كما هي العادة، تمت العملية الانتخابية في سورية لاختيار أعضاء مجلس الشعب بصورة روتينية وشكلية، من دون أن تحمل أي مفاجآت أو انعطافات في مساراتها، ومن دون أن يترتب على نتائجها أي جديد أو علامات قد تميزها عن سابقاتها؛ مثلما لم تعرف هذه الانتخابات أي تغيير في اتجاهات التصويت الذي لا يثق بصندوق الاقتراع، واعتاد التشكيك بصحة النتائج المعلنة.
كما لم تشهد هذه العملية أي تبدل في المزاج الشعبي، ونسبة المشاركة المحدودة أصلاًً، والتي بدت لكل ذي عين أنها محدودة هذه المرة أكثر من أي مرة، وربما لا تتجاوز -في أحسن الأحوال- نسبة عشرة في المائة من عدد الناخبين الإجمالي!
وإذا وضعنا جانباً حقيقة أن الانتخابات السورية تجري في ظل استمرار مزمن لحالة الطوارئ والأحكام العرفية، ما يجعلها في كل لحظة من لحظات تطورها محكومة بإرادة السلطات التنفيذية؛ وأيضاً إذا لم نأخذ في الاعتبار أن القانون الخاص بالانتخابات، والذي يحمل اسم قانون الانتخابات العامة الصادر سنة 1973 وتعديلاته، يمكّن السلطات بمفردها من التحكم بالعملية الانتخابية وتقرير نتائجها؛ فإن موقف الناس السلبي لم يأت من فراغ.
فالمعروف للقاصي والداني أن المؤسسة التشريعية في سورية هي مؤسسة صورية، لا تحل ولا تربط؛ ويتندر الناس وهم يراقبون حرارة الدعاية الانتخابية بالسؤال عما يمكن أن يفعله عضو مجلس الشعب غير التأييد التام لسياسات الحكومة وخططها، وربما في أحسن الأحوال تقديم بعض الملاحظات لتعديل عبارة أو فكرة، أو المطالبة بإنجاز مهمة هنا أو إكمال عمل إجرائي هناك! ليبدو مجلس الشعب كما لو أنه صنع خصيصاً ليكون الأداة الطيعة بيد النظام لتعزيز سلطته وتأبيد هيمنته.
وقد نجح النظام، تحت غطاء من شعارات براقة عفا عليها الزمن، مثل الديمقراطية الشعبية والشرعية الوطنية والحزب الطليعي القائد… الخ، في فرض نفسه وصياً على كل شيء: على الدولة، والوطن، والشعب، وتالياً تثبيت هذه الوصاية في بعض مواد الدستور السوري، مثل المادة الثامنة التي تقول ان حزب البعث هو الحزب القائد للدولة والمجتمع؛ وأيضاً في العديد من المراسيم والقوانين المعنية بتنظيم آليات بناء مؤسسات الدولة وتحديد أدوارها، وبما يشترط في الشأن البرلماني ضرورة أن يحوز حزب البعث وأحزاب الجبهة الوطنية التقدمية، وبصورة مسبقة، على الحصة الأكبر من مقاعد مجلس الشعب، كي تبقى هذه المؤسسة في اليد وتحت السيطرة تماماً!
وبعد أن يضمن حزب البعث وحلفاؤه نسبة الأكثرية من المقاعد النيابية، عبر قوائم خاصة تسمى قوائم الجبهة الوطنية التقدمية، من المحتمل أن يفتح أحياناً باب الصراع بين مرشحين مستقلين لاحتلال ما تبقى من المقاعد في جو “ديمقراطي”، يوفر أيضاً للحزب الحاكم وبقية أحزاب الجبهة حقهم “الطبيعي” في المنافسة على هذه المقاعد، فيقحمون أنصارهم، أو يزجون ببعض الشخصيات الموالية لهم، ويقومون -خفية أو علانية- على دعمها دعماً مميزاً، يساعد أكثريتها على الفوز بأكثرية مقاعد المستقلين، مما يوصل نسبة نواب الحكومة أو الدائرين في فلكها في مجلس الشعب إلى ما يقارب التسعين في المائة، وهذا ما يطمئن السلطات على أن أمور التشريع بخير!
يبلغ عدد مرشحي الجبهة الوطنية التقدمية 167 مرشحاً تختارهم القيادة السياسية كممثلين لها، على أن يكون أكثر من 130 نائباً من حزب البعث لضمان أكثرية أصوات المجلس المؤلف من 250 نائباً، وما تبقى (أي 37 نائباً) تتقاسمهم أحزاب الجبهة الأخرى. وهؤلاء جميعهم لا يخضعون عادة للمنافسة، أو لنقل إنهم بحكم الناجحين بالتزكية؛ إذ يبقى “واجب” المقترعين انتخابهم “بهمة وحماس” من دون النظر إلى ماهيتهم! وبالتالي، فهؤلاء “المرشحون” غير معنيين بعرض برامج انتخابية لجذب الأصوات، وهم بغنى عن أي جهد لإبراز الكفاءة الشخصية أو لإظهار ما يحملونه من سمات وقيم أخلاقية لنيل ثقة الناخب، فتوجيهات القيادة السياسية وقراراتها الملزمة للناخبين، باختيار مرشحي الجبهة، كفيلة بتجاوز كل هذه الحيثيات، خاصة وأن التصويت على قوائم الجبهة يتم بوصفها كتلة سياسية واحدة، لا بكونها شخصيات متفاوتة الإمكانات والكفاءات والنزاهة، مما يُحلّ هؤلاء المرشحين من أي مساءلة أو حساب طالما ينفذون أوامر أحزابهم وسياساتها، وطالما عملهم في مجلس الشعب لا تشوبه شائبة لجهة التصديق على قرارات الحكومة وخططها وسياساتها، ولجهة التحلي بروح “رفاقية سمحة”، ومرونة عالية لغض النظر عند الضرورة على تقصير الحكومة أو محاسبتها على أخطائها وتجاوزاتها!
واللافت في هذه الدورة أن عدد المرشحين انخفض بشكل مريع قبل بدء عملية الاقتراع من 9770 الى 2500 مرشحاً، إما بسبب شعور بعضهم باللاجدوى، وإما لانسحاب أكثريتهم بشكل تلقائي فور إعلان قوائم الجبهة الوطنية التقدمية، ممن كانوا طامعين برضا القيادة لتختارهم ضمن قوائم هذه الجبهة!
أما تحت عنوان حصة المستقلين، وهي 83 مقعداً، فتترشح الشخصيات السياسية وغير السياسية، الموالية والمعارضة على حد سواء، وتجرب “حظها” في العملية الانتخابية، محكومة بهامش محدود من الدعاية، ومرتهنة لما تملكه من إمكانات ذاتية لخوض غمار الحملة الانتخابية. وهذا ما يفسر أن الغالبية الساحقة من المرشحين المستقلين، كما هو ساطع في الدورة الراهنة، هم من أغنياء المدن والتجار والصناعيين، مطعمين بعدد من الشخصيات المهنية، أطباء ومهندسين ومحامين، فضلاً عن بعض زعماء الطوائف والعشائر. ويستمد هؤلاء قوتهم الانتخابية ليس من برامج ملموسة تتطلع إلى خدمة مصالح الناس وحاجاتها، بل من ثرواتهم وصلاتهم مع بعض رجالات النظام، أو من بعض العلاقات القبلية والارتباطات الاجتماعية المتخلفة. وتنجح مثل هذه الرموز عادة، بالتعاون والتنسيق مع قوائم الجبهة الوطنية التقدمية، في نيل عضوية مجلس الشعب لتتعايشان معاً تحت قبته.
وإذا كان من المفترض أن نلمس حالة من التنافس الجدي والصراع على المقاعد النيابية في حقل المستقلين، خاصة في المدن الكبيرة، فإن ما ظهر في الدورة الراهنة هو تدخل سافر من قبل الأجهزة السلطوية لوأد هذه الفسحة، عبر الإصرار على نجاح قوائم محضرة مسبقاً، وغالباً إجبار الناخبين على شطب أسماء لمرشحين يعتقد أنهم لا يحوزون ثقة القيادة! ووصل الأمر حد زجر ومضايقة وكلاء هؤلاء المرشحين ومندوبيهم، ومنعهم من الاقتراب من المركز الانتخابي لمراقبة حركة الاقتراع أو الدعاية لمرشحهم، مع العلم أن الحملة الانتخابية لغالبية المستقلين تميزت بنشاط دعائي كبير، وتسابق على فتح مضافات لاستقبال الناخبين، مثلما شابها تنافس مرضي في سوق الشائعات المغرضة بحق بعضهم بعضا، وحتى تمزيق متبادل للصور والملصقات واللافتات الانتخابية!
لقد جرت الانتخابات النيابية السورية وكأن المواطن غير معني بها، فهو خير من يعلم أن لا جدوى، وأنه ضرب من الخيال الرهان على مجلس شعب يخرج من جلده وينقلب قوياً فاعلاً على ضعف وهشاشة؛ مثلما يعرف أن نجاح بعض المستقلين الراغبين جدياً في خدمة الناس لن يضيف شيئاً في ظل التركيبة المعدة لمجلس الشعب عن سابق إصرار وتصميم، وفي ظل تاريخ طويل من القمع وغياب حرية الرأي والتعبير والنشاط السياسي.
* كاتب سوري
akrambunni@hotmail.com
جريدة الغد