الحقيقة لا تنتصر بقوة السلاح، او بالانتصار المادي، بل بانتشارها الانساني وتقبلها في بيئات اجتماعية وثقافية متنوعة، وليس فرضا. بل لأنّ الحقيقة تخاطب تطلعات الآخرين اليها، وتلبي حاجة ذاتية لكل انسان. هكذا نجحت ثورة الامام الحسين في ان تحقق الانتصار، ليس في المجال الاسلامي فحسب بل على المدى الإنساني، رغم الانكسار المادي الذي شهدته كربلاء للحسين واهل بيته وصحبه قبل نحو 14 قرناً. انتصرت حقيقة الحسين الانسانية وعدالة قضيته وهزمت قوة يزيد بن معاوية رغم انتصاره العسكري. انتصرت لأن القيم التي رفعتها ثورة كربلاء إخترقت الزمن وتسربت الى الوجدان الانساني عموما، بمعزل عن الانتماء الديني او غير الديني.
هكذا هي سير الاولياء الصالحين وقبلهم الانبياء، الذين انتصروا عبر القيم التي زرعوها، لأن معظمهم لم يحقق انتصارا ماديا او عسكريا في حياته، بقدر ما نجحوا في بذر الأخلاق والافكار التي خاطبت التطلعات العميقة للانسان في اي زمان ومكان. وهذه بالخصوص كانت حال اهل بيت النبي محمد، الذين كانت نهاياتهم هزائم متتالية، وفقط هذا اذا كان معيار الهزيمة هو الهزيمة العسكرية او المادية. كلهم اما قتل او جرى تسميمه. لكنهم فرضوا احتراما وتقديرا واستلهاما لسيرهم ونتاجهم الانساني امتد في الزمان والمكان من دون قوة مادية او عسكرية… بل بقوة الحقيقة فقط.
ولعل نموذج عيسى بن مريم مثال صارخ على قدرة الحقيقة ان تنتصر امام قوة السلاح وجبروت السلطان. ولعل النبي محمد (صلعم) اختصر دوره ورسالة الاسلام كلها بكلمات بسيطة لا تحتاج الى جهابذة المفسرين او فلاسفة علم الكلام : “انما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق”.
وفي كل مكان وزمان كان من يستحضر الرمز الديني ويستثمره في المزيد من احداث الشروخ المذهبية والدينية، وفي محاولة تغطية الجرائم السياسية والاجتماعية والجنائية، واضفاء بعد القداسة الدينية والمذهبية على مواقف وسلوكيات سياسية واجتماعية لا تمت بصلة الى القيم التي دعت اليها الرسالات السماوية.
الثابت أنّ زهو القوة المادية لا يمكن ان يكون معيار الحقيقة. الحقيقة الدينية السياسية المدّعاة اليوم، فقدت جاذبيتها الانسانية. هل يتساءل اولئك الذين تطلعوا الى ثورة دينية أو غير دينية قديماً أو حديثاً، لماذا انتهت إلى فشل؟
ومتى كانت تقع الأفكار والأحزاب وتغرق: أليس حين يصير أهلها أعداءها؟ هكذا حصل في كلّ ثورة على مرّ التاريخ. أهل الثورة، أبناؤها، أو أحفادها، أو أحفاد أحفادها، كانوا يثورون عليها، لأنّها تبدأ في خنقهم.
كلّ ثورة أو فكرة أو عقيدة أو حزب أو طائفة إنتهت حين قرّرت أنّها هي وحدها على حقّ وأنّ التاريخ انتهى، أو سينتهي، عند تجربتها. الأكثر إخفاقا هي الأنظمة البوليسية: الإتحاد السوفياتي نموذجا. ربما هو الحضارة الأقصر عمرا في تاريخ البشرية المعروف. لم يدم قرنا واحدا حتّى.
ودائما لحظة السقوط كان المهزومون، بأفعالهم أولا وليس بأعدائهم، يتحدّثون عن “مؤامرة”. كانوا يتوسّعون خارج الحدود قبل أن يقعوا. من روسيا إلى ألمانيا هتلر ثم بريطانيا وفرنسا في النصف الأول من القرن الأخير وصولا إلى اليوم.
كلّ فكرة أو عقيدة تحوّلت إلى جهاز، سقطت. الأجهزة تخترق وتقتل وتفجّر، لكنّ الأفكار تبقى حيّة. تموت الفكرة حين تصير رجلا أو حزبا. حين تتوقف عن كونها قيمة أخلاقية وتصير لحما ودما ومالا وسلاحا.
من يدّعي نسبا بتجربة رائدة تاريخيا، نبوية أو عقائدية أو أخلاقية، ومن يستلهم سير الأنبياء والمرسلين، لا يمكن أن يقتل بريئا. فـ”من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض، فكأنما قتل الناس جميعا”.
والناس، للمناسبة، لم يسكتوا يوما على من يقتل نفسا بغير حقّ. ولو تأخّر الناس، فإنّ الله يمهل ولا يهمل. ومن “قتل الناس جميعا” يعرف أن لا عزاء للقتيل ولا مفرّ للقاتل.
هذه أحكام “إلهية”.
alyalamine@gmail.com
البلد