بالأمس، اشتعلت شبه القارة الهندية لأكثر من أسبوع بعد توارد خبر إغتصاب جماعي تعرضت له شابة، طالبة في الطب، كانت خارجة من السينما برفقة خطيبها المهندس. التظاهرات الصاخبة وأعمال العنف اجتاحت البلاد، خصوصا مدينة نيودلهي حيث وقعت الجريمة، وارتفعت الأصوات الغاضبة المطالِبة بأقصى العقوبة بحق المغتصبين الستة، بعد وفاة الشابة المغتصبة، متأثرة بجروحها. فالمجرمون الستة أشبعوها ضرباً، هي وخطيبها، بعدما نالوا ما يعتقدون انها لذتهم الجنسية.
العنف الأقصى تجاه النساء ظاهرة باتت عالمية. من التحرّش اللفظي إلى الاغتصاب، مروحة واسعة من أنواع العنف، تجده في الدول الغربية المتقدمة، أو تلك “الصاعدة”، مثل الهند، أو طبعا، المتخلفة منها، كبلادنا. الأرقام عن نِسَب الاغتصاب في كل بلد من بلدان العالم (مثلا تلك التي أصدرتها منظمة مكافحة الجريمة والمخدرات، التابعة للأمم المتحدة، UNOCD) تعطي مجرّد “فكرة” عن مدى انتشاره وسط البلدان المتفاوتة التطور والنمو. هي أرقام هائلة، ولكن مع ذلك، نخمّن انها ناقصة؛ أو لمزيد من الدقة، انها، في بلداننا المتخلفة، ما زال العيب يلاحق المغتصبة، ضحيتها، اذا لم يحملها المسؤولية كاملة عن اغتصابها. فظاهرة إيمان العبيدي، الليبية الشابة التي توجهت مباشرة بعد اغتصابها الى الاعلام، لتصرخ بالجريمة ومرتكبيها، أثناء الثورة ضد القذافي… هذه الظاهرة لم تتكرر. حتى الشابة التونسية التي تعرّضت للجريمة نفسها في أيلول الماضي، والتي اشعلت قصتها، لبرهة، الشارع التونسي، لم تعلن عن اسمها حتى الآن، خوفا من الفضيحة والعيب اللاحقين. نفهم ذلك جيداً: فقاضي التحقيق مثلا أصدر قراره بشأنها، ووصف عملية اغتصابها بـ”فعل فاضح، قامت به الفتاة”.
التاريخ. ماذا في جعبة التاريخ حول الاغتصاب؟ أمر واحد ثابت: في الحروب والغزوات، نساء الأمم المهزومة يتعرضن لإغتصاب منهجي. ولا يبدو ان هذا الأمر كان يوجع ضمائر “المنتصرين” أو يستحق سؤالهم أو تعليقهم. الأمر اعتيادي، مثله مثل القتل المباح. يروي مدوّنو الحروب الجريمة كمن يروي سير العمليات، ولا رفّة جفن واحدة. وحتى بعدما بدأت البشرية تنتبه الى هذه الآفة، فوقّعت معاهدات خاصة بالحروب، بقي الأمر على ما كان أيام الهمجية الصريحة؛ ابو غريب، أو البوسنة، الاميركيون والصرب تساووا في استباحة نساء الشعوب التي قهروها بالسلاح.
هذا عن الحروب. أما عن الحياة العادية، التي يفترض أن يسود فيها سلام ما، فلا نعرف إلا القليل جدا. ولكن المرجّح، مجرد ترجيح، ان المتاهات والدهاليز التي قبعت فيها النساء طويلا، كانت كفيلة بدفن أي اغتصاب في قبور الصمت الحريمية.
والآن، ما الذي تغيّر الآن، لتطفو هذه الجريمة على سطح الجرائم الانسانية؟ ما الذي تغير في هذه الانسانية كي يكون الاغتصاب من أوائل جرائمها، سواء كان ذلك في الحرب أم في السلم؟
الأرجح ان الذي طرأ على النساء من تبدل لأحوالهن ومواقعهن وأدوارهن، إثر الثورة النسوية البطيئة، ولّد ردة فعل رجالية عنيفة، هي تعبير عن عدم رضا هذا النصف الثاني من البشرية من آثار هذه الثورة وتداعياتها.
مقارنة سريعة للتوضيح: يهود أوروبا الذين عاشوا قرونا في أنظمة وأمكنة تمييز ثابتة، وبـ”سلام”، بدأوا يواجهون صعود العداء لهم، مجازر وحرائق وإبادة… بعدما منحتهم أوروبا، شيئاً فشيئاً، حقوقهم المواطنية، متأثرة بثورتها السياسية (الفيلسوفة الألمانية هانا أرندت تبين هذا التحول المفارِق في كتابها “حول العداء للسامية”). أقرب من ذلك، العنصرية الفجّة ضد السود في أميركا عادت بأغلظ الألفاظ والصور إثر انتخاب أوباما، نصف الأسود، رئيسا لها.
البنية الاجتماعية للنساء تغيرت، بعد خروجهن من بيوتهن وتبدل أدوارهن نتيجة هذا الخروج. لكن البنية الذهنية لم تتغير. بل أخذت راحتها في تسخيف النساء وتصغيرهن وتسليعهن، فضلا عن تعنيفهن…. انها واحدة من مفارقات الثورة النسوية، في واحدة من مراحلها: حيث تتعايش أقصى وأجدّ التعبيرات عن تحرر النساء ووعيهن بأنفسهم، مع أعتق التصورات عنهن وأشد الممارسات بدائية إزاءهن.
أول حجة قديمة-جديدة يرفعها أولئك المندوبين عن التعبيرات البدائية، شرقا وغرباً، هي القول بأن الضحية كانت “تكشف عن مفاتنها”، فأثارت “غريزة” الشاب “الآدمي” الذي وُجد أمامها، فانقضّ عليها… في إيطاليا مؤخراً، وضع القسيس الايطالي، الأب دون بيريو، على باب كنيسته إعلانا يحذر فيها المؤمنات من ارتداء ثياب “قليلة”، تجنّباً لإيقاظ “غريزة” الرجال الجنسية العنيفة ضدهن. ايطاليا كلها قامت ضده، حتى مطران منطقته الذي نهره. فما كان من الأب دون بيريو الا ان استقال بعدما امضى “ليلة بيضاء… في الألم وعذاب الضمير” اللذين قاساهما بسبب تصريحه هذا، الذي “يعتذر منه”… .
عند هذا الحدّ وقفت حجة القسيس العائش في الغرب؛ حدّ الهندام. في ربوعنا، حجة الهندام تأخذ حريتها المطلقة مع شيوخ الإسلام السياسي، فتحلق عالياً في سمائنا. فالأب الايطالي، كان يقصد بـ”الثياب القليلة”، بروز سيقان من هنا، أو ذراع من هناك. أما الداعي أو الخطيب المتأسلم، فهو الآخر يدين “تبرج” النساء و”عريهن”. ولكنه يقصد شيء آخر. فالنسبة العالية من النساء المغتصبات في مختلف البلدان العربية الاسلامية محجبات وأحيانا كثيرة منقبات أيضاً. ولا مجال للمقارنة بين “عري” الايطاليات اللواتي طالهن تأنيب الأب دون بيريو، و”عري” المحجبات والمنقبات والمتسترات، الذي يزجرنا به المتأسلمون. فيحققون بسكوتنا عن هذه الحجة أولى خطوات إعادتنا الى حيث كنا، ملازمات منازلنا. بعد هندامنا غير المحتشم، الذي يبرّر اغتصابنا، وبعد تمريرنا له بسكوتنا عليه، ينتقل الداعية أو الخطيب أو الإمام الى مرتبة أعلى من الحجة بسؤاله: “ولماذا اصلاً تخرجون في هذه الساعة من النهار؟”. حسنا: “ولماذا تأتون الى هذه الأحياء بالذات؟”، يتابعون. ويكون ما يكون الحي، ومعه ساعة الخروج عاديَين… ولكنهم لا يلاحظون. وسكوتنا عن هذه الاسئلة-الأجوبة يشجعهم على المضي في الحجة، بالقول انه لا حاجة أصلا الى خروج النساء من بيوتهن. هذه هي المواقف الأقصى تطرفاً طبعاً. ولكنها نهاية مطاف حجة تأخذ بيد الحانقين من خروج النساء لترشدهم الى المكان الذي يريحهم تواجد النساء فيه، أي الداخل. يبدأ هذا الإقصاء عن المجال العام بالحجاب، ويمر بالفصل بين الجنسين، وينتهي بنهاية الأدوار الجديدة التي منحتها الثورة النسوية للنساء، التي أخرجتهن الى فضاء الله الواسع…
هذا العنف، المتدرّج حينا، والمتسارع أحياناً، مرشح للتزايد مع صعود الاسلام السياسي الى السلطة. بشائره الأولى ما يحصل في مصر وتونس خصوصا، ما يُقال وما يُقترح وما يُتداول من مشاريع قوانين تلغي تجريم التحرش الجنسي، أولى درجات الاستباحة، ناهيك عن تجريم المتحرَّش بها قانونياً أو معنوياً، أو المغتصبة. قد نصل الى مرحلة، شبيهة بتلك التي تعرفها باكستان “الاسلامية”، وقانوها المعمول به بدءاً من العام 2006، والقاضي بتثبيت جريمة الاغتصاب عبر أربعة شهود ذكور، وإلا فالعقوبة تقع على المغتصبة بتهمة “إقامة علاقات زنا”! (وكيف يثبتون في هذه الحالة جريمة “الزنا”؟ هذا ما لا يوضحه القانون…)
العنف ضد النساء إلى تصاعد، مع انخراطهن بأدوار جديدة، وفي مجالات غير مسبوقة. وما تسلّم الاسلام السياسي مقاليد الأمور في ديارنا إلا جرعة إضافية لهذا العنف. هل هناك طريقة للتخفيف من درجاته ونسبه؟ من دون الطموح الأقصى بالغائه؟ بعض الجمعيات النسوية بدأت تنتبه الى العنصر الحاسم في العملية، أي الرجل؛ فتتوجه إليه أيضا، إلى تحولاته، مخاوفه، هواجسه حول ذكورته المهددة، اضطراب دوره هو نفسه الخ.
هذا توجه ثقافي ذهني يكسر احتكار النساء لقضايا النساء، والذي لا يلتفت، بالتالي، الى ما طرأ على الرجال من تبدل نتيجة تغير النساء. ذاك الغيتو الثقافي الفكري الذي يتعاون على ابقائه الجميع، من ليبراليين أو حداثيين. الذي يستثمره الإسلام السياسي من دون عناء فكري يُذكر…
dalal.elbizri@gmail.com
كاتبة لبنانية
المستقبل