران والنفط والتعدين والإنشاءات والتصدير والغابات ومصائد الأسماك حتى صار كل واحد منهم يجلس على ثروات خيالية في بلد جل سكانه يعيشون تحت خط الفقر.
ورغم أنه من الظلم مقارنة نظام مبارك بنظام سوهارتو في هذا الشق تحديدا ، فإنه مما لم يعد سرا أن ما عجل في سقوط الأول هو الفساد الذي لازم رموز الحزب الوطني الحاكم وأنصاره من وزراء وقياديين ورجال أعمال. فأساؤوا بذلك إلى النظام وشوهوا صورة رأسه أمام الجماهير التي كانت إلى وقت قريب تكن له الحب والإحترام لدوره في إنتصار أكتوبر المجيد، بدليل الأعداد الغفيرة التي سارت إلى مطار القاهرة لتهنئته بنجاته من محاولة الإغتيال المذكورة آنفا.
الشيء الآخر هو أن كلا الزعيمين حاولا في أيامهما الأخيرة تقديم التنازلات على أمل الإستمرار في الحكم، مذكرين الجماهير بأدورهما السابقة لجهة حماية البلاد من الأخطار الخارجية. غير أن صوت الجماهير وطموحاتها كانت أقوى من أن تـُطمس.
كل ما نتمناه الآن هو ألا تصاب مصر بما أصيبت به أندونيسيا بعيد رحيل سوهارتو من فوضى وإختلال أمني ولا إستقرار طويل. ذلك أن التاريخ العربي المعاصر أثبت أن للتغيير أثمان مكلفة على الدوام.
*باحث ومحاضر أكاديمي في الشأن الآسيوي من البحرين
elmadani@batelco.com.bh