في الداخل اللبناني، يتظاهر الأمين العام لـ”حزب الله” السيد حسن نصرالله بانّه يريد التفاهم مع الجميع وان لا همّ له سوى استعادة اللبنانيين وحدتهم في حين انّهم منقسمون على نفسهم اكثر من ايّ وقت. يتجاهل ان هذا الانقسام عائد اوّلا واخيرا الى ممارسات “حزب الله” والى كونه ميليشيا مذهبية مسلّحة وضعت نفسها في خدمة المشروع التوسّعي الايراني القائم على الاستثمار في الغرائز المذهبية ولا شيء آخر غير ذلك.
من الواضح انّ نصرالله متضايق الى حدّ كبير، على الرغم من تظاهره بالعكس، من الثنائي المسيحي الجديد، أي تحالف “القوات اللبنانية” و”التيّار الوطني الحر” الذي شمل تفاصيل كثيرة تتجاوز الانتخابات النيابية المقبلة، التي هي استحقاق لا مفرّ منه. ستكون انتخابات حتى لو حصل تأجيل ذو طابع تقني لموعدها. مثل هذا التأجيل محتمل لسبب في غاية البساطة يعود الى ان ليس هناك طرف لبناني يقبل بالعودة الى ما يسمّى قانون الستّين (الذي جرت على أساسه الانتخابات الأخيرة) من جهة والى صعوبة الاتفاق على قانون جديد من جهة اخرى.
يجهد “حزب الله” الذي يمتلك جيشا حقيقيا يفرض ارادته على اللبنانيين، خصوصا على أبناء الطائفة الشيعية الى جعل هذه الانتخابات تخدم مصالحه المتمثلة في السيطرة على مجلس النوّاب المقبل عبر قانون يكون على مقاسه وليس على مقاس النظام الديموقراطي الذي ميّز لبنان طوال سنوات وسنوات ومكّنه من تجاوز الكثير من المحن.
ما كشفه التأخير في تشكيل حكومة لبنانية برئاسة سعد الحريري الذي حصل على ثقة الأكثرية الساحقة من النواب، لدى حصول الاستشارات “الملزمة” قبل ما يزيد على شهر، انّ “حزب الله” يسعى الى تغيير النظام في لبنان خطوة خطوة. لم يكن تأخير انتخاب رئيس للجمهورية سنتين ونصف سنة سوى دليل على وجود نيات مبيتة تستهدف الأسس التي يقوم عليها النظام اللبناني. فرض الحزب، الذي ليس سوى لواء في “الحرس الثوري” الايراني والشريك في المذبحة التي يتعرّض لها الشعب السوري، مرشّحه. رفض السماح لمجلس النوّاب بانتخاب رئيس للجمهورية بطريقة طبيعية. وضع البلد امام خيارين. امّا انتخاب الرئيس الذي يريد وامّا لا رئيس ولا جمهورية بعد الآن. كان اللبنانيون الحريصون على المؤسسات ان يختاروا المحافظة على الجمهورية بدل البقاء الى ما لا نهاية في اسر الفراغ الرئاسي.
كان الامل كبيرا في ان يؤدي الانتهاء من الفراغ الرئاسي الى عودة مؤسسات الدولة الى العمل، خصوصا ان البلد في حاجة الى الكثير، بدءا بمعالجة الوضع الاقتصادي، وصولا الى ازمة النفايات، مرورا، طبعا، بالانفتاح على العالم العربي واستعادة العلاقات الطبيعية والتقليدية مع دول الخليج.
المؤسف انّ لدى “حزب الله” ومن يقف خلفه في ايران اجندة أخرى مختلفة كلّيا. ليس وضع العراقيل في وجه تشكيل الحكومة سوى جزء من هذه الاجندة التي تشمل المزيد من التورط في الحرب على الشعب السوري وعلى المدن والبلدات والقرى السورية بحجة محاربة “داعش”. هناك استخدام لـ”الانتصارات” التي تتحقّق على الشعب السوري وكان آخرها “الانتصار” على حلب من اجل مزيد من “الانتصارات” على لبنان واللبنانيين.
يعمل “حزب الله” على تشكيل الحكومة اللبنانية بما يؤكد انّه صار صاحب الكلمة الاولى والأخيرة في البلد. بكلام أوضح، حلّت الوصاية الايرانية على لبنان بديلا من الوصاية السورية. صار للبنان “مرشد”، في حين يمكن وصف العلاقة بين الرئيس اللبناني و “المرشد” بانّها شبيهة بالعلاقة القائمة بين علي خامنئي ورئيس “الجمهورية الإسلامية” حسن روحاني. لا يعترض “المرشد” الايراني على تصرفات معيّنة تصدر عن روحاني او عن وزير الخارجية محمد جواد ظريف، بما في ذلك العلاقة التي اقامها مع وزير الخارجية الاميركي جون كيري، ما دام كلّ شيء يجري باشراف “المرشد” ورعايته. امّا في لبنان، فمسموح لرئيس الجمهورية، حسب “المرشد” المحلي ان يزور البلد الذي يشاء وان يبدأ جولاته الخارجية بالتوجّه الى المملكة العربية السعودية. ما ليس مسموحا به هو ان يشكل رئيس مجلس الوزراء المكلّف الحكومة بـ”التعاون” مع رئيس الجمهورية كما ورد في نص الدستور.
تلقي معركة حلب التي يخوضها “حزب الله” بظلالها على الوضع اللبناني. اذا كانت هذه المعركة، التي انتهت بتهجير اهل المدينة وتدمير الجزء الاكبر منها بفضل البراميل المتفجرة وسلاح الجو الروسي، دلّت على شيء فهي تدلّ على ان الدور الإقليمي لـ”حزب الله” يتوسّع. انّه دور إيراني قبل ايّ شيء آخر منطلقه لبنان. فمن لبنان يؤدي “حزب الله” الدور المطلوب منه إيرانيا في أماكن عدة من بينها سوريا والعراق واليمن والبحرين والكويت والمملكة العربية السعودية. وليس مستبعدا وصوله الى دول شمال افريقيا أيضا.
من يقوم بكلّ هذه الأدوار وادوار أخرى، الا يحقّ له تشكيل الحكومة اللبنانية وتذويب الثنائي المسيحي الجديد في حكومة سعد الحريري عن طريق فرض وزير مسيحي تابع لحزب معروف بانّه على علاقة مباشرة بالاجهزة السورية، بل انّه طفل أنبوب من اختراع هذه الاجهزة؟
كشفت عملية تشكيل الحكومة الاولى في عهد الرئيس ميشال عون ان “المرشد” اللبناني يضع نفسه في موقع ما كان عليه حافظ الأسد في مرحلة ما بعد فرض الوصاية السورية الكاملة على لبنان ابتداء من الثالث عشر من تشرين الاول ـ أكتوبر 1990 تاريخ اخراج العماد ميشال عون من قصر بعبدا.
يسعى حسن نصرالله في 2016، مع عودة ميشال عون الى القصر رئيسا، الى لعب الدور نفسه الذي لعبه الرئيس الراحل الذي ضمن وقتذاك غطاء دوليا لكلّ تصرفاته في كلّ لبنان بعد مشاركة جيشه، ولو رمزيا، في عملية تحرير الكويت من الاحتلال العراقي الى جانب القوات الاميركية وغير الاميركية.
هناك بكل صراحة استقواء على لبنان الذي يقاوم الوصاية الايرانية، مثلما قاوم الوصاية السورية. لا يدلّ على ذلك رفض الرئيس سعد الحريري الرضوخ لاملاءات “حزب الله” فحسب، بل هناك ايضا كلام صريح يصدر عن “تيّار المستقبل” يؤكد ان جريمة حلب في حجم جريمة تهجير الفلسطينيين من فلسطين، أي في حجم “النكبة”. هناك من يسمّي الأشياء باسمائها. هناك من يرفض ان تكون لجريمة حلب ترجمتها في بيروت، أي ان يفرض “حزب الله” على اللبنانيين الحكومة التي يريدها مستخدما غطاء من هنا وآخر من هناك لتغطية الجريمة الأخرى التي ترتكب في حقّ لبنان عن طريق الكلام الجميل عن اعطاء رئيس الجمهورية حرية زيارة البلد الذي يريده…