إستماع
Getting your Trinity Audio player ready...
|
يرى الباحث عادل بخوان في مقابلة مع صحيفة «لوموند» الفرنسية أن العراق يشهد انقساماً عميقاً في الهوية والسياسة، يغذّيه بشكل خاص النفوذُ الإيراني.
أجرت المقابلة “ّسيسيل إينيون”
عادل بخوان متخصص في الشأن العراقي، وهو مدير “المعهد الأوروبي لدراسات الشرق الأوسط وشمال أفريقيا” (Eismena)، ومحاضر في معهد العلوم السياسية في ليون، وباحث مشارك في برنامج تركيا/الشرق الأوسط في “المعهد الفرنسي للعلاقات الدولية” (IFRI). صدر له في شهر مايو كتاب بعنوان تفكك الشرق الأوسط (La Décomposition du Moyen-Orient)، عن دار تالاندير (320 صفحة، 21.90 يورو).
كيف كان رد فعل العراق على سقوط بشار الأسد في سوريا؟
سقوط بشار الأسد وتولي أحمد الشرع الرئاسة في سوريا (في 8 ديسمبر 2024) أحدث زلزالاً في العراق. وسادت حالة هَلَع في أوساط الحكومة والنخبة السياسية. وعمَّ الذعرٌ الطائفةَ الشيعية التي تسيطر على السلطة لاعتقادها بأن تغيير النظام في دمشق سيقود إلى تغيير مماثل في بغداد لصالح الأقلية السنية. وبالنتيجة أُغلقت الحدود، وتم نشرُ القوات المسلحة في الشوارع…
بالمقابل، اعتقد السُنّة في العراق أن لحظتهم التاريخية قد حانت. ومع دعم تركيا لأحمد الشرع والتواصل الجغرافي بين سوريا والمناطق السنية العراقية، فقد أملوا في استعادة السلطة. أما الأكراد، فلم ينتظر زعيمهم مسعود بارزاني سوى أسبوع واحد قبل تهنئة الرئيس السوري الجديد. كما دعا “قوات سوريا الديمقراطية” (ذات الغالبية الكردية) للتفاوض مع الشرع. لقد حبس العراق أنفاسه طوال أسابيع. ثم أدرك قادة الشيعة أن الوضع في سوريا يختلف عن الوضع في العراق، وأن نظام بغداد لن ينهار بهذه السهولة.
أليس ذلك مؤشراً على استقرار مؤسسات الدولة العراقية؟ فقد تواصل رئيس الوزراء محمد شياع السوداني، وهو شيعي، مع الشرع أيضًا…
لفهمِ الوضع الحالي، لا بد من التمييز بين الحكومة والدولة. منذ يناير، أرسل السوداني رئيس الاستخبارات العراقية إلى دمشق ليؤكد للشرع أن العراق لا ينوي الدخول في صدام مع سوريا الجديدة. ثم التقاه السوداني نفسه في في 17 أبريل في الدوحة، إنطلاقاً من وساطة نظمتها قطر تمهيداً لمشاركة الشرع في قمة جامعة الدول العربية في بغداد.
لكن تلك المبادرة كادت تفجّر أزمة خطيرة في العراق لأن السوداني لم يُطلع أيّاً من المسؤولين العراقيين – لا رئيس الجمهورية، ولا وزير الخارجية (وهما كرديان)، ولا رئيس المحكمة الاتحادية العليا على مبادرته. وقد تفاجأ زعماء الأحزاب والميليشيات الشيعية (نوري المالكي، مقتدى الصدر، قيس الخزعلي، هادي العامري) وأصدروا بياناً أعلنوا فيه أن الشرع مطلوب قضائياً بموجب قرار من المحكمة العليا وأنه سيُعتقل فور وصوله بغداد.
قام السوداني بمحاولات شاقة لتغيير موقف حلفائه في “الإطار التنسيقي”. وتحت ضغوط الدول التي يقيم معها علاقات حسنة ـ السعودية، والإمارات، وقطر ـ ولكن أيضاً تركيا والولايات المتحدة ودول أوروبا، فقد تصرّف كرئيس حكومة ووجّه للشرع دعوةً لحضور القمة. ولكن الإطار التنسيقي أجاب “كلا. توقَّف. هذا الرجل “إرهابي” وينتمي إلى القاعدة وداعش، ولن يطأ أرض العراق”. وقد فهم الشرع الوضع وألغى زيارته، وامتنع معظم القادة العرب عن الحضور، وفشلت القمة. وباختصار، فقد وجّهت الحكومة دعوةً للشرع، ولكن الدولة فرضت رفضها.
كيف تعرّف هذا “الدولة”؟
العراق هو دولة ـ ميليشيا، تسيطر عليها، وتوجِّهها المنظمات شبه العسكرية الشيعية. إنها دولة ذات عقلية ميليشياوية، تعمل بالتوازي مع الحكومة، على نحو يضاهي الوضع القائم في إيران. في الجمهورية الإسلامية أيضاً، يمكن لحكومة الرئيس مسعود بزشكيان أن تتخذ قرارات وأن تضع مقترحات، ولكنها تضطر للتراجع إذا لم تكن قراراتها مطابقة لإرادة الدولة، أو لإيديولوجيتها. الدولة هي المرشد الأعلى، علي خامنئي، ولكنها أيضاً الحرس الثوري وكل المؤسسات التي يسيطر عليها: الجيش، والمرافق العسكرية، والأمنية. ومع ذلك، هنالك حكومة.
ذلك الفصل قائم في العراق أيضا، حيث يتحكم بارونات الميليشيات الشيعية بالدولة. وبدونهم يتعذّر انتخاب رئيس للعراق. وهم يستندون إلى ذراعهم المسلّح، وهو “الحشد الشعبي”، الذي لا يرى نفسه سوى كَحامٍ للنظام والدولة. تتغير الحكومات، ويتعاقب رؤساء الوزراء، لكن الدولة والمنطق الميليشياوي يبقيان.
فيما يتعلق بالعراق، فهو في طور التفكك. وبرأيي، يمكن تقسيم الدول العربية في الشرق الأوسط إلى ثلاث فئات.
الفئة الأولى، التي تضم مصر والأردن، تتمحور حول المملكة العربية السعودية، التي تحاول فرض “نموذج صيني” بطريقة سلطوية: المزيد من الأمن، والاستقرار، والتنمية الاقتصادية، مقابل تقليص كبير، أو حتى إلغاء تام، للديمقراطية وحقوق الإنسان.
الفئة الثانية تشمل دولاً في طور التفكك، ليس نتيجة احتلال أجنبي، بل من خلال عملية داخلية جارية: مثل لبنان، والعراق، وربما – ما لم يحدث معجزة سياسية – سوريا أيضاً.
أما الفئة الثالثة فتضم الدول التي تعيش حالة حرب أهلية: ليبيا، السودان، واليمن، والتي قد تنزلق في المستقبل إما إلى النموذج السلطوي السعودي أو إلى نموذج التفكك اللبناني-العراقي.
هل يمكن أن تؤدي هذه الديناميكية إلى تقسيم العراق جغرافياً؟
حتى الآن، ما يجري هو تفكك اجتماعي أكثر من كونه جغرافياً. في ظل صدام حسين (1979 ـ 2003)، ورغم القمع الذي طال الأكراد والشيعة، كانت هناك هوية “عراقية” وطنية مشتركة. لكنها اندثرت الآن. إن الجسم المجتمعي ينقسم إلى ثلاثة مكونات على الأقل: في الجنوب، من البصرة إلى بغداد، هنالك مكوّن ينتظم حول مرجعية شيعية. وداخل ذلك المكون توجد توجهات، وخلافات، وتعددية، ولكن يعتبر نفسه شيعياً ويعتبر الخلافات مجرد خلافات بين شيعة، ولا يهمّه غير الشيعة. وتعم الظاهرة نفسها المحافظات السنية التي تنظر إلى نفسها كمكوّن سنّي وليس كجمهور عراقي، وذلك لأن الهوية المرجعية العراقية لم تعد قاسماً مشتركا.
ما هي النتائج الفعلية لهذا التفكك الهوياتي؟
خذي مثلاً مقتدى الصدر، الذي يقدّم نفسه كزعيم وطني بامتياز: في انتخابات 10 أكتوبر 2021، حصل تياره على 73 مقعداً، لم يكن أيّ منها في المحافظات السُنّية الست أو في المحافظات الكردية الأربع. ما يعني أنه لم يصوّت له أي سني أو أي كردي. كذلك، محمد الحلبوسي (رئيس البرلمان من 2018 إلى 2023) الذي يعتبر نفسه وطنياً عراقياً، وذلك صحيح، سوى أنها نسخة سُنية من الوطنية. ولذلك السبب، لم يأتِ أي من المقاعد التي حصدها من خارج المناطق السنية. والوضع مشابه بالنسبة للأكراد، إن مسعود بارزاني يعتبر أنه يرأس أكبر حزب في البلاد، حيث أن كل الأحزاب الأخرى هي إئتلافات في الواقع، لكنه حصل على 33 مقعداً جميعها في كردستان. يعني ما سبق أن الانقسام السياسي يولّد إنقساماً جغرافيا.
لقد أصبح مركز السلطة تعددياً، ما يوصل البلاد إلى مأزق مستحكم. لم يعد أي شيء ممكنًا في العراق، حتى الانقلاب العسكري! فضد من سيقوم؟ ضد الجيش؟ لن يكون لذلك تأثير، فهناك الحشد الشعبي. ضد الحكومة؟ لا بأس، فهناك الدولة-الميليشيا… البلاد تعمل كآلة مكسورة تفقد كل يوم أحد تروسها. ونتيجة لذلك، فإن العراق، ثاني أكبر احتياطي نفطي في العالم، الذي أنفق 33 مليار دولار (28.94 مليار يورو) على البنى التحتية الكهربائية بين عامي 2003 و2023، لا يزال يعتمد على الكهرباء الإيرانية. ونظرًا لأن [الرئيس الأمريكي] دونالد ترامب ألغى [في 8 مارس، في إطار سياسة “الضغط الأقصى” على إيران] الإعفاء الذي كان يسمح لبغداد بشراء الكهرباء من طهران، فإن العراق سيكون عاجزًا، اعتبارًا من هذا الصيف، عن تزويد المحافظات الشيعية التي تعتمد بنسبة تقارب 70% على الكهرباء الإيرانية. وعندما تصل درجات الحرارة إلى 45 أو 50 درجة مئوية في البصرة، وبدون تكييف، لا ينبغي أن نتفاجأ من اندلاع حركة احتجاج.
ما هو مدى تأثير إيران حالياً في العراق؟
قبل 7 أكتوبر 2023، كانت إيران تهيمن على بغداد، بيروت، دمشق، وصنعاء. وقبل ذلك بأشهر، في 10 مارس 2023، وقّعت إيران اتفاقاً تاريخياً مع السعودية في بكين لم يسبق له مثيل، يتقاسم بموجبه البلدان النفوذ في الشرق الأوسط. لكن، منذ 7 أكتوبر وعودة ترامب إلى البيت الأبيض، فإن الرياض ونموذجها السُلطوي باتا يملكان أدوات وموارد هائلة، في حين أن “محور المقاومة” الإيراني ـ وأنا أسمّيه “النظام الميلشياوي” ـ بات راكعاً على رُكبتيه. فقد تم قطع رأس حزب الله، وتم تدمير حركة حماس بنسبة 80 بالمئة.
وتم استبدال نظام بشار الأسد، أي القلب النابض للنظام الميليشياوي، بنظام سُنّي مؤيد للسعودية ومؤيّد لتركيا، أي للقوتين المنافستين لإيران. وبات الحوثيون في اليمن، بعد القصف الأميركي، أضعف بكثير مما كانوا سابقاً. ولم يبقَ سوى العراق الذي تتقاسم إيران معه حدوداً تبلغ 1500 كيلومتراً، وحيث تملك إيران 80 منظمة ميليشياوية، أي ما يعادل 235000 مقاتلاً تدفع لهم الدولة العراقية حوالي 3000 مليار دولار سنوياً. وإذا ما استثنينا ميليشيا “سرايا السلام” التابعة لمقتدى الصدر، والميليشيات التابعة لآية الله السيستاني، فإن 90 بالمئة المتبقية تعتبر المرشد علي خامنئي قائدها الأعلى.
هذه الميليشيات الموالية لإيران هي الوحيدة التي لم تستهدفها إسرائيل منذ 7 أكتوبر. لكن وزير الخارجية العراقي يحذر باستمرار من أن البلاد في خطر ويعلن أنه “يتوسل إلى البيت الأبيض” للحؤول دون ضربات إسرائيلية محتملة. وفي الوضع الراهن، فإن من مصلحة واشنطن أن تتجنب دون سيناريو الضربات الإسرائيلية التي قد تعرض للخطر 2500 جندي أميركي ما زالوا متمركزين في العراق. ولكن التهديد حقيقي، وقد غادر قادة الميليشيات فعلياً إلى إيران ولا يعودون إلى العراق إلا سراً.
حالياً، ما يزال العراق بلداً خاضعاً لنفوذ الجمهورية الإسلامية بامتياز، وهو البلد الوحيد الذي تمسكه إيران بيديها. ولكن، هل ستنجح في الإحتفاظ به؟ إن السؤال مطروح فعلاً. فالقاعدة الإجتماعية الشيعية العراقية تزداد تطرفاً ضد السيطرة الإيرانية. هل ستتجدد خلال الصيف الحالي حركة الإحتجاجات التي انطلقت في 2019، والتي كان شعارها “إيران برا برا، بغداد تبقى حرة”؟ هذا احتمال معقول جدا. وبالمقابل، فإن أي ضربات إسرائيلية ضد إيران يمكن أن توحد الطائفة الشيعية خلف الجمهورية الإسلامية. إن مثل هذا السيناريو، الذي قد يتضافر مع انخفاض سعر برميل النفط إلى 40 دولاراً، سيجعل الحكومة غير قادرة على دفع رواتب 6 ملايين موظف حكومي، علماً أن تلك الرواتب هي، تحديداً، ما يسمح لها حتى الآن بشراء نوع من السلام المدني.
نصف قرن ونحن نسمع عن التفكك ولم يحصل إلا في السودان ولاسباب عرقية دينية اقتصادية منطقية