قامت إيران في الأسابيع الأخيرة بتعزيز وجودها العسكري في سوريا، وذلك بعد الانسحاب الروسي الجزئي وعشية استئناف مفاوضات جنيف. تتمسك طهران، بكل قوة، بحصتها من الورقة السورية وترفض التسليم لموسكو بلعب دور العراب لحل سياسي يمكن أن يمس مصالحها على المدى المتوسط.
إن هذا الإصرار الإيراني على التمسك بديمومة المنظومة الأسدية ليس بالمستغرب، بل يمثل أبرز ثوابت السياسة العربية لطهران منذ حقبة حرب العراق – إيران في ثمانينات القرن الماضي، إذ أن النظام السوري يمثل الجوهرة في تاج المشروع الإمبراطوري الإيراني نظرا لأهمية البلاد التاريخية والاستراتيجية، ولأنها جسر الوصول إلى لبنان الموئل الأول لنجاح الثورة الخمينية في تصدير نفسها ونموذجها.
مع صدام المشاريع الإقليمية والدولية في “اللعبة الكبرى الجديدة” الدائرة انطلاقا من المشرق، نظرت الجمهورية الإسلامية بالفعل إلى سوريا على أنها المحافظة الإيرانية الـ35، وأن تغيير النظام فيها يمس إيران ومشروعها وربما نظامها.
ولذلك وفق منظور طهران كان الحراك الثوري العربي قبل وصوله إلى سوريا كناية عن “يقظة إسلامية” (في منطق المغالاة القومي لا نجد أثرا لعبارة الربيع العربي لأنهم ربما يرفضون صفة العربي لاعتبارات تتصل بعقد تاريخية من دور العرب “المتخلفين” في نشر الإسلام نحو إمبراطورية فارس العريقة) لكن اليقظة عندما طالت بلدا من المحور الإيراني (المسمى حسب الأدبيات الرائجة ديماغوجيا محور المقاومة والممانعة) أصبحت مجرد مؤامرة خارجية.
وعلى هذا الأساس تصرفت طهران منذ الأيام الأولى للحراك السوري السلمي، ونصحت بالقمع وفق طريقة قمع انتفاضة 2009 في إيران إثر الاحتجاج على إعادة انتخاب محمود أحمدي نجاد. ورمت إيران كل ثقلها في المعركة السورية عبر دعمها المالي والاقتصادي (بالرغم من العقوبات الدولية) ورفدها النظام بخبرائها في الاتصالات والحرب الإلكترونية، ودفعت، بعدئذ، مستشاريها العسكريين وكوادر حرسها الثوري، وصولا إلى حزب الله بزخم متصاعد منذ 2012، بالتوازي مع إقحام عدة ميليشيات عراقية ولواء الفاطميين الأفغاني ولواء الزينبيين الباكستاني، وعناصر أخرى في معركة مقدسة تحت ستار الحفاظ على المزارات الدينية ومحاربة الإرهاب، لكنها كانت في العمق معركة تثبيت النفوذ الإيراني وسط العالم العربي.
راهن باراك أوباما، وغيره، على تغيير في النهج الإيراني بعد توقيع الاتفاق النووي، وراهن بعض العرب وبعض الأوروبيين على تسليم إيراني بأولوية الدور الروسي بعد الاختراق الاستراتيجي الذي أنجزه فلاديمير بوتين على الساحة السورية، وانتظر البعض الآخر الانتخابات الإيرانية ونتائجها، لكن الرهانات سقطت على محك الواقع، إذ بالرغم من كل هذا التعويل العالمي على التطبيع مع إيران، وبالرغم من التفويض الشعبي الداخلي للثنائي رفسنجاني – روحاني، ليست هناك علامات على تغيير في النظام إن وفق نموذج ميخائيل غورباتشوف أو على أساس النموذج الصيني. وليست هناك إشارات في تغيير السلوك، بل على العكس من ذلك تستمر القبضة الحديدية في الداخل وإرسال القوات إلى سوريا واستمرار نهج زعزعة الاستقرار الإقليمي من العراق إلى اليمن وداخل دول مجلس التعاون الخليجي (رقعة النشاطات الإيرانية المتنوعة تصل إلى مصر وتونس والجزائر ونيجيريا وغرب أفريقيا).
تغيرت الأوضاع في المنطقة منذ ربيع العام الماضي مع حرب اليمن وتطور الوضع السوري إذ أن تباهي إيران بالسيطرة على العواصم العربية، وجد من يقاومه ولم يكرس أمرا واقعا على ضوء مجريات الوضع العراقي، والإمساك بالوضع في البحرين، وفشل خطط زعزعة استقرار المملكة العربية السعودية والكويت والإمارات العربية المتحدة، بالإضافة إلى صد مسعى استخدام اليمن كمنصة ضد الأمن السعودي والخليجي والعربي. وأتت الإجراءات الخليجية والعربية ضد حزب الله اللبناني في نفس هذا السياق من السعي لصد المشروع الإيراني. وهكذا نرى، بوضوح، سبب التشبث الإيراني بالورقة السورية والسعي لإبقاء نفوذها بأي ثمن، لأن طهران لم تعد لها الكثير من المساحات وحرية الحركة في ساحات أخرى.
منذ 2011، كان الوجود الإيراني في سوريا وجودا تعطيليا لكل أفق تغيير أو حل سياسي واقعي في دمشق. وقبل ذلك بكثير كانت إيران موجودة في قلب الحلقة الأولى من النظام، نظرا لتغيير بشار الأسد خيار والده الاستراتيجي المتمثل في الحفاظ على توازن ظاهري بين الدور العربي والحلف مع الجمهورية الإسلامية.
ومن هنا بدا موقف طهران لا يتزحزح بمعنى أن بشار الأسد هو النظام، والنظام هو جوهرة المحور الإمبراطوري الإيراني وممره نحو أداته الرئيسية في الإقليم أي حزب الله. وهكذا منذ اعتماد وثيقة جنيف 1 في 2012، إلى القرار الدولي 2254 في 2015، ومفاوضات جنيف في 2016، تركز كل الجهد الإيراني على إعادة تأهيل النظام والسعي لمنع موسكو من إجراء تفاهمات حيال مصير الأسد بالذات.
كما لم يتم التدخل الروسي الكثيف اعتبارا من يوليو 2015 دون أسباب موجبة وأبرزها عدم قدرة المحور الإيراني لوحده على الدفاع عن النظام، أتى الانسحاب الروسي الجزئي (إعادة الانتشار شملت قوات روسية خاصة تقدر بحدود 1500 – 2000 جندي، وهذا يفسر إرسال إيران قوات خاصة من الجيش ومن اللواء 65 تحديدا للتعويض عن الفراغ المتروك) في مارس الماضي لأسباب لوجستية واقتصادية، للمناورة السياسية ولتفادي الغرق في المستنقع السوري، لكن من بين الأسباب توجيه رسالة للنظام حول وجوب قبول التوجهات الروسية حول مسار الحل السياسي، وزيادة على ذلك كشف القرار “البوتيني” عن تناقضات مع التوجهات الإيرانية على الساحة السورية إن بخصوص دعم فكرة الفيدرالية التي يطرحها بعض الأكراد، أو لجهة فرض اتفاق وقف الأعمال العدائية من دون استشارة طهران.
بيد أن عقدة المنشار تبقى مصير الأسد بالذات، إذ تسرب الأوساط الإيرانية أن “موسكو لم تمتّن وجودها سوريا وليست لها اختراقات أكيدة في صفوف كبار الضباط”، ولذا “يتقاطع موقف طهران مع موسكو التي لا تطرح مصير الأسد على المكشوف، بل بحذر وفي الغرف المغلقة لأنها تسعى لاستخدام هذه الورقة لإغواء الدول العربية في الخليج والقول لها إن الوجود الروسي يضمن لها مصالحها أكثر من السيطرة الإيرانية”، لكن الأوساط المتابعة للاتصالات الروسية – الأميركية تسمع كلاما آخر عن غضب من الرئيس الروسي حيال الأسد والمحور الإيراني الذي لم ينجح بريا لولا بعض الانغماس الروسي، ولذا تراهن موسكو على ترتيب تفاهم مع واشنطن قبل نهاية ولاية أوباما، ومن هنا خشية طهران وإرسالها المزيد من القوات إلى سوريا بهدف عرقلة الحل السياسي حتى لو كان على الطريقة الروسية.
لكل هذه الأسباب، تمثل الجولة القادمة من مفاوضات جنيف اختبارا فعليا لمصداقية موسكو، وامتحانا لقبول إيران التخلي عن دورها التعطيلي. بعد كل هذا الاستثمار على الساحة السورية، على الأرجح أن يستمر الانقلاب الإيراني ضد كل فرص الحل السياسي الواقعي، لأن الهدف الفعلي لطهران في حال عدم القدرة على إعادة تأهيل النظام وإعادة سيطرته على كل سوريا، سيتمثل في الاكتفاء بجزء من سوريا مما يضمن مصالحها الحيوية وديمومة مشروعها الإقليمي.
khattarwahid@yahoo.fr
أستاذ العلوم السياسية، المركز الدولي للجيوبوليتيك – باريس
العرب