أثار الاستفتاء الشعبي الذي سيتم يوم 27/5 الجاري من أجل التجديد لرئيس الجمهورية السورية ولاية ثانية مدتها سبعة سنوات أسئلة حول علاقة الاستفتاء بالانتخاب وبالتالي بالديمقراطية.
أمتد الصراع بين السلطة والمجتمع على الحقوق والواجبات وعلى النظام السياسي المناسب الذي يحد من تصرف الأفراد خارج القانون الناظم للعلاقة بين الأفراد بعضهم ببعض وبين الأفراد والسلطة ويحد من تمدد السلطة وتجاوزها على حقوق الأفراد والمجتمع قرونا قبل أن تستقر العلاقة وتتكرس في دستور ينظم العلاقة ويحدد الأدوار والسلطات وطرق تشكلها وممارستها لصلاحياتها .
لقد بدأت الدساتير تاريخيا كأدوات للحد من السلطة .فالدساتير التي تصدرها الشعوب ليستعملها الحكام الذين يأتون من الشعب بطرق مشروعة،والذين يصبحون عند توليهم الحكم خارجه وفي مواجهته،فهم الطرف الآخر في العلاقة الدستورية، تفترض التفرقة بين الحكام والمحكومين.وتحدد نظام ممارسة السلطة على الوجه الذي لا يتوقف على الحكام أنفسهم.فالسلطة لا تنبع من الحكام ولا تتوقف غايتها عليهم إذ أنهم حين يتولونها يجدون أنها محددة من قبل بالقواعد الدستورية فلا يكون ثمة دور يلعبونه إلا ممارستها في تلك الحدود المرسومة لها .
ولا شك في أن النص في الدساتير على ما هي السلطة وحدودها وشروط ممارستها ومن يتولاها وكيف تكون ولايتها لازم لقيام نظام دستوري .
وقد أضاف التطور الدستوري إلى كل هذا قواعد وأحكام تحدد ما يجب أن يكون جوهر القرارات والقوانين التي يصدرها الحكام في حدود اختصاصاتهم الدستورية الشكلية في شكل مبادئ ناظمة.وتلك المبادئ لا تقرر سلطة مضافة إلى السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية ولا تحدد اختصاصات لمن يتولاها ولا تتضمن بيانا بإجراءات نفاذها ،إنها تفعل ما هو فوق هذا كله .أنها تحدد الغايات التي يجب على من يتولى السلطة أن يستهدفها وهو يمارس سلطاته المقررة في الأبواب الأخرى.
ومن هنا فإن شرعية تصرفات الحكام لم تعد متوقفة على مجرد توفر الشروط الشكلية :أن تصدر من مختص في حدود اختصاصه بل أضيف إليها شرط آخر: أن تكون متفقة ومؤدية إلى الغايات والأهداف السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي عينها الدستور.
وكان هذا التحديد للحقوق والواجبات في حدود الدستور والقانون وللسلطات والأدوار التي تقوم بها وطرق ممارستها لها بداية مهدت لقيام النظام الديمقراطي.
وقد استقر، قبل أن ينقض القرن التاسع عشر، إن الوجه الديمقراطي لأي نظام ليس وجهه الحكومي بل هو ما يتمتع به الشعب من مقدرة على التعبير عن إرادته فبرز ما أصبح يعرف بـ “الرأي العام” وجسد ذاته في ممارسات ونظم ومؤسسات حيث لم يعد أحد ينكر انه لا ديمقراطية دونها مهما كانت المؤسسات الحكومية.
وقد حدد فقهاء القانون الدستوري عناصر الرأي العام بـ حرية التعبير،حرية الاجتماع،حرية الصحافة ….الخ. وأوضح هؤلاء الفقهاء أن حرية التعبير المقصودة هنا حرية التعبير خارج البرلمانات،وحرية الاجتماع خارج مجالس الوزراء واللجان الإدارية بغير دعوة أو تكليف من أية سلطة حكومية،وحرية الصحافة حرية إصدار الصحف غير الرسمية….الخ. فالديمقراطية تقوم خارج مؤسسات الدولة وحيث يوجد الشعب.
وقد تطور الأمر ليستقر على أن “لا ديمقراطية دون معارضة” و”لا ديمقراطية دون أحزاب سياسية”.
والمعارضة هنا مستويان معارضة داخل البرلمان،يمثلها النواب الذين لا يشاركون بالحكومة،وتحاول أن تعبر عن الرأي الآخر أو رأي الشعب في مواجهة الحكومة.والمعارضة خارج البرلمان وتجسدها الأحزاب التي لا تقبل رأي الحكومة أو سياساتها وبرامجها.
وأما علاقة الأحزاب بالديمقراطية فتتأتى من كون الأحزاب منظمات شعبية،فهي ليست أجزاء من الحكم القائم ،أي حكم قائم،فإذا تولى حزب ما الحكم أصبح حكومة .ولا تعتبر الحكومة ديمقراطية لمجرد أنها حكومة حزب بدلا من أن تكون حكومة فرد.والواقع أن مجرد أن تكون الحكومة حكومة حزب لا يعني شيئا ذا دلالة خاصة بالنسبة إلى الديمقراطية،بل قد تكون تعبيرا عن استبداد الحزب بالحكم دون الشعب ما يعني أن الأحزاب المقصودة في مقولة “لا ديمقراطية دون أحزاب سياسية” أحزابا خارج الحكم،أحزابا غير الحزب الحاكم.
وهذا يعني أن الممارسات الديمقراطية والمؤسسات المعترف بأنها لازمة للديمقراطية تتم وتقع خارج نطاق ممارسة الحكم ومؤسسات النظام الحاكم .الاقتراع يقوم به أشخاص من خارج النظام ،حريات التعبير والرأي والاجتماع والصحافة تتم ممارستها خارج النظام،الرأي العام يتجسد خارج النظام.فبقدر ما تتواجد هذه المنظمات الشعبية وتنشط بقدر ما يأخذ النظام صفة نظام ديمقراطي.
وقد أضيف الاستفتاء الشعبي إلى لائحة الممارسات المجسدة للديمقراطية والتي تعبر وتكرس سيادة الشعب باعتباره مصدر كل السلطات.
عرف الاستفتاء الشعبي،كأسلوب ديمقراطي،أول ما عرف في التقاليد القديمة لنظم الحكم في المقاطعات السويسرية .لكن أهميته بدأت في الظهور بعد الحرب العالمية الأولى في دول وسط أوروبا فبدلا من أن يكون الاستفتاء الشعبي منظما احتياطيا لنشاط النظام النيابي أو عاملا ثانويا بجواره ادخل في صلب النظام بالدستور وأصبح فيه الضابط الرئيسي إن لم يكن ضابطا موازيا للتمثيل النيابي.
تنطلق فكرة الاستفتاء الشعبي ،الذي يوصف في الأدبيات الدستورية بـ”الديمقراطية المباشرة” من كون الشعب في النظم الديمقراطية مصدر السلطات وبالتالي يمكن العودة إليه في القضايا المستجدة والاحتكام إليه عند كل خلاف تعجز السلطات التنفيذية والتشريعية عن الاتفاق على حله.
والاستفتاء الشعبي أسلوب بسيط من مرحلة واحدة حيث يطرح على المواطنين سؤالا محددا ويطلب منهم الإجابة عليه بـ “نعم” أو “لا” .وهذا جعله أسلوبا غير مناسب لانتخاب رئيس جمهورية.إذ الانتخاب وسيلة يقوم الشعب عن طريقها باختيار أحد البدائل المعروضة عليه.وهو غير مستخدم في انتخاب رئيس جمهورية إلا في الدول الشمولية التي تحصر الترشيح إلى المنصب بشخص واحد: قائد سياسي أو حزبي أو عسكري بما يسمح بالاقتراع بـ”نعم” أو”لا “. وجعله أيضا،بسبب هذه الطبيعة البسيطة،عرضة للتلاعب به وبنتائجه.فقد عرض على الشعب الفرنسي عام 1946 مثلا مشروع دستور مكون من 120 مادة للإجابة عليه بـ “نعم” أو “لا”. وعرض على الشعب المصري عام 1979 الاستفتاء على “معاهدة السلام المصرية – الإسرائيلية وأسس تنظيم الدولة تدعيما للديمقراطية”معا في استفتاء واحد للإجابة عليهما بـ ” نعم ” أو ” لا ” واحدة.علما أن مشروع تنظيم الدولة المطروح في الاستفتاء قد تضمن حل مجلس الشعب الذي وافق على المعاهدة المصرية – الإسرائيلية المذكورة في الاستفتاء.
لهذا فقد استخدم الاستفتاء الشعبي كثيرا في النظم الشمولية في تمرير قرارات سياسية خارج المؤسسات الدستورية،وفي أحيان كثيرة على الضد من رغبة وإرادة هذه المؤسسات،وبشروط وآليات تجعل نتائجه مضمونة،دون أن نغفل التلاعب بالنتائج عبر التزوير. ففي أول استفتاء شعبي حصل في فرنسا عام 1793 كانت نسبة من قالوا “نعم” فيه99,99 %. ولم تقل هذه النسبة عن 90% في خمسة استفتاءات جرت خلال نصف قرن(1800 دستور نابليون،1802 نابليون قنصل مدى الحياة،1804نابليون إمبراطور،1850 تفويض لويس نابليون في وضع دستور ،1852 لويس نابليون إمبراطور).
وفي أسبانيا طرح الجنرال فرانكو عام1966 قانون الوراثة من بعده على الاستفتاء الشعبي فأسفر عن أن عدد الذين قالوا “نعم” أكثر من عدد المسجلين في جداول الاقتراع.
وفي مصر أعلن أن نسبة الذين قالوا “نعم” في استفتاء على بيان 30 مارس1968 كانت 99,99%.والنسبة في الاستفتاء على ورقة أكتوبرعام1974كانت 99,95% والنسبة في الاستفتاء على مبادئ حماية الجبهة الداخلية والسلام الاجتماعي عام 1978 كانت 98,29%.
والنسبة في الاستفتاء على معاهدة السلام المصرية – الإسرائيلية وأسس تنظيم الدولة تدعيما للديمقراطية عام 1979 كانت 99,90% .
وفي سورية لم تقل النسبة في الاستفتاءات على ترشيحات حافظ الأسد خلال سني حكمه المديدة(1970- 2000 ) عن 95% بينما كانت النسبة في الاستفتاء على ترشيح بشار الأسد عام 2000 هي 97,29%. وأما أكثر النسب إثارة للانتباه فنسبة الـ 100 % التي حصل عليها صدام حسين قبيل الغزو الأمريكي للعراق.
لقد تحول الاستفتاء الشعبي في كثير من الحالات إلى أداة لمخالفة الدستور وإلغاء المؤسسات الدستورية ،وإلغاء حريات العقيدة والرأي والتعبير والاجتماع والصحافة…الخ. كما تم استخدامه كستار لتغطية القرارات الفردية أو التي تعبر عن إرادة أقلية- حيث أن المرجع في معرفة ما إذا كان قرار ما مستبدا أو غير مستبد،كما قال أستاذنا المرحوم الدكتور عصمت سيف الدولة،إلى أمرين :أن يكون معبرا عن إرادة فرد أو أقلية (إلغاء التعدد) أو أن يكون متضمنا استئثار فرد أو أقلية بالإمكانات المتاحة في المجتمع أو أغلبها (إلغاء المجتمع)- أو في فرض القرارات الفردية على الشعب بالإكراه.
وقد اتفق فقهاء القانون الدستوري على أن الاستفتاء الشعبي يكون غطاء للاستبداد في ثلاثة حالات :
1 – أن يتم على قضية محرمة دستوريا.
2 – أن يتم على قضية تخالف نصا دستوريا.
3 – أن يتم على قضية لا تتفق مع المبادئ الأساسية التي نص عليها الدستور.
وبها يتحول الاستفتاء الشعبي من ممارسة الديمقراطية إلى أسلوب لفرض الاستبداد.وهو أخطر من أي استبداد آخر.ففيه تخسر الشعوب كل مكاسبها ،وترتد إلى مراحل الاستبداد المتخلف. استبداد المتألهين ،وتترك في طريق ردتها كل ما كانت قد تعلمته من المساواة والحرية وسيادة القانون والديمقراطية النيابية ،والأمل في الديمقراطية الشعبية ،دون أن تتلقى صدمة الاستبداد التي تنبهها إلى أنها وهي تحاول أن تملك كامل إرادتها من خلال الاستفتاء الشعبي تخسر حريتها بالاستفتاء الشعبي.وليس ثمة خطر على حريات الشعوب أشد فتكا من الاستبداد بها بأسلوب لا شك في ديمقراطيته .ليس ثمة خطر على حريات الشعوب أشد فتكا من الاستبداد الديمقراطي.
أين ما يجري في سورية من هذا؟.
صممت صيغة الاستفتاء الشعبي في سورية لتتناسب مع طبيعة السلطة السياسية التي تحكم سورية منذ انقلاب 8 آذار 1963.إذ لما كان حزب البعث الحاكم هو”الحزب القائد في المجتمع والدولة” بحسب المادة8 من الدستور الدائم ،وضع عام 1973، فقد أعطى هذا الدستور حق اختيار المرشح لمنصب رئيس الجمهورية للقيادة القطرية لهذا الحزب وحدد في الفقرة 1 من المادة 84 :يصدر الترشيح لمنصب رئاسة الجمهورية عن مجلس الشعب بناء على اقتراح القيادة القطرية لحزب البعث العربي الاشتراكي ويعرض الترشيح على المواطنين لاستفتائهم فيه.
ولما كان رئيس الجمهورية هو الأمين القطري لهذا الحزب( أعلى مرتبة تنظيمية في هذا الحزب) فقد استقر الأمر على اختياره مرشحا وحيدا من قبل القيادة القطرية للحزب،وعرض الترشيح على مجلس الشعب الذي أعطاه الدستور حق البت في الاقتراح – علما أن موافقة مجلس الشعب تحصيل حاصل حيث أن الحزب الحاكم يسيطر مع أحزاب “الجبهة الوطنية التقدمية” المتحالفة معه عليه عبر حصتهم الثابتة في مقاعده (أكثر من سبعين في المائة)- قبل عرضه على الاقتراع الشعبي .
ودور الشعب في العملية هو التصويت فقط . فالشعب ليس له إلا حق الاقتراع على المرشح الوحيد المعروض عليه.وهذا جعل الاستفتاء على منصب رئيس الجمهورية في سورية أبعد ما يكون عن الانتخاب من جهة وينطوي على عملية قسر وإكراه من جهة ثانية.
أين الإكراه ؟.
يتجسد الإكراه في انعدام القدرة على الاختيار فيكون الشعب مكرها على قول “نعم”.
ويتجسد في تحدي المؤسسات الشعبية ( الأحزاب ،النقابات،منظمات المجتمع المدني الأخرى) بإرادة الشعب.
ويتجسد في،وهو اخطر أنواع الإكراه،وضع الشعب أمام خيار بين الاستبداد أو الفوضى بين قوانين معيبة ولا قوانين،بين الاحتكام إلى القوانين ناقصة السيادة والاحتكام إلى القوة السافرة، بين لا أحزاب وأحزاب غير شرعية .
لقد درجت السلطة السورية على استخدام الاستفتاء الشعبي ،وهو أسلوب ديمقراطي بامتياز، في تمرير قرار غير ديمقراطي بامتياز أيضا.كان أستاذنا المرحوم الدكتور عصمت سيف الدولة قد أطلق وصف ” استبداد ديمقراطي ” على هذه الممارسة الديمقراطية شكلا الاستبدادية مضمونا. وقد زاد في سلبيات هذا السياسة عدم تحديد الدستور السوري لعدد ولايات الرئاسة (بقي الرئيس السابق حافظ الأسد 30 سنة متواصلة من 1970 إلى أن توفي عام 2000).
*كاتب سوري.
اعتمدت في وضع هذا النص على ما كتبه الدكتور عصمت سيف الدولة في كتابه الاستبداد الديمقراطي.
ali.a1950@gmail.com