أن تتغرب فتاة مسلمة في العشرينات من عمرها، عن قريتها في أقاصي إندونيسيا، أو من أرباض إثيوبيا، لتعمل كخادمة في أحد منازل أية عائلة محلية، لتختلط، حتماً، بذكور أغراب عنها، تحت سقف واحد، لتوفر راتبا زهيداً تسد به احتياجات أسرتها القابعة في بلادها، فذلك مسلك شائع لا يتلقفه الرأي العام المحلي كاختلاط مذموم، أو يُدخله مسيسو المسألة ضمن إحصاءاتهم عن خروج المرأة المسلمة إلى مضامير العمل، حيث “باب الشر، ورواق الفتنة، والمدخل إلى بلاء المجتمع والأمة”.
أما أن تسعى نساؤنا وفتياتنا لإثبات ذواتهن، أو للارتقاء بأوضاعهن الشخصية والعملية والاقتصادية، بشغل فرص عمل كريمة وواعدة، في المؤسسات الإنتاجية المتفرقة، أو باقتناص فرص ابتعاث تعليمية واعدة – فإن ذلك سيوصم مباشرةً باختلاط شائن، أو على الأقل، مؤامرة من الغرب وفريق داخلي عميل لذلك الغرب، لتقويض الفضيلة والأخلاق في مجتمعنا المسلم – وأمر يستدعي تجنيد كافة الفعاليات الموالية لممانعته وتجريمه وكبحه.
إن ذلك التناقض، وغيره من الأمثلة في عشرات ومئات المسائل اليومية الشبيهة التي نعيشها، إنما هو تعبير صادق عن شكل وحجم المأزق الفقهي المعاصر الذي نعيشه، ولا نكاد نبرحه صوب أي انفراج أو حسم.
فما وصلنا إليه من مأزق – أو قل مآزق-، هو نتيجة مزدوجة لحكم محددات الجمود على العقل الفقهي، وانغلاق الإحيائية الدينية على ذاتها وتراجع مكاسبها، بل وجنوحها الراهن نحو الأيديولوجيا. إذ إن أية محاولات ودعوات تروم إصلاح الخطاب الديني، ومراجعة الأحكام الشرعية السائدة، بل والأعمق، تقصد نقد الآليات الحاكمة للعقل الفقهي برمّته، إنما تواجَه مباشرةً من قوى ممانعة التغيير التقليدية، بالرفض والعداوة المعلنة، إضافة إلى ما يسميه الدكتور رضوان السيّد، بـ”استشراس الإحيائية الدينية المنغلقة”، مما يكشف الغطاء عن أزمة حوار وثقة حقيقية.
إن دعوات نقد العقل الفقهي التقليدي، إنما نلخّصها في دعاوى إصلاح القواعد المنتجة والآليات الحاكمة، ومحاولات تحويل مؤشر بوصلة اهتمام النخبة الفقهية من آلية القياس الحاكمة (أو الاستدلال وباقي آليات العلل)، نحو مقاصد التشريع والاستيعاب. كما في الوقت ذاته، توجيه نقد سيسولوجي، يريد إبطال دعاوى الإحيائية الأيديولوجية، وتبيان استحالتها التأصيلية، وظرفيتها الفقهية.
إننا نقدّر أن المشتغلين بإنتاج الشريعة ومخرجاتها من فتوى وأحكام، يقدمون ولاءهم في الامتثال إلى القواعد الفقهية والمناطيق الأصولية والآليات الحاكمة، كلُ في دائرة مذهبه، إلا أن ذلك تقيّد لا يجب أن يصرفهم عن ضرورات النقد والاجتهاد في الآليات والقواعد، بل وتجاوزها واستبدالها. ناهيك عن جناية ذهول الكتلة الفقهية التقليدية على الانتباه لضرورات مواكبة النوازل والمستجدات ومسايرة تطلعات التجديد والتغيير، على شكل الخطاب ومخرجات الشريعة.
أما حركات الإحياء الديني، فإن فعالياتها، آن لها أن تدرك أن المرحلة لم تعد في صالح فكرها: فالفكر الإحيائي أساساً هو فكر هويّة وتمسّك بالأصول، نشأ في مراحل تنامي أطماع وممارسات الاستعمار الخارجي والخروج من أديم مراحل الانحطاط الحضاري الداخلي، مما يبرر مضمونه الحضاري المنغلق، ومنهجه الفقهي التأصيلي الضيّق. حيث، على النقيض، فان المرحلة الحالية هي مرحلة استقرار وبناء وتعمير، تستدعي فكراً إصلاحيا وتجديداً حضارياً، يتعامل بمرونة مع دعاوى توسيع الآليات الفقهية الحاكمة وتجاوزها.
عليه فإن استمرار دعاوى أسلمة الإسلام، وتكريس الغلقة الحضارية، والتزمت إزاء الذات، الذي تمثله الأفكار الإحيائية، لا تضحي فاقدة لمعقوليتها فحسب، بل إنها تتورط في مطب الأدلجة، أي التوظيف السياسي المنصرف عن ظرفية وتاريخية نشوئها أول مرّة، مما يحيل فكرها إلى فكر خارج التاريخ.
إن عمل المرأة مثلاً، وتعليمها وابتعاثها، ورفع معوقات نمو تجارتها وأعمالها، ومشاركتها الطبيعية في المنتديات الاقتصادية، والفعاليات العامة والاجتماعية (بالضوابط الأخلاقية البديهية والمعقولة) هو أمر يصب في صميم التنمية. بيد أن جمود المؤسسة التقليدية، وانصرافها عن ضرورات الاجتهاد الفقهي، كما أن انتهازية حركات الإحياء الديني السياسية، أدت (وتؤدي) إلى تكريس التخلف، وضياع الفرص، وتقلص المكاسب، كما أنها بلا معقوليتها على مستوى التفكير والمعرفة، تطبع شكل الاقتصاد العام بطابع من اللامعقولية التحليلية، واللامنهجية التخطيطية، وتشتت المرجعية القانونية.
ففي قضية توظيف النساء المحليات، في قطاعات التجزئة، المتضمنة تعاملاً مباشراً مع الجمهور المختلط، وبعد أن مُنح التوجه إقرارا عقلياً من السياسي، بل، وطبق فعلياً لدى بعض المؤسسات التجارية (كحالة مركز قزاز)، طل علينا التحالف المصلحي بين التقليدية الرسمية، والإحيائية الأيديولوجية، لإبطال القرار، وضرب المصالح التنموية والاقتصادية في مقتل، كما أدى إلى تكريس حالات اللامعقولية واللامنهجية والتشتت على شكل الاقتصاد وأدوات التخطيط.
إن تصرف الكتلة الممانعة، في المعلن منه، وإذا أسرفنا في إحسان الظن، كان مدفوعاً برغبة أخلاقية صادقة في حماية المجتمع من التوترات، وذاك أمر صحيح، إنما فقط كانسجام مع الآليات الفقهية الحاكمة الآنية لاهتمامات تلك الكتلة. فالتحدي هنا، يكمن في إشاعة الوعي بتجاوز تلك الآليات الفقهية الحاكمة نفسها، نحو آليات وقواعد أصولية (ومناطيق لفظية ودلالية) جديدة، كمقاصد التشريع كما أسلفنا، لتأتي المخرجات منسجمة مع الأولويات الحضارية، وخاضعة لسلم ترتيب المقاصد من الشريعة، وفي الوقت ذاته متصالحة مع نفسها، على اعتبار أنها ستكون متصالحة مع مرجعيتها الأصولية الجديدة.
إذ إن تبدل أولويات النخبة الفقهية، بات أمراً ملحاً، نحو دعم واستيعاب قضايا التنمية والنهوض والخروج من حالات التخلف، في سبيل الارتقاء بأوضاع الإنسان، كما الارتقاء بالفكر ليُضرب بطابع معقولي وتنظيمي. بدلاً من الاستمرار في الامتثال إلى حرفية القواعد المذهبية؛ تاريخية الاطراد وماضوية الاجتهاد.
إن وعي وإرادة النخبة الفقهية المثقفة، في إعادة صياغة أسس منهج الخطاب، قمين بإعادة إنتاج مخرجاته الفقهية، بما يرعى دعم الأولويات الحضارية، مما بإمكانه أن يغير العقل الفقهي إيجابا، ويدفع بنا نحو المعالي الحضارية، ودون إحداث أي جرح داخلي أو تفريط في أصول – وتلك هي فضيلة الفضائل.
دور السلطة السياسية الأخلاقية، هنا، لابد أن يكون طليعياً في صف التغيير والتحديث؛ فالذي لا ينمو يتضاءل ويُزاح، والذي لا يواكب حركة التاريخ وتحولات المجتمع كمن يعترف سلفاً بهزيمته، والذي لا يحدّث نفسه ومنظومته القيمية يخضع، والذي ينعزل عن تأثيرات الخارج يغدو لعبة للقوى والأطماع الخارجية (والداخلية). كما أن واجبها أن تلعب دور المراقب المحايد، المقيم لمنطق التراكم المعرفي (الابستمي)، لينمو الفكر دون أن تتعسف بعملية نموه أية املاءات أيديولوجية أو أية مصالح سياسية تمنع الضوء أو الهواء عن أطراف دون أطراف.
mahmoud_sabbagh@hotmail.com
* كاتب سعودي