يقول المفكر الفرنسي جان بول سارتر (ت 1980م): ((أينما حطّ الظلم رِحاله، كنّا نحن الكتّاب مسؤولين عنه)). وبذا لو اعتبرنا الكاتب “ضمير المجتمع” والكتابة “صورة الحياة”، لكان الدكتور أحمد البغدادي من بين العدد القليل جداً من الكتّاب الكويتيين والعرب المعاصرين الذين يصدق عليهم لقب الكاتب الملتزم وتصدق الكتابة الملتزمة بالحق والحقيقة على أعمالهم وأحوالهم، فهو أبرزهم وأرفعهم مكانة في نظر من طالع مؤلفاته وأطلع على أحواله وسيرته.
ويمكن اعتبار الدكتور البغدادي فارس الرأي والعمل وممن ينزلون إلى الساحة بكل ثقلهم، بل ويعتبر السكوت والجمود كفراناً للنعمة وفي حين كان الجميع ينشدون السلامة والعافية عند “أعلافهم” ومصالحهم المادية، نراه يقول على لسان ميرزا أسد الله بطل رائعة الكاتب الإيراني جلال آل أحمد (1923- 1969) المعنونة باسم ((نون والقلم)) :
((… ألفيت أن هذا الجسد لو لم يكن مديناً، لكل هذه الأنعم التي يهدرها، لأمكن التنحّي جانباً بكل سهولة والاكتفاء بالتفرّج ونسج الأخيلة واللجوء إلى الشعر والعرفان. ولكن لا يمكن شكر كل هذه النعم بالسكون، هذا الهواء، هذه الصداقة، هذه الأنفاس، ابني حميد هذا، هذه السجادة التي حيكت أطرافها (إشارة إلى الأعمال الفنية الإبداعية، كالكتابة مثلاً) شكر كل واحدة من هذه النعم يجب أن يتم بالعمل لا بالسكون. السكون والسكوت ليس مكافأة لأي شيء)).
لقد ماثل الدكتور البغدادي الكاتبة النابغة جورج صاند (ت 1837م) في قولها: ((إنني أحترف الحرية))، فاختار الحرية وكان يكتب ويعمل لأجلها، لأجل حرية المستنيرين والمثقفين وحرية الكتابة والتعبير عن الرأي. ولأنه كان يرى نفسه مسؤولاً حيال المجتمع فقد كان يكافح وسط الساحة دوماً. ((الإنسان أمام مفترق طرق في كل لحظة: مفترق طرق الحق والباطل)).
خلال سنوات طويلة، وجد الدكتور البغدادي نفسه أمام مفترق هذه الطرق في لحظة من لحظات حياته؛ مفترق طرق “الحق” و”الباطل” – إن جاز الحديث عنهما وتحديدهما، وكان ينحاز إلى الحق والحقيقة دوماً بضمير يقظ لكاتب ينشد الحرية، ولا يضحي بهما لقاء المال والمنال والجاه والمناصب. وتعرض في هذا السبيل كسائر طلاّب الحق والحرية والصادعين بهما لشتى صفوف الألم والمرارة، إلاّ أنه فتح الأذرع للمرارات واستقبلها بكل شجاعة.
على هذا، ربما كان الكاتب الملتزم بالحق أو الكاتب الحقيقي، أقرب الناس إلى القديسين. لأنه يحمل بدوره رسالة كما يفعل القديسون، رسالة في حقوق الناس، وفي سبيل الصلاح والحقيقة والخير. لهذا لن يكون من الغريب أن يكتب أحدهم في وصف أحد الكتّاب أنه “كاتب ملهم”، يُلهم ما يكتب كما يُوحى لأنبياء الوحي.
في سنة 1957م قال المفكر والكاتب الروائي ألبير كامو (ت 1960م) في جامعة اوبسالا بمناسبة منحه جائزة نوبل: ((كتّاب اليوم يعون جيداً حقيقة أنهم إذا تحدثوا شُنّت ضدهم الهجمات النقدية وإذا تواضعوا وسكتوا، امتشق الجميع سيوف اللوم في وجوههم. في مثل هذه الحالة يفقد الكاتب الأمل في الاعتزال والانشغال بأفكاره وصوره الذهنية. في الزمن الماضي، كان التفرّد والاعتزال ممكناً على مرّ التاريخ. من لم يكن راغباً في تصديق أو تكذيب أحوال عصره، كان بمستطاعه الصمت أو التحدث عن أمور أخرى. أما اليوم حيث انقلبت كل الأشياء رأساً على عقب، اكتسب حتى الصمت معنى هائلاً (…) وأضحى كل فنان في عداد المجدّفين داخل سفينة عصره، رغم علمه بأنه لا يوجد هناك سوى حفنة من السجناء المصفدين بالأغلال، وأن السفينة لا تسير بالاتجاه الصحيح. أجل، كلنا وسط المحيط ، وعلى الفنان أيضاً شأنه شأن الآخرين، أن يجدّف من دون أن يستطيع الموت. لا يحق له الموت. عليه أن يواصل حياته ويسلك سبيل عمل إبداعي. أنه ليس بعمل سهل إطلاقاً. على الفنانين أن يتحسروا على الأزمنة المنصرمة)).
وكان في العالم الذي يساوي فيه (سارتر) و(كامو) بين رسالة الكاتب والفنان، وبين المسؤولية الضميرية والاجتماعية الهائلة، ويقولون ويرفعون مكانتها إلى درجة التضحية والاستشهاد، ويقولون أن على الفنانين التحسّر على دعة الأزمنة الغابرة، ولا يزال ثمة في أنحاء العالم كتّاب وفنانون يقبعون بدعة وراحة بال فرحين بأفكارهم وصورهم الذهنية التي يعتزون بها أشد الاعتزاز. ووسط مثل هؤلاء الكتّاب والفنانين الخاوين الجانحين إلى العافية، يرفع الدكتور أحمد البغدادي نداء رسالة الكاتب وضرورة تضحيته في سبيل الحرية والحق.
* باحث وكاتب كويتي
ayemh@yahoo.com
البغدادي.. الضمير والمستنير
مقال رصين جداً، لشخصية كبيرة جداً، ولا سيما أننا تعودنا عربياً على الاحتفاء بالشخصيات الإعلامية القريبة من السلطات فقط في حين أننا نهاجم المفكرين المحترمين أمثال الدكتور أحمد البغدادي . فشكراً له وشكراً للكاتب وشكراً للناشر