أعرف مصر قبل ان أزورها وأقيم فيها. أعرفها وأنا أعيش مع أهلي في مدينة الدار البيضاء بين أواسط الخمسينات ونهايتها. أمران حصلا آنذاك لم تمْحهما ذاكرتي: الفريق الرياضي المصري للمصارعة الحرة، الذي حضر الى هناك ليشارك في مبارة، وكان الاعجاب والحماس من نصيبه قبل غيره من المتبارين، حتى المغاربة، الاستقبال الحار الذي لقيه في المطعم اللبناني الذي كان أبي يمتلكه ويديره مع أمي: رجال اقوياء، سعداء وجذّابون، تنضح منهم الثقة بالنفس وبالمستقبل… وجميعهم وسيمون، يشبهون صلاح ذو الفقار. الامر الثاني والأهم كان سطوع نجم جمال عبد الناصر، والذي قد يكون منح المصارعين المصريين تلك الهالة الخاصة. لم أكن أفهم كلمة عربية واحدة، ولكنني كنت مثل ابي مسحورة بنبرة صوته وسمرته وبريق عينيه والوعد الذي تحمله لهجته الوثّابة بالكبرياء القومي والاعتزاز بالنفس. كان ذلك يكفي للبنت الصغيرة التي كنت، المنتبهة الى انها تعيش غرب بلادها الاصلية، بأن تحلم بشرقها، وتتمنى بلوغه في أقرب وقت. وعندما رحلنا عن الدار البيضاء في خريف عام 1961 عن طريق البحر، كان علينا التوقف في ميناء الاسكندرية، المحطة الاخيرة لرحلتنا قبل الرسو في بيروت. الميناء المصرية المشْمسة، الساطعة بضوئها، لم تخل من الفقراء والمتسولين؛ ولكنها مبهجة، دافئة وحيوية، أكثر من ميناء الدار البيضاء الذي كنا نسكن بالقرب منها، قبل مغادرتنا لها. كأنني بنزولي اليها بضع ساعات اقترب من هدفي الشرقي المبْهم. أحلم به من دون ان أدرك تفاصيله.
بيروت في تلك السنوات لم يكن مناخها يختلف كثيرا عن الدار البيضاء: تحتفل بمصر والمصريين وبعبد الناصر، تعجب بالعريس المصري وتبحث عمن يشبهه، تستمع الى ام كلثوم وعبد الحليم واغاني الثورة مثل الموعودة بالخلاص الوجودي عبرهما، وعبر كل ما كانت مصر تنتجه من فنون وثقافة وأدب وسياسة. في مراهقتي شببت على حب عبد الناصر؛ وعندما كبرت قليلا وانتسبت الى منظمة شيوعية لها مواقف «نقدية» تجاه تجربته، لم يثنني ذلك عن حب عبد الناصر ومصر ومواصلة اعتبار مصر «قاعدة» الانطلاقة السياسية لعالمنا. بقيتُ على هذا الاعتقاد حتى بعد نيلي الدكتوراه وقراءتي لكل المنتج السياسي المتعلق بالاخوان المسلمين المصريين، رواد الاسلامية المعاصرة، موضوع اختصاصي. مثلي في ذلك، مثل كل مواطن يريد الخير لبلاده، ويرى انطلاق صلاحها، وقيادة نهضتها من تلك البقعة الراسخة العريقة ذات الأسس الثابتة التي لا تهزّها اشياء سخيفة كالتي تهزنا نحن اللبنانيين، مثل الطائفية او المناطقية او العائلية… كنت ممتلئة بمصر بالرغم من فرنكوفونيتي. واذا كنت تعلمت العربية بارادتي الخاصة، فذلك بفضل مصر التي كنت احتاج الى فهم خطيبها المفوّه عبد الناصر. من اجل بريق عينيه، تعلمت العربية. وهذا فضل عهده عليّ.
وعندما اندلعت الحرب الاهلية واشتدّت جولاتها عنفا وخطرا، وكانت الناس تهرب منها الى مهجر بعيد، كان قلبي ينعصر، وأقول لنفسي بأنني لا لن أهاجر، لن أرحل بعيدا…. واتمنى، لو كُتب عليّ الهروب، ان يكون ذلك الى مصر، ولا بلد غيرها. فهي الحاضنة والضامنة والمستقرة والقوية… وأياديها لن تكون الا بيضاء.
مرت سنوات على توقفي في ميناء الاسكندرية، وفي العام 1989 كانت أولى زياراتي القاهرة؛ لم أر في هذه الزيارة وما تلاها من زيارات غير ما كنت أبحث عنه، على ما يؤكد فكرتي عن مصر، وما يبقي على نظرية قيادتها لنا نحو النهضة، بالرغم من كامب دافيد والانفتاح والطبقات الجديدة… لا أعرف بالضبط كيف كنت أفكر، كيف كنت أمرّر في مصفاة عقلي ما ينقض تصوراتي السابقة، المسبقة، عن مصر. لكن ما تأكدت منه بعد ذلك هو انني لم أكن «أرى» فعلا. عيناي لم تبصرا فعلا، كل تلك العناصر التي تضرب أسس «إيديولوجيتي» المصرية. كنت سعيدة، فقط سعيدة بأن أطأ هذه الارض التي طالما حلمت بسمرتها وطيبتها ورحابتها. عبد الناصر كان حاضرا في كل هذه الاشواق المتوهمة، يواسي المواطنة التعيسة التي أصبحت بعدما خرّبت الحرب الاهلية القليل الذي اعتقدت انني بينته أنا ورفاقي في لبنان.
لذلك عندما فرضت عليّ ظروفٌ عائلية العيشَ في القاهرة عام 1999، شعرت بشيء من الهيبة؛ هل أكون بمستوى القاهرة؟ بمستوى نُصبها ومؤسساتها ومثقفيها ونواديها وتلاحمها وثقافتها؟ باختصار، كل طليعيتها؟ فكان الجواب المفاجأة الذي اطاح سؤالي وهواجسي: فالعيش في بلد ليس مثل زيارته، ولا مثل التصورات التي تنسج عنه. العيش في القاهرة كشفها على حقيقة مرّة، مرّة للاثنين، لي وللقاهريين أنفسهم. العيش في القاهرة كان مثل الصدمة الحضارية السلبية: صدمة من النوع المقلوب الذي نعرفه عادة ونتكلم عنه كثيرا لدى قدومنا الى الغرب. صدمة معكوسة: من ان هذه البلاد التي كانت على لائحة بلدان الهجرة بالنسبة لي، هي بلاد متراجعة، مهرولة نحو التراجع، نابذة لكل من فيها: الغرباء، الذين توسعت دائرتهم، النساء بمختلف أشكالهن، الفقراء، والاغنياء، أصحاب الديانات الأخرى (…).
الانحطاط المصري المستجد لا يحتاج الى المزيد من النصوص. فالمصريون أكثر من اصابتهم لوعة الانحطاط السريع، يدلون يوميا بدلوهم، يشكون يتذمرون يخجلون مما بلغت به حالهم، يزيدون من جرعة شوفينيتهم، لعل ذلك يواسيهم… وهم لم يقرأوا كتابا قدر ما قرأوا «ماذا حدث للمصريين؟» للاقتصادي جلال امين، حيث يصف الكاتب بأسلوب سردي بسيط وشخصي ما مرّ على المصريين من تحولات، نسبها الى «الحراك الاجتماعي» الذي احدثته الثورة الناصرية وما نجم عنها من ظهور طبقة جديدة لا خلفية ثقافية لها ولا قيم أو معايير غير التناحر من أجل المال أو الامتياز أو السطوة؛ ثم انتقل هذا التناحر برأيه الى الطبقات الأدنى وتحول المجتمع المصري بذلك الى وحوش فردية كاسرة تنقضّ على بعضها البعض. يعيد جلال امين هذا الخطأ التاريخي الى ما حملته الثورة الناصرية من قيم حداثية غربية، من رغبة في تقليد الغرب، نزعت عن المصريين «أصالتهم» و»تراثهم»، أمام ثقافة وقيم غربية نقيضة، مما عجّل من عودة الاسلامية واحزابها وشعبيتها الجارفة.
لا اريد هنا ان اجادل ان كانت الحداثة ام غيرها مسؤولة عن الانحطاط المستجد للمصريين. ولكنني ألاحظ التناقض الحاد بين تفسير جلال امين للتراجع المصري، وهو تفسير منتشر وله شعبية واسعة، خصوصا وسط الاسلاميين، بين هذه اذن وبين حنينه وحنين المصريين الى ما يسمونه «الزمن الجميل». متى كان الزمن جميلا بنظرهم؟ لا أحد يتفق مع الآخر على تحديد عهده: أيام الناصرية قليلا، ما قبل الناصرية قليلا ايضا، عهد الملك فاروق، وكذلك أيام ثورة 1919 الوطنية حيث المسيحي والمسلم، يوحدهما حزب «الوفد»… بحسب التوجه الايديولوجي لحامل الحنين. الاولون لا يريدون الانعتاق من الهيمنة الناصرية والآخرون يودّون التأكيد على شرورها. لكن الجميع متفق على مرجع واحد، يغرفون منه حججهم، المتناقضة ظاهريا. هذا المرجع ليس سوى أفلام «الابيض والاسود»، العائدة الى مئة عام خلت، والمثيرة للتنهّد والتحسر. ماذا في هذه الافلام، على سذاجتها الفنية؟ شوارع وجادات رحبة وبيوت واشجار وسكينة وسيارات قليلة وسلام وهواء يبدو نقيا، لم يلوّنه التلوث بالرمادي… أي كل ما تفتقده القاهرة اليوم. ثم فنانون يحبون فنهم ونجوم يلتقون في العمل الواحد لا تنضح منهم رائحة الاجور الخيالية ولا الافتعال ولا الفضائل الكاذبة. فنانون يحبون الفن لنفسه، ورجال ونساء يتطلعون الى مستقبل افضل بالتأكيد، والتقدم فيه ليس من المستحيلات. وفنانات لم تجمّد مباضع الجراحين وحقنات البوتوكس تعابير وجوههن، فنانات مقبلات على زمنهن مكتفيات بالقليل من المساحيق. تفاصيل اخرى صغيرة مثل سعة الغرف في الابيض والاسود والترتيب والنظافة والنظام وشيء من العفوية السعيدة بنفسها لا مرارة ولا شراسة.
لا يقارن المصريون بين أفلام اليوم وأفلام الابيض والاسود، بل بين الابيض والاسود وواقعهم المخيب. كانت بلادا سعيدة، يقولون، وذات كبرياء وجمال ونظافة واخلاق وامل بالتقدم. والآن انظر… اللائحة السوداء. يقولون ما لا تكتبه الاقلام، من ان العيب اصابهم من الصميم، في دواخلهم وعلاقاتهم العائلية، المهنية ويومياتهم المنهكة. وما أفلام الابيض والاسود الا برهان على ان ما هم عليه الآن ليس سوى ظرف طارئ، دخيل عليهم، اقوى من مسؤوليتهم المباشرة (…).
والسؤال الذي تطرحه المقارنة: هل كان المصريون فعلا على ما يتصورون أفضل حالا مما هم عليه الآن؟ أم انهم لم يتغيروا، بل إن نظرتنا هي التي تغيرت؟
dalal.elbizri@gmail.com
* كاتبة لبنانية- بيروت
نُشِر في “المستقبل”