فيما كانت إحدى القبائل الباكستانية المتشددة تعاقب إحدى نسائها بالقتل رجما بسبب غنائها وتصفيقها بين قريناتها في حفل زواج غير مختلط، كان مئات الأئمة الهنود المسلمين يجتمعون في العاصمة القديمة “دلهي” تحت مظلة “جماعة علماء الهند”، وهي واحدة من المنظمات الإسلامية الهندية العريقة، للدفع بإتجاه إتخاذ خطوات فعالة لمنح النساء المسلمات الهنديات المزيد من حقوقهن المسلوبة في التعليم والميراث (خصوصا في حالة وراثة الأرض الزراعية)، والتصدي للكثير من التقاليد الاجتماعية السائدة المهينة لكرامة المرأة مثل إساءة معاملة الزوج لها، وتطليقها عشوائيا، ومنعها من اللحاق بركب التعليم في المدارس والجامعات الحديثة المختلطة، أو منعها من إمتهان بعض الوظائف.
هاتان الواقعتان اللتان لم تفصلهما سوى أيام معدودة تصلحان وحدهما للتدليل على البون الشاسع ما بين نهج مسلمي البلدين التوأمين في ما خص التسامح والحقوق وحرية الإختيار والإلتزام بضوابط القانون.
لقد كتبنا من قبل عن ظاهرة التسامح التي يتميز بها المسلمون الهنود بصفة عامة، خلافا لما يسود طباع طائفة كبيرة من المسلمين الباكستانيين، ولا سيما أبناء القبائل منهم والقاطنون في الأقاليم الجبلية النائية، وقلنا أن أسبابها تعود لعوامل تربوية وثقافية وتاريخية متشابكة. فالبيئة التربوية السائدة في الهند الحديثة هي الإبنة الشرعية للدولة الديمقراطية العلمانية المدنية التي أسسها “جواهرلال نهرو” ورفاقه من أبطال الإستقلال، بل هي إمتداد لما رسخه المهاتما غاندي وأتباعه في المجتمع الهندي منذ بدايات القرن العشرين حينما بشـــّر بالنهج اللاعنفي في مقاومة المستعمر الأجنبي. ومثل هذا النهج كان بالامكان ان ينتقل إلى باكستان مع من هجروا مساقط رؤوسهم في الهند البريطانية جريا وراء سراب دولة الأطهار المسلمة (باكستان) بقيادة “القائد الأعظم محمد علي جناح”، لولا ما إصطبغ به تاريخ الأخيرة من مظاهر القمع والديكتاتورية والتعسف والعنف واللاإستقرار على أيدي حكوماتها العسكرية المتتالية بعد رحيل مؤسسها جناح في عام 1948 . ذلك ان البيئة المتوترة والمتشظية سياسيا وإجتماعيا وجهويا لا تخلق سوى المتوترين الساعين إلى التغيير بإستخدام وسائل عنيفة.
من جانب آخر فإن معظم من هاجر من الهند البريطانية في عام 1947 إلى الأراضي التي صارت اليوم تـُعرف بإسم باكستان كانوا من أبناء شمال الهند وغربها أي من الذين ورثوا النزعة الثأرية والإنتقامية، والأفكار العنيفة غير المتسامحة، من آبائهم وجدودهم ممن تعرضت أقاليمهم وأراضيهم وممتلكاتهم لموجات من الغزوات الحربية على أيدي المغول وغيرهم، بمعنى أن دخولهم في الإسلام كان نتاج حروب وفتوحات دموية. بينما لم تشهد الهند الوسطى والسفلى، وخصوصا ولاياتها الجنوبية المكتظة بالمسلمين مثل كيرالا (حيث سواحل مليبار) ، وأندرا براديش (حيث تقع حيدر آباد) وكارناتاكا (حيث توجد منغلور وبنغلور) تلك النزعة لأن أبناءها تشربوا مفاهيم الإسلام وآمنوا بها من خلال فتوحات سلمية قادها التجار والبحارة المسلمون القادمون من شبه الجزيرة العربية ممن إستخدموا المصاهرة، والموعظة والقدوة الحسنة في نشر عقيدتهم في تلك الديار، وليس الوسائل العنيفة. وبحسب علماء الإجتماع السياسي فإن الأقوام والجماعات تتأثر بما مر عليها من أحداث وعواصف، بل تصطبغ أفكارها وسلوكياتها بما حملته تلك الأحداث ونشرته من نزعات وتوجهات ومشاهد.
ويزعم صديقنا المفكر الإسلامي اللبناني المعروف “رضوان السيد” (الشرق الأوسط 11/11/2011 ) أن باكستان شهدت نهجا إصلاحيا هيمنت عليها فكرة التسامح الديني والإبتعاد عن الغلو والتشدد، قاده الفيلسوف “محمد إقبال” صاحب تجديد الفكر الديني، لكنها إنتكست سريعا بسبب حركة الخلافة من جهة، وإنفصال الرابطة الإسلامية بقيادة جناح عن حزب المؤتمر الهندي بقيادة غاندي من جهة أخرى، ثم لاحقا بسبب ظهور الجماعة الإسلامية بقيادة “أبو الأعلى المودودي” في عام 1941 . ويضيف “السيد” أنه في تلك اللحظة التاريخية الفاصلة بدأ الصراع الحقيقي ما بين دعاة الإصلاح والتجديد والتسامح ودعاة التطرف والتشدد والإنغلاق في باكستان، الأمر الذي يشبه كثيرا المشهدين العربيين في المشرق والمغرب حيث تصارع التقليديون والإصلاحيون على مسائل كثيرة مثل الإجتهاد، وسفور المرأة، والموقف من الآخر المختلف عقيديا، والتوسل إلى الصالحين، وزيارة القبور، وغيرها إلى أن ظهرت مدرسة الإمام محمد عبده التي هدفت للجمع ما بين طهورية السلفية والنهضوية الحديثة، قبل أن يتكسر هذا الاتجاه تحت وطاة الحرب العالمية الأولى، وإلغاء دولة الخلافة، والتدخل الإستعماري، وهي عوامل دفعت مجتمعة إلى السطح وأبرزت جماعات وحركات دينية متشددة مثل حركة المودودي في باكستان، وتنظيم الإخوان المسلمين في مصر.
وفي سياق الحديث عن “جماعة علماء الهند” لا بد من التنوية ان هذه الجماعة التي يعود تاريخ تاسيسها إلى عام 1919 على يد “معظم ساجد قاضي حسين احمد دهلوي” تفتخر بجذورها الهندية وصلتها بالزعيم الوطني “المهاتما غاندي” وفلسفته اللاعنفية، ناهيك عن إفتخارها بموقفها الرافض في عام 1947 لتقسيم شبه القارة الهندية على أساس ديني. وتدير الجماعة اليوم عددا كبيرا من المدارس الإسلامية في البلاد، وتعقد مؤتمرا عاما كل ثلاث سنوات لبحث شئون مسلمي الهند وشجونهم والدعوة إلى إصلاح أحوالهم سلميا من خلال الضغط على الحكومة الإتحادية المركزية في نيودلهي. إلى ذلك، وطبقا لما ورد على لسان أحد قادتها (محمود مدني) فإن الجماعة تعمل على تشكيل حراك من أجل توعية الإنسان الهندي المسلم بحقوقه الدستورية، وتوعيته بحقوق المرأة وفق ما كفله لها الإسلام، وتوعيته بضرورة نبذ الكثير من التقاليد الإجتماعية البالية المتوارثة من تلك التي تحول دون قيامه أو قيام شريكته بدور أكبر في تقدم المجتمعات التي يعيش فيها، ولا سيما تلك التقاليد الشكلية الخاصة بالمظهر الخارجي.
غير أن البعض يأخذ على دفاع الجماعة عن حقوق المرأة الهندية المسلمة أن الأخيرة مغيبة تماما عن قراراتها، فهي مثلا ليس لها أدنى تمثيل في كوادر الجماعة وهيئاتها، وكل ما يتعلق بشأنها يتخذه الذكور بالنيابة عنها. وفي هذا السياق تقول إحدى الناشطات الهنديات المسلمات “لو كانت الجماعة جادة فعلا في ملامسة مشاكلنا لسعت لأن يكون لنا تمثيل في هيئاتها، ولما إستمرت بالأخذ بمبدأ التسلط الذكوري، وتفسير معاني القرآن حول حقوق المرأة تفسيرا يخدم أغراضها”. لكن على الرغم من هذه النقيصة، هناك من الأصوات النسائية التي إرتفعت لتدعم الجماعة قائلة أن تفاعلها مع مشكلات الإناث المسلمات – إنْ كان سيجلب خيرا لهن – فهو أمر محمود، وجدير بالإحترام والدعم.
ونختتم بالتذكير بأن البيئة التعليمية والتربوية، التي أتينا على ذكرها في بداية المقال كعامل من عوامل تميز المجتمع الإسلامي في الهند بالتسامح بصفة عامة، ما كانت لتخرج أجيالا من المسلمين وغيرهم مشبعين بقيم التسامح والعنف وتغليب الصالح العام على المصالح الجهوية والطائفية الضيقة لولا وجود الكوادر التعليمية المؤهلة والواعية بقيم المواطنة والدفاع عن ديمقراطية البلاد ومؤسساتها الدستورية العلمانية. فالمناهج التربوية وحدها لن تفعل شيئا مؤثرا إنْ لم تكن مدعومة بمعلمين أكفاء لم تنخر الطائفية والعنصرية البغيضتان نفوسهم، ولم تزعزع إيمانهم بالوطن الواحد الجامع ومؤسساته ونظامه الدستوري.
*باحث ومحاضر أكاديمي متخصص في الشأن الآسيوي من البحرين
elmadani@batelco.com.bh