البعث الشيعي في سوريا (1919 – 2007): الأسدية : من التشيع إلى التشييع (1)

2

(لأن الموضوع الطائفي في سورية موضوع حسّاس، وردّاً على أسئلة الأصدقاء الذين سألوا عن “موقف الشفّاف” من المسألة الطائفية في سوريا، نكرّر أن “الشفّاف”، الذي يفخر بالعشرات من كتّابه “الشيعة”، ليس “رقيباً” على كتّابه وليس “حزباً” ليلتزم بكل حرف يُنشَر فيه. “الشفّاف” يعتقد أن النقاش الشفّاف أفضل من الهمس والأقاويل في الأماكن المقفلة. الدكتور عبد الرزّاق عيد يعبّر عن وجهة نظره، وباب الردود مفتوح كالعادة.

“الشفّاف”

*

في سياق البعث والانبعاث الشيعي الذي يقوده ملالي طهران، صدر مؤخرا عن المعهد الدولي للدراسات السورية كتاب: (البعث الشيعي في سورية 1919 – 2007)، دون ذكر مؤلفه أو مؤلفيه أو الإشارة إلى تأليفه، لكن المعهد يلفت انتباه القارئ – من خلال رسالة الشكر- الى أن “حركة العدالة والبناء ” هي التي رعته، وعملت على إخراجه الى النور لوضع الشعب السوري أمام معرفة علمية بما يجري في بلدهم، وينوه المعهد بأن هذه الدراسة تمت باستقلالية وشفافية نادرة تستحق عليها الحركة التحتية والتقدير.

إن هذه الإشارة من قبل المعهد الناشر للكتاب إلى دور حركة العدالة والبناء في اصدار الكتاب وبدون ذكر مؤلفيه، تضع القاريء ضمن إيحاء سياسي يحيل إلى مألوف المنتج التثقيفي السياسوي، أي كأن القاريء تجاه نص ايديولوجي سياسي يدخل في حيز النشاطات السياسية الحزبية البرنامجية التعبوية كما هو معهود ومألوف في الأدبيات السياسية العربية…غير أن القاريء منذ الصفحة الأولى في مقدمة الكتاب يجد نفسه حيال نص تؤطره رؤية بحثية تحليلية تهيكلها لغة وصفية بدون أهواء عقدية، أي اسلوبية سوسيو- سياسية بدون شحنات ذاتية مشاعرية في انحيازاتها الفكرية أو السياسية أو المذهبية.

إنه تجاه خطاب ذي اسلوبية علمية نادرة في مقاربة البحث والدراسة والتحليل التي ترعاها القوى السياسية عادة، مما يسجل للحركة نضجا مميزا في المشهد السياسي – الثقافي السوري.

إن اشكالية الكتاب المركزية تنصب على قضية النشاط التبشيري المتزايد في سوريا، والذي لايمكن فهمه إلا بالترابط بين المجال الديني والفضاء العام خلال زمن نظام الأسد الأب والإبن الوريث، وذلك لأن البحث والاحصائيات ستقود نص الكتاب الى اعتبار أن حالة التبشير الشيعي بمرحلتيه (التشيع والتشييع) ارتبطت بعهدي(الأب: التشيع- والابن : التشييع)، وذلك لأن المرحلة السابقة على البعث 1963 الممتدة في تاريخ سورية وصولا إلى قيام الكيان السوري كـ (دولة وطنية) سنة 1919، كانت المؤسسات الدينية وشرائح رجال الدين (العلماء) تتميز باستقلالية واضحة، ومن ثم علاقتها وتأثيرها في المجال السياسي مباشر – ونحن نفضل التعبير الذي ساقه نص الكتاب من قبل وهو العلاقة والتأثير بالفضاء العام – لدلالته الأكثر اتساعا ورحابة من حيث الحرية النسبية في صيغة الاستقلال لهذا القطاع عن الحاقه بجهاز الدولة الأمنية، كما سيحدث بعد انقلاب البعث سنة 1963 الذي سيؤسس في الحين ذاته لبعث التشييع، رغم إقدام حسني الزعيم 1949 على الغاء مؤسسة الوقف التي كانت تمنح هذه المؤسسات الدينية الاستقلال الاقتصادي.

إن عنوان الكتاب (البعث الشيعي) يومئ لنا بايحاءات دلالية تشير إلى أن (البعث الشيعي) كان المناظر الدلالي لنظام البعث (الثوري-القومي) وتلك إحدى مفارقاته وازدواجياته، حيث انتقل بالدولة الوطنية الى الدولة الأمنية التي تستند إلى الشرعية (الثورية/ التطييفية) في الآن ذاته أي بما سمي بـ(علونة) الجيش ومن ثم الأمن فالدولة، وهي الشرعية المسماة بالثورية القائمة على تطهير المجتمع من أية قوة معارضة أو مناهضة لما يسمى بـ “الثورة”، وكان في مقدمة مشروع التطهير هو المؤسسة الدينية (الرجعية) وفق الصياغات البعثية، وذلك بالتوازي مع قيام الدولة الشمولية: (القائد الواحد في دولة الحزب الواحد والرأي الواحد)…

ومن اللافت في هذا السياق التقاط نص الكتاب لهذا التحايث بين البعثين :القومي والطائفي في آن واحد، حيث أن عملية البعث القومي كانت مؤسسة على عملية بعث تطييفي (التحول الى استئثار طائفي) للجيش والحزب، رغم أنها لم تتمكن خلال ثماني سنوات من تطويع المؤسسة الدينية ورجال الدين، بل أدت إلى ازدياد نفوذهم في معارضة البعث، الذي يصح اعتمادا على معطيات التحليل التي يقدمها الكتاب، أن توصف حركية البعث :بوصفها حركية خطاب قومي لفظوي تتوازى-بل وتتوارى- على مستوى الممارسة مع حركية بعث (طائفي)، يتم من خلالها تطييف الجيش والحزب، فيما يوازيها حركة بعث شيعي داخل الطائفة العلوية ذاتها فيما سمي بـ(عودة الفرع إلى الأصل) أي عودة المذهب العلوي كفرع إلى المذهب الشيعي الأصل.

هذه المعارضة المتحدية كان على الأسد – بعد انقلابه 1970 – أن يواجهها فيما سمي بأزمة الاستفتاء على الدستور (تحديد دين رئيس الدولة أو دين الدولة)، إذ كان يرد عليها بمزيد من (التطييف)، من تطييف دولة البعث الى تطييف أجهزة الأمن ومراكز القرار…إلى أن حدث الانفجار الكبير في الفترة 1978 – 1982 حيث تم له ذلك من خلال الاستيلاء الاستيطاني النهائي للبلاد…
إذ بعد انتهاء أحداث الثمانينات، استتب له ما كان قد أنجزه دستوريا من اقصاء مؤسسات المجتمع المدني بما فيها المؤسسة الدينية عن التأثير في المجال السياسي، وذلك استنادا لسياسة الموافقات الأمنية، وبذلك استطاع الأسد ” تحقيق أقصى ما يمكن من الضبط الاجتماعي ” على حد تعبير خطاب الكتاب.

إن ميل النص في الكتاب إلى الاقتراب من موضوعية الخطاب، وتحيييد التحيزات المذهبية والدينية…. ومن ثم استناده الى مراجع يحث لدبلوماسيين أو كتاب وسياسيين غربيين (فان دام – باتريك سيل…الخ)، أدت الى نوع من الموضوعية (الفاترة) إن لم نقل الباردة في أحايين… فلا يمكن على سبيل المثال وصف نتائج أحداث الثمانينات بـ ((الضبط الاجتماعي)، فهذا التعبير يتناسب مع مآلات الأنظمة الشمولية التي كانت تهيمن في أوربا الشرقية، لكنها الأنظمة التي لم يعرف عنها عمليات إبادة جماعية تجاه شعوبها… كما سيفعل وفعل نظام الأسد…

إن أهمية هذه الملاحظة لا تتأتى من ضرورة توخي إنتاج الصورة المطابقة للموضوع فحسب، بل تتأتى من ضرورة ما تمليه المسؤولية السياسية والأخلاقية والتاريخية التي تتطلب إحياء الذاكرة الدائم بصورة الوحشية الهمجية للإبادة الجماعية التي بلغت عشرات الآلاف من البشر وهدم الأحياء والمدن مما عز ويعز نظيره في عصرنا الحديث والراهن من حيث درجة التدمير الاجتماعي والخراب الإنساني، حيث بلغ حد إشاعة ثقافة الخوف في مفاصل المجتمع السوري وأحشائه درجة أنهها طالت النطف لتي لم تخلق على حد تعبير الشاعر…. وهذا ما نستشعره حتى اليوم في صورة خوف مرضي يطال المجتمع السوري بكامل شرائحه سلطة وشعبا صغيرا وكبيرا… الخ
وعلى هذا فإن الحفاظ على صورة البشاعة –وليس الضبط الاجتماعي- مما يدخل في المسؤولية المستقبلية القادمة للقضاء الوطني أو الدولي والعالمي حبن تؤون استحقاقاته وتؤون الإتاوات الشرعية للتاريخ…

يسمي الكتاب المرحلة اللاحقة لعملية ” الضبط الاجتماعي ” بمرحلة ” استراتيجية الاستئناس القائمة على ضبط شراكة المؤسسة الدينية مع المؤسسة السياسية في التأثير على المجال العام، وذلك من خلال جعل المؤسسة الدينية غير قادرة على اتخاذ قرار مستقل يخص الشأن العام، عبر اخضاعها في كل صغيرة وكبيرة لنظام الموافقات الأمنية عند القيام بأي نشاط خاص… وربما كان صدور الكتاب في بداية 2009 هو السبب في أنه لم يتح له أن يقدم مثالا ملموسا على تطرف الأجهزة الأمنية في ممارسة هذه التسلطية الشرسة والفاقعة من خلال لجوئها مؤخرا إلى توقيف واعتقال نجلي عائلة مفتي الاعتدال (كفتارو)، الذي رافق دوره معظم المرحلة الأسدية… لكن هذه الهجمة الأمنية ربما تعكس حالة الانتقال من (استراتيجية الاستئناس) في مرحلة الأسد الأب الى مرحلة “استراتيجية الإستلحاق ” في مرحلة الأسد الابن وفق توصيف خطاب الكتاب، وذلك كمعادل –بدوره- لحالة الانتقال من مرحلة التشيع الحذر في عهد الأب، إلى التشيع الطليق في عهد الابن، أي بلوغ المرحلة القصوى لفتح الأبواب أمام النشاط التبشيري الشيعي (الايراني) بلا حساب، كعنوان لمرحلة استلحاق نظام الابن الوريث نهائيا بإيران.

التشيع في الأصل انشقاق سياسي نشأ – كما هو معروف – بين الخليفة الرابع للمسلمين علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان الذي كان واليا على بلاد الشام في عهد الخليفتين الراشدين عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان، هذا الانشقاق السياسي الأرضي تم تصعيده سماويا ليصطبغ بنفحة من (الميث الغيبي)، عندما جعل من الإمامة مسألة وقف الهي محددة سلفا باللوح المحفوظ وبالأسماء من خلال الوحي والقرآن، وبهذا فان الإمامة ستصبح أصلا من أصول الدين شيعيا… ويغدو الأئمة الاثنى عشر الذين هم من نسل علي بن أبي طالب أئمة معصومين: أي يتمتعون بعصمة إلهية تترفع بهم عن بشريتهم إذ تسمو عن الأخطاء البشرية.

هذه المسحة الغيبية من المطلق الإلهي التي تخالط كينونة (الإمام علي) تم تصعيدها عقائديا إلى حد الأسطرة في المخيال الثقافي والديني للمذهب (العلوي)… ولهذا كنا ننظر الى حالة التشيع في الوسط العلوي في زمن الأسد الأب بوصفه ظاهرة ايجابية تساعد على ردم الهوة الشديدة بين المذاهب التي تفصل المذهب العلوي عادة عن المذاهب الأخرى، مما يساعد على عملية الدمج الوطني و(المواطنوي)، بحكم عدم التناقض الجوهري بين المذهب السني والمذهب الشيعي، مما يساعد الطائفة العلوية على الخروج من عزلتها المذهبية المكتظة بالغرائبية والخرافة باتجاه الاندراج بالفضاء الثقافي الإسلامي (السني – الشيعي).

لكن ما كان يبدو عامل تقارب بين المذاهب، تحول الى عامل اختراق للثقافة الوطنية السورية التي يشكل الاسلام بصيغته السنية الرسمية أحد مكونات هويتها (الحضارية)، سيما عندما تكون دمشق هي عاصمة التاريخ الأموي المؤسس الرسمي للمذهب السني.

هذا الاختراق والخرق الإيراني للهوية الثقافية الوطنية السورية بما سيسميه أحد وجوه المذهب السني الرسمي المعتدل الدكتور وهبي الزحيلي عميد كلية الشريعة بمثابته (عدوان)….! هذا العدوان كان الأسد الأب يتعامل معه بحذرالخائف من الجموح الايراني باتجاه استلحاقه بالمد الخميني الجارف، وهو الحريص على وثنيته الصنمية الخاصة والخالصة.

لكن الخرق راح يتوسع مع السياسة الخرقاء للابن الوريث الذي كان من المتوقع- بدوره- أن تكون حساسيته الثقافية الوطنية المدنية أرفع من حساسية أبيه العسكري المتحدر من ضيق أفق الثقافة المذهبية الأقلوية للقرية، سيما وأن الإبن ولد وعاش في البيئة الدمشقية والثقافية الأوربية لحين من الزمن، لقد ولد ونشأ في دمشق بكل ما تعنيه رمزيتها التاريخية المدنية وثقلها الحضاري في صناعة التاريخ الاسلامي المدني الظاهري المعتدل الذي تناط فيه الفاعلية البشرية السياسية بالفعل البشري ذاته وليس بعصمة السماء والوقف الإلهي، ولذا ليس مصادفة أن يكون معاوية هو صاحب التفسير العقلاني المتفرد –مع السيدة عائشة- للمعراج النبوي، بوصفه اسراء للروح وليس عروجا بالبدن، وذلك بدون تأويلات غنوصية وباطن وعرفان، أي بما يتناسب مع عقل عاش معظم تجربته الحياتية والسياسية والثقافية في بلاد الشام.

يتبع

mr_glory@hotmail.com

2 تعليقات
Newest
Oldest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
eamn
eamn
14 سنوات

البعث الشيعي في سوريا (1919 – 2007): الأسدية : من التشيع إلى التشييع (1)
dgsfSFczxvvbxv cb xb bdcd xcbvxb b dcbdcdc

افساد والمفسدين
افساد والمفسدين
14 سنوات

البعث الشيعي في سوريا (1919 – 2007): الأسدية : من التشيع إلى التشييع (1)
تراجعت سورية تسعة مراكز في قائمة مؤشرات الفساد لتقترب من ذيل القائمة مع احتلالها المركز الـ 147 على مستوى العالم. ومصر ايضا مع احتلالها المركز الـ 115

http://ar.wikipedia.org/wiki/%D9%85%D8%A4%D8%B4%D8%B1_%D8%A7%D9%84%D9%81%D8%B3%D8%A7%D8%AF

Share.

اكتشاف المزيد من Middle East Transparent

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading