تخيف فكرة الانفتاح الكثير من العرب والمسلمين. فهي من جهة تذكر بحقبة الرئيس الراحل أنور السادات والتي جاءت بعد مرحلة اشتراكية طويلة استفاد منها البعض ولم يستفد منها الكثيرون، وانتهى الامر بمصر كضحية لذات البيروقراطيه التي اراد الانفتاح ان يتعامل معها. أما بالنسبه للإسلاميين، فالانفتاح بالنسبة إليهم يساوي ضرب الاسلام والتعامل مع الاجندة الامريكية الناقدة للحركات الاسلامية، ويعني الانفتاح لآخرين حرية كل فرد في عمل ما يريد ووفق ما يريد وفي كل مكان وزمان. والانفتاح لقطاع آخر من الناس هو السعي الاعمى للخصخصة على حساب القوى الشعبية وحقوقها الاقتصادية ومكتسباتها، وهذا النوع من الانفتاح يؤدي للاحتكار والاستعلاء الداخلي. ان الانفتاح كلمة فقدت الكثير من مضمونها على مدى السنوات، لهذا يخشاها العالم العربي.
ولكن الانفتاح يجب ان لا يعني اي من السلبيات التي اقترنت به وأخذته باتجاه دون آخر، وهو بالتأكيد ليس اعلانات بيبسي او فتح الأسواق التجارية الجديدة كل يوم. ألم يكن المجتمع الاسلامي في العصور ماقبل الوسطى، وفق آليات وقوانين ذلك الزمن، نموذجاً للانفتاح في تعامله مع الحضارات الاخرى ومع قطاع كبير من سكان المجتمعات الاسلامية، من مسلمين وغير مسلمين؟ وهل بزرت حضارة في العصر الحديث لم يكن الانفتاح الذهني والإنساني والفكري مع التركيز على حقوق الفرد أحد مسببات نجاحها؟
إن الانفتاح حالة ذهنيه لا تعني الخروج على أنفسنا، بل تبنيها، إنها تعني التساؤل عن الملائم وغير الملائم في عاداتنا وتقاليدنا وسلوكياتنا وقوانيننا وطريقة حياتنا، التي تحد الفرد وحقوقه ونموه وتطوره وسعادته. وهو يعني الانفتاح على مبدأ التساؤل والتغير وطريقة تحقيقه، في ظل رؤية للمستقبل منطلقها ان الفرد في كل مجتمع عربي هو اللَّبِنَة الاساس للتطور والنمو.
ولن يكون هذا الانفتاح ممكناً الا بإعلاء قيمه، لتشجيع الإبداع والتجديد في فهم التراث والتاريخ وفي فهم علاقة الدين بالسياسه، و في طرق عمل الاحزاب ووسائل تشكيل النقابات وطرق تنظيم الاقتصاد. يتطلب الانفتاح إعادة ترتيب البيت الداخلي، بحيث تتواصل الحكومة مع الشعب، والمعارضة والحكومة بعضهما مع بعض، بما يوقف القطيعة الراهنة في الواقع العربي. والانفتاح يعني انفتاح مكونات المجتمع تجاه أجزائه (سنة وشيعة، اكراد وعرب، اقباط ومسلمين ومسيحيين، ليبراليين وإسلاميين). والانفتاح هو الآخر انفتاح على الثقافة العالمية، أكانت في مجال الادب أم اللغات أم المعرفة أم التاريخ أم العادات المفيدة أم الاقتصاد.
إن نموذج ألمانيا النازية ونموذج الاتحاد السوفياتي يؤكد على إمكانية بناء دول قوية في ظل رؤية أحادية وفكر موحد وإلغاء جميع مكونات الانفتاح. لكن نتيجة ما حصل في كلا البلدين ظاهرة للعيان: فالتاريخ لا يرحم الانغلاق، كما ان المجتمعات تنهار في ظل الدول المركزية القوية المغلقة. لقد انتهى الامر بإسدال الستارة على مدرسة الانغلاق في كل من المانيا النازية والاتحاد السوفياتي ودول اوروبا الشرقية، ففي التاريخ ينتصر راكب الحصان على المترجل، وصانع الآلة على المتمسك بأساليب الزراعة القديمة، والذي يتبنى الحرية وقيمها على المسكون بهاجس العادة والتقليد.
ان نقيض الانفتاح هو الانغلاق على الذات، كما نشاهد في مظاهر كثيرة في العالم العربي. نشعر بمظاهر الانغلاق في الشارع، ونشاهدها في انهيار الدول، في استغلال الدين، في الحروب الاهلية، في اضطهاد المرأة، في بعض الفتاوى، الانغلاق حاضر كل يوم في قمع الحريات، في وأد المعارضة، وفي حالة العلم والتعليم والجامعات في بلادنا.لقد جاء هذا الانغلاق من مصادر عديدة، منها هزائمنا الدائمة، وتجربتنا مع الاستعمار واحتلال فلسطين، ومنها قناعتنا بأن موروث العصور الغابرة سيكون قوة لنا ومنعة كما كان للأسبقين. جاء الانغلاق من هزائم وخوف، ومن اساليب حكم غير ديموقراطية. سيكون هذا النمط من الانغلاق محط استغراب أجيال المستقبل.
إن انفتاح اليوم يجب أن يقوم على مبادئ بسيطه ولكن اساسية للمرحلة القادمة، فهو يتطلب مساحة من الحريه غير متوافرة اليوم في المجتمعات العربية، ويتطلب انتخابات ديموقراطية في ظل تبني تعبيرات المجتمع المدني واحترام فئات المجتمع وإعلاء حقوق الفرد. ويتطلب الانفتاح مواجهة للفساد الذي ينتشر في ظل سعي جاد لجذب رؤوس الاموال الاجنبية والوطنية الهاربة. كما أن اصلاح التعليم جوهر رئيسي للانفتاح المطلوب. التعليم نال حتى اليوم اقل نصيب في اهتمام معظم الدول العربية.
إن جوهر الانفتاح يتلخص في انفتاحنا على حقوق بعضنا البعض في ظل الايمان الصادق بالحريات وقيم الفرد. فوراء كل قيمة نجد نجاحات للفرد اولاً، كما ونجد نجاحات للنظام المنفتح على مكوناته. الي ان يقع هذا سنكون في مخاض متوتر باحثين عما يغيِّر حالنا ويساهم في صناعة مستقبلنا.
* أستاذ العلوم السياسية في جامعة الكويت