شهر رمضان المبارك «يتطور» تلفزيونياً، سنة بعد أخرى. ومع هذا «التطور» تتضاعف كمية المسلسلات والمقابلات ومواعظ الدعاة التلفزيونيين. الأولى، المسلسلات، شارفت على المئة. الثانية شبه تابعة للأولى، كما سنرى. والثالثة، أي مواعظ الدعاة، على طريق السابقتين. وكل هذا «التطور» قائم على نظام للنجومية، هو الذي يحدّد شروطه؛ وذلك بإسم تسلية الصائم اثناء صيامه وبعد افطاره. فشهر رمضان في قبضة الصورة التلفزيونية ونظام نجوميتها.
لا حاجة لتكرار ملاحظة التناقض الصارخ القائم بين الكم والنوع في مادة التسلية الرمضانية. أوضاع السوق الاستثمارية «الفنية»، وطبيعة الاوضاع السياسية المرجرجة، تفسّر هذا التناقض قليلا. ثم معطوف عليهما نوعية العلاقة التي تقيمها النجومية مع الشهر الفضيل، الشبيهة بنوعية السلطة وطبيعتها. وليس المقصود هنا السلطة السياسية الرسمية فحسب؛ بل كل انواع السلطات، وخصوصا الفنية منها. انها حالة تعايش طبيعية بين التردّي الفني والجمالي وبين الرقابة والتسلّط.
نجوم الشاشة «الكبار»، أي الابطال الحصريون للمسلسلات، هم كما السلطة المديدة: لا يتزحزحون عن «مواقعهم» بالرغم من أضرار بقائهم. خمسة منهم وصلوا الى عمر الاجداد. ومع ذلك تراهم يتربّعون على عرش الغرام الصبياني وتعدّد الزوجات. مصرّون على ازاحة الشباب والشابات الى الهامش، الى البطولة «الثانوية»، المنطفئة… عن الدور الذي يضجّ به اعمار هؤلاء الشبان الحقيقية. الرجال من بينهم لا ينظرون الى مدى ترهّلهم. ومع ذلك فهم «الحبيبة» رقم 1 في كل المسلسلات. النساء من السوبر نجمات اوضاعهن اصعب. هبة «شبابهن» دائما أنقصْ. واذا افلح التنحيف والتجديد والشدّ بإنقاص بعض سنوات اعمارهن، فهو لا يخفي إنخفاض تعابير وجوههن. ويمكنك القول انه كلما دامت النجمة في عرش البطولة المطلقة أطول انخفضت كفاءتها التعبيرية، أي اساس مهنتها!
ثمة صفة اخلاقية غائبة، هي التواضع، تلقي ضؤاً على طبيعة هذه السلطة. كلما كانت هذه الاخيرة متواضعة، قلّ تفرّدها وديمومتها. والعكس صحيح ايضاً: فكلما اغترّت بنفسها، دام استشراسها للبقاء في القمة. النرجسية من الدرجة الثالثة عماد سلطة النجوم الابدية… كما هو حاصل في السياسة. لا يقبل النجم دورا «ثانويا» بعدما كان رئيسا لكل الادوار، الا على جثته، أي بعد وفاته. هذه الحميمية بين السلطتين النجومية والسياسية ليست رمزية فحسب. انها واقعية ايضا. النجوم يلجأون الى قيادات الحزب الحاكم واذا لم يفلحوا، فإلى لجنة السياسات (جمال مبارك) من اجل الفوز بشاشة رمضان او بمواعيد الذروة.
لا يكتفي النجوم بذلك. بل يخرجون علينا ايضا عبر مقابلات مختلفة يديرها احيانا مذيعون معتمدون، واحيانا اخرى نجوم مثلهم في التمثيل، لم يتسن لهم الظهور في شاشة رمضان هذا العام (او لم يظهروا بما يكفي). فيما على الجانب الآخر من المقْلب، ينتقل مذيعون ومذيعات للتمثيل في المسلسلات… بحيث لو أضعتَ واحدهم في قناة فسرعان ما تجده في اخرى… وهكذا. هذا التبادل في الظهور يكاد يخفي تواطوءاً عاما من اجل تكريس هذه النوعية تحديدا من النجومية. فالنجم اذا سئل عن «دوره»، او «بطولته» في المسلسل، يكاد يجيب وكأنه هو مؤلف العمل كله، هو معدّه ومخرجه… لا يجيب عن السؤال بل «يفتي» فيه. يكاد يعرف كل شيء تقريباً. هكذا استطاع نور الشريف مثلا، منذ ثلاث سنوات، ان يكرس دراميا وواقعيا تعدد الزوجات بعدما قام ببطولة مسلسلات «الحاج متولي»؛ وكان رده على الانتقادات وقتها بأن افتى بأن التعدد من «سنن الطبيعة» لأن «النساء اكثر عددا من الرجال». فكرّت المسبحة. وكان تعدد الزوجات من نصيب تسعة «ابطال» المسلسلات على الاقل.
شاشة رمضان ايضا عطّلت الفن والاخلاق الدينية عندما نفخت فيهما روح المال والبزنس. «الفن» الدرامي يدر الملايين على ابطال المسلسلات وابطال المقابلات (احدهم نال 200 الف دولار على ظهوره في احداها) ناهيك عن الآلاف على الدعاة الدينيين. وحساب الاعلانات وحده يعطيك فكرة: الاتفاق بين شركات الاعلان والتلفزيون الأرضي والفضائي ان تكون الساعة بخمسة ملايين جنيه. تضاف ربع ساعة على الحلقة الواحدة. وثمن النصف دقيقة 40 الف جنيه…
وبما ان الشاشة لا تحسب لغير هذا الحساب، أي حساب الربح والخسارة، فقد اختفت ظاهرة البطلات المحجبات. لم تلاق اقبالا. تجربتهن كانت فاشلة. النجمة الوحيدة المتبقية (منى عبد الغني) تحولت الى المسلسلات الدينية (الامام الشافعي). نجمة محجبة اخرى خلعت الحجاب (عبير صبري) بعدما خاب ظنها: كانت تقول وهي محجبة بان السفور سوف يعيدها الى النجومية. لكن الهجمة المنتظرة لم تحصل… الحجاب هذه السنة توزع بين «التقليدي» وبين الدرامي (إثر ترمّل او اغتصاب)، بعيداً عن صخب العام الماضي. والعكس تماما حصل: الطلب على الممثلات الراقصات ازداد. فانهالت العروض على فيفي عبده ودينا ولوسي… فضلا عن نجوى فؤاد. بل الممثلات غير الراقصات تحولن بدورهن الى الرقص… وهذا قياس لمدى ترجّح وضع الحجاب، بين الواقع والافتراض…
خلقت شاشة رمضان على هامشها اداواراً ومهاترات قابلة للانطفاء السريع… مع نهاية الشهر الفضيل. الحساسية السورية المصرية الخليجية. الغيرة والمنافسة ونفيهما وإعادة اشعالهما. الملف النووي المصري. او ثورة ابن اخ عثمان احمد عثمان على ما افترض أن مسلسل «الدالي» يجسد حياة عمه، وظهوره الفخيم على شاشة رمضان محتجّاً ومصراً على ان الدالي هو عمه…
لكن اكثر ردود الفعل لفتاً للإنتباه كان ذاك الذي دار حول مسلسل «الملك فاروق». والذي يصوره بعكس ما صورته ثورة الضباط الاحرار وملاحقها. الوجه الانساني والوجودي للملك لم يثر غضب المصريين بل تعاطفهم. كاتبة المسلسل د. لميس جابر قالت لاحدى الصحف بانها كتبت عام 1996 ست حلقات من المسلسل على سبيل التمهيد، رفضتها الرقابة؛ والسبب ان السيناريو تضمن مقولة سعد زغلول «من حق الطباخ ان ينافس صاحب الدولة». لكن الاهواء اختلفت الآن: الذين كتبوا من النقاد ومن غيرهم عن المسلسل أبدوا اسفهم وعبروا عن الحزن والاحساس بالذنب بسبب الصورة النقيض التي لصقت في ذهنهم عن فاروق طوال عقود من الزمن. فالجو النفسي السياسي ملائم للحنين الى ذاك الماضي.
وكما لكل حالة فتوى، فان حالة الشاشة الرمضانية لها ايضا فتواها. فتوى جديدة من الازهر الشريف تلغي الدراما تماما: اذ تؤكد ان زواج الفنان من الفنانة في عمل فني هو زواج شرعي. أي ان سوسن بدر التي تزوجت نور الشريف في «الدالي»، وعادت فتزوجت عمر الشريف في «حنان وحنين»، خرجت عن قواعد الدين بتعدّدها للأزواج!
قد تكون حالة رمضاننا التلفزيونية هي طاقتنا الوحيدة، تعبيرنا الوحيد عما نحن عليه في هذا الزمن. وقد يكون العكس: أي ما نحن عليه الآن حوّل رمضاننا الى ذاك المهرجان الاستهلاكي الضخم للنجوم من بين الاستهلاكات الاخرى… خصوصا الأكل… ما لا يغني ولا يسمن من جوع. حالة من هدر الوقت والمال والفن. لا روحانية فيها حتى مع الدعاة، الحاسِبين لساعاتهم ولأجرهم. إنها حالة تفريغ الروح من الروح…
dalal_el_bizri@hotmail.com
الحياة