الإمتيازات الأجنبية في مصر

0

عندما بدأ النظام الإقطاعي في أوروبا يتهاوى، ونشطت حركة الإنتقال والإبحار والتجارة، وجد التجار من مدينة إلى مدينة، إختلافا في العادات بين الناس، وتباينا في الأعراف المحلية، وتغايرا في طرائق الحماية ؛ كما شقّ عليهم عُسف السلطة التي لم تكن تتقيد بنظم محددة مضمونة، واضطراب القوانين التي لم تكن واضحة منظمة، ومظالم القضاة الذين لم يكونوا مستقلين ولا متخصصين ولا محايدين. وإذ شرع ذلك في التأثير على حركة التجارة وتداول البضائع وتنامي الثروة، فقد بدأت بيزنطة – عاصمة الإمبراطورية الرومانية الشرقية – في عقد إتفاقيات مع بعض المدن الإيطالية والفرنسية، بقصد تحرير التجارة، أدت إلى منح بعض الإمتيازات إلى التجار، بما يكفل لهم الأمن والعدل والسلام.

ويلوح أن ما فعلته بيزنطة (القسطنطينية، والأستانة الآن) شاع في العلاقات التجارية والسياسية. ففي القرن التاسع الميلادي حصل التجار العرب من السلطات الصينية في كانتون على بعض الإمتيازات (Capitulations).

وخلال الإتصالات التي حدثت بين هارون الرشيد (786 – 808م) وشارلمان (742 – 814م) إمبراطور الغرب وملك الفرنجة ؛ تمت اتفاقيات بينهما للتسهيل التجاري وتنظيم حقوق المرور في المناطق الخاضعة لنفوذهما، وتحديد مزايا قانونية للقناصل.

وفى 1251 حصل سانت لويس ملك فرنسا من الخلفاء المسلمين على حقوق خاصة للقناصل الفرنسيين في طرابلس (لبنان) وفى الإسكندرية، أكدها من بعده ابنه فيليب لي هاردى.

وفى 1290 منح الملك المنصور (في مصر، وهو من المماليك) عهدا يتضمن إمتيازات إلى قنصل جنوا في الإسكندرية. وفى القرن التالي مُنحت هذه الإمتيازات لفرسان رودس وللفرنسيين. وقد أكد هذه الإمتيازات سليم الأول (1512 – 1519م) وابنه سليمان الثاني (1519 – 1566م).

سليم الأول سلطان العثمانيين غزا مصر، مقر الخلافة العباسية آنذاك (1517)، وأكره الخليفة (المتوكل على الله محمد بن المستمسك) على التنازل له عن الخلافة الإسلامية، ثم نقل سليم الأول مقر الخلافة من القاهرة إلى الأستانة، بيزنطة والقسطنطينية من قبل، صاحبة التقاليد التجارية العريقة التي منحت للتجار الأجانب عنها إمتيازات تسهّل لهم التجارة وتنعش فيها الإقتصاد وتجعل منها مركزا مهما في المنطقة كلها.

ووافق سليم ثم ابنه سليمان من بعده على الإمتيازات التي كانت قد مُنحت قبل ولايتهما. غير أن إنتقال الخلافة الإسلامية إلى الأستانة، وصيرورة السلاطين العثمانيين في مسند الخلافة، دعا إلى محاولات فقهية لإضفاء المِسْحة الإسلامية على الإمتيازات الأجنبية في بلاد السلطنة العثمانية، ومنها مصر.

كان الفقه الإسلامي بعدما اتسع نفوذ الخلافتين الأموية والعباسية وامتد إلى مناطق كثيرة، قد ابتدع تخريجا مؤداه قسمة العالم إلى قسمين : دار السلام (أو دار الإسلام) وهى البلاد التي تخضع لحكم مسلم وتطبق فيها أحكام الشريعة الإسلامية (مع أنهم خلطوا بين الشريعة والفقه)، ودار الحرب وهى أي بلد أو مكان آخر سوى دار السلام. ومن مقتضى هذا التقسيم، بمسمياته، أن البلاد أو الأماكن أو الأمم التي لا تندرج في دار السلام تدخل فيها تُعدّ بلادا وأماكن وأمما محاربة، لا يجوز عقد أي معاهدة معها تفرض السلم وتضع الحرب، إلا أن تكون هدنة مدتها على الأكثر عشر سنوات، قياسا في ذلك على صلح الحديبية، الذي عقده النبي(صلعم) مع الأعداء من أهل مكة (سنة 6هـ). وإعمالا لهذا الفقه الذي اختلط بالشرع، فامتزج ما هو إنساني بما هو مقدس، قوى الاتجاه بعدم عقد أي اتفاقيات تجارية مع بلاد أوروبا، التي تقع في نطاق دار الحرب، والإستعاضة عنها بإجراء آخر، يوافق ظاهر الفكر الإسلامي ويتحايل على المبدأ الفقهي (المظنون خطأ بأنه شرعي) والذي يمنع التعاهد والتعاقد مع البلاد والأماكن والأمم الكائنة في دار الحرب، بمعاهدة تزيد مدتها على عشر سنوات، ولا تكون هدنة في حرب، يسبقها قتال ويلحقها قتال، كما كان الوضع الذي عُقد فيه صلح الحديبية. إذ ذاك تفتّق التحايل الفقهي عن فكرة أن يُصدر السلطان براءة سلطانية (أودكريتو أو فرمانا) يتضمن وعودا مؤكدة بمنح من يصدر له الأمر امتيازات معينة (Imperial diplomas containing sworn promises) وبهذه البراءات (أو الديكريتو أو الفرامانات) تجنب السلاطين معاملة غير المسلمين من أهل دار الحرب معاملة تقوم على قدم المساواة بين الطرفين، أو تُفرغ في هيئة معاهدات محظورة فقهيا (يُظَن أنها ممنوعة شرعياً).

نتيجة لهذا الوضع، صار من اليسير غير العسير، أن يُصدر السلطان براءة (أو دكريتو أو فرمانا) بمنح امتيازات خاصة لمن يريد من الأجانب، أهل أوروبا، ومن ثم توالت الإمتيازات، والتي كان التقدير وقت إصدارها أنها ليست حقوقاً لمن مُنحت له ترتب التزامات على السلطنة، وإنما هي إمتيازات ممنوحة يمكن الرجوع فيها أو العدول عنها، إذا ما عَنّ ذلك للسلطنة أو حَِزب أمر إلى إلغائها ؛ وهو تقدير أتت الأيام بعكسه، بعد أن قويت شوكة الدول الأوروبية، فصارت الإمتيازات حقوقاً لأصحابها لا يمكن الرجوع فيها أو العدول عنها، وكان أسوأ حال لذلك ما حدث في مصر، على نحو ما سوف يلي.

حصلت انجلترا من السلطان العثماني على إمتيازات تجارية خاصة بالتجار وبمواطنيها وممثلها القناصل سنة 1579، وتبعتها في ذلك هولندا سنة 1598، ثم هنجاريا (المجر) سنة 1615، والروسيا سنة 1700، والسويد سنة 1737، ونابولي سنة 1740، والدنمارك سنة 1756، وبروسيا سنة 1781، واسبانيا سنة 1782، والولايات المتحدة الأمريكية سنة 1761، وبلجيكا سنة 1838، والاتحاد الألماني (بروسيا وباقي البلاد الألمانية) سنة 1840، والبرتغال سنة 1843، واليونان سنة 1854.

(المرجع الرئيسي: E.SAMAD, La Question D’ Egypt, 1841 – 1939 , Paris , 1938).

بطبيعة الحال، كان الأمر (الدكريتو أو الفرمان) الذي يصدر عن السلطان العثماني يسرى على كل البلاد الخاضعة له، وأولها مصر؛ مما استتبع باللزوم والضرورة أن تسرى كل الإمتيازات الأجنبية السالف بيانها في مصر، ويتمتع بها أبناء البلاد صاحبة الإمتيازات في التجارة وفى الإقامة وفى التملك. وساعد على ذلك موقع مصر الجغرافي الفريد، ومكانتها في التجارة العالمية، والتنافس بين الدول الأوروبية – وخاصة فرنسا وبريطانيا وألمانيا والروسيا – للحصول على وضع متميز فيها، وهجرة كثير من الأوروبيين إليها، وكان أغلبهم يبحث عن عمل أو ينشد صيداً.

وبينما كانت الإمتيازات أصلا تهدف إلى أن تكون عونا للبلاد مانحة الإمتياز صارت عبئا ثقيلا عليها، واستُغلت أسوأ استغلال من الشذّاب (عديمو النفع ممن لا موطن لهم) والأفاقين بل ومن المجرمين. وعُنى كثير ممن ليسوا من أهل البلاد صاحبة الإمتياز أساسا بأن يحصلوا على حماية بلد منها، حتى يجدوا أنفسهم في منعة من تطبيق القوانين أو النظم المحلية عليهم، وعدم الخضوع لأحكام الإدارة ورقابتها أو المعاناة من انحراف السلطة وسوء استخدامها.

ساعد على ذلك حال النظام القانوني والقضائي في السلطنة العثمانية، وفى مصر. فالقانون بصفة عامة كان يعد في هذه السلطنة تعبيرا عن إرادة الحاكم (السلطان)، لصيقا به هو، ينتهي العمل به بعد وفاته إلا إذا صدر تجديد من السلطان التالي لاستمرار العمل بأحكام قانون معين أو قوانين بذاتها.

ومعنى ذلك أنه لم يكن ثمة ضمان بوجود نظام قانوني عام ثابت، ما دام القانون مشخصناً في السلطان، متعلقا بإرادته إن شاء أبقاه وإن شاء ألغاه، وهو – في كل الحالات – ساقط بوفاة السلطان زائل بانتهاء ولايته. يضاف إلى ذلك أن السلطنة نفسها لم تكن مستقرة وطيدة، فالحكم – طوال السلطنة العثمانية – لم يكن للشعب ولا لأشخاص مختارين منه، بل كان في الغالب في يد ما يُعرف بنظام البادْشاه (أي ملك الملوك أو الإمبراطور) وهم أفراد يؤخذون من مناطق مختلفة، كثيراً ما تكون بلاد شرق أوروبا التي كانت ضمن بلاد السلطنة، ثم يُدربون على الحرب، ويختار منهم الوزراء وكبار رجال السلطنة، فيكون ولاؤهم المطلق للسلطان نفسه، لأنهم بغير روابط مع الشعب ودون علاقات عائلية. ومع الأيام قويت شوكة هؤلاء، وصارت السلطة الفعلية في أيديهم، بل واستطاعوا تغيير السلاطين واغتيال من أرادوا.

لم تكن أحكام الشريعة ومبادىء الفقه مقننة في مواد، مرتبة في موضوعات ؛ وإنما كانت في بطون الكتب وعلى حواشي المتون، غير معروفة للكثيرين، وغير محددة سلفا للمسلمين أو لغير المسلمين. وكانت أحكام الشريعة تطبق في مسائل الأحوال الشخصية من زواج وطلاق ومواريث ووصية فقط. وكان يوجد في مصر قاض لكل مذهب من المذاهب الأربعة: الحنفي والمالكي والحنبلي والشافعي. وفى سنة 928 هـ رسم السلطان سليمان ابن سليم الأول بإبطال نظام قضاة المذاهب الأربعة، ومنعهم من التصرف في القضاء بالديار المصرية وسلّم جميع الأحكام لقاض واحد من قضاة الروم هو قاض العسكر (قاض عسكر، أي قاضى عسكري) بحيث لا تصح عقود أو أوقاف أو وصايا أو عتق أو حُجة حتى تعرض على قاض العسكر الرومي. وكان القضاة – شأن قاضى العسكر – يُعينون من الأستانة ولا يقتضون مرتبات، بل كانوا يفرضون رسوما على القضايا التي تُرفع إليهم فيحصلون منها على رواتب لهم ويدفعون لدولة الإحتلال العثمانية ما بقى، وما يلزم من رشوة لتجديد ولايتهم.

وكان القضاة يفصلون في المواد المدنية فقط، بالإضافة إلى مسائل الأحوال الشخصية. وفى المسائل الجنائية كان يُعهد لقاض بالتحقيق إن كانت الواقعة قد حدثت بين طرفين (مثل واقعة قتل شخص لآخر، أو ضرب فرد لغيره، وهكذا) ثم يُترك أمر الحكم وتنفيذه للوالي أو للشرطة. أما إذا كانت الواقعة الجنائية تتصل بأمن الدولة أو أمن الحكام فإن الحاكم أو نوابه كانوا هم – دون القضاة – ولاة الأمر في التحقيق وتقدير العقوبة وتنفيذها.
مقتضى ذلك أن النظام السياسي في السلطنة العثمانية وفى مصر – خاصة قبل محمد على – لم يكن مستقرا، والنظام القانوني لم يكن محددا واضحا، والنظام القضائي لم يكن كفؤا مستقلا ؛ وهى أمور دعت الأجانب إلى طلب المزيد من الإمتيازات لحماية أنفسهم وأموالهم من اضطراب السلطة وغيوم القانون وغياب القضاء، ثم صارت الإمتيازات – التي كانت تُمنح ثم تُطلب – حقوقا للأجانب تُرتب التزامات على السلطات المحلية.
عندما احتلت بريطانيا مصر سنة 1882 وتوسّدت السلطة فيها تبينت أن الإمتيازات الأجنبية تحد من سلطتها وتضع عراقيل أمامها. وإذ كانت تريد سلطانا مطلقا فقد عُنيت بدراسة هذه الإمتيازات ومحاولة إلغائها أو الحدّ منها. وفى كتابه “مصر الحديثة Modern Egypt” أفرد كرومر (افلن بيرنج 5 ابريل 1841 – 1917) الوكيل العام والقنصل العام لبريطانيا في مصر من سنة 1883 حتى 1917 الفصل الثاني عشر عن الإمتيازات الأوروبية (European Privilege). وفى هذا الفصل ذكر أن الأجانب غير البريطانيين كانوا يحاجّونه عندما يحاول إلغاء الإمتيازات بأن البريطانيين أنفسهم طالبوا بهذه الإمتيازات وحصلوا عليها. وعلل دواعي الأجانب في الإحتفاظ بالإمتيازات بأسباب ثلاثة سلف الإلماح إليها، وهى:

أ.. الخوف من تغوّل السلطة وتعسف الإدارة وقلة إنضباط النظام الحكومي.

ب.. عدم وجود نظام قانوني عصري، واضح ومحدد، يمكن على أساسه قيام جهاز حكومي حديث، يعرف به الناس حقوقهم والتزاماتهم في كل تصرف.

ج.. عدم وجود نظام قضائي كفء ومستقل.

وفى هذه الأسباب بعض الحقائق – فمما يتكرر دائما في كتب المؤرخين المسلمين عن فترة حكم المماليك – قبل محمد على – عبارة بأن خاطر السلطان تغيّر على فلان (شخص ما) فأرسل العساكر إلى حيث قتلوه هو وجميع أفراد أسرته، ونهبوا بيته، ثم أحرقوه حتى صار رمادا. وفى عهد محمد على، وإلى أن صدر دستور 1923، كان الحكم أوتوقراطيا ينفرد فيه الأمير أو الباشا أو الخديوي أو السلطان بالرأي، ولا يشاركه أحد في إتخاذ القرار. وكان يقال عنه إنه ولىّ النعم، وهى عبارة تدل على أنه المعز المذل، المُنِعْم المُحْرمْ.

وقد أنف بيان الأمر بالنسبة للنظام القانوني، وبالنسبة للنظام القضائي. ذلك بأنه لم يكن هناك قانون بالمفهوم العلمي، وكان القضاة يحكمون بالفقه الذي يقولون إنه شريعة (فيما عدا قواعد الزواج والطلاق والمواريث والوصية التي وردت في القرآن).

ولم تكن هناك إجراءات لرفع الدعاوى، ولا أسباب (حيثيات) تُكتب للأحكام، ولا طعن بالإستئناف أو النقض على الأحكام.. وهكذا. وكان الإختصاص بالفصل في مسائل الأحوال الشخصية لغير المسلمين معهودا به إلى مجالسهم الملّية، التي تتعدد بتعدد الطوائف من أقباط أرثوذكس وكاثوليك وروم وأرمن ويهود وغيرهم. وفى هذا قال أحد رؤساء الوزارة في مصر (نوبار باشا) إن هناك بلبلة قضائية، إذ كان يوجد 17 (سبعة عشر) جهة اختصاص قضائي في مصر.

كان من اللازم، والحال كذلك، أن تعمد الحكومة المصرية إلى إجراء إصلاحات يمكن معها إتخاذ خطوات لإلغاء الإمتيازات وتأكيد السيادة المصرية. بدأ ذلك بإنشاء المحاكم المختلطة سنة 1875 التي انتزعت إختصاصات المحاكم القنصلية في المسائل المدنية والتجارية فيما يقع بين الأجانب مختلفي الجنسيات، وبين هؤلاء الأجانب والمصريين.

في سنة 1883 أجرت الحكومة تحديثا شاملا للقضاء المصري (المحاكم الأهلية) يجعله قضاء عصريا وكفؤا ومستقلا. وحاولت الحكومة آنذاك تقنين أحكام الفقه الإسلامي (المسمى خطأ شريعة إسلامية) فيما يتعلق بالمعاملات المدنية والتجارية، غير أن علماء الأزهر رفضوا هذا التقنين، مما دعا الحكومة إلى ترجمة المجموعة المدنية المعروفة باسم (Code Napoleon) والتي كانت تطبق أمام المحاكم المختلطة لتطبق بالتالي في القضاء الأهلي، خاصة وأن هذه المجموعة لم تكن تختلف عن أحكام الفقه الإسلامي إلا في القليل، وهو أمر ثبت على مدى الأيام. ولأن الحدود (العقوبات الأربع الواردة في القرآن الكريم عن السرقة وقذف المحصنات والزنا والحِرابة) لم تكن تطبق في مصر طوال الإحتلال العثماني، بل وقبل ذلك بكثير، فقد كان قانون العقوبات بمثابة عقوبات تعزيرية فيما تضمنه.

وحتى يدفع الإحتلال البريطاني الأجانب المقيمين في مصر، من أصحاب الإمتيازات، إلى أداء بعض الضرائب فقد أصدرت الحكومة البريطانية قرار في 17 مارس 1885 يلزم رعاياها دفع الضرائب، مثلهم في ذلك مثل المصريين ؛ وهو ما أرادت هذه الحكومة أن تجعله أساسا ومثلا لإلزام باقي الأجانب أداء ضرائب. وبالفعل ساعد ذلك على موافقة الأجانب على دفع بعض الضرائب، وفى 18 مارس 1891 صدر دكريتو بإخضاع الأجانب في مصر لبعض الضرائب.

في 31 يناير 1889 صدر دكريتو ينظم التشريع في المسائل الجنائية (العقوبات) بحيث لا يجوز أن تُوقع على أي شخص عقوبة الغرامة التي تزيد عن جنية مصري أو الحبس الذي يزيد عن سبعة أيام بغير قانون يصدر بذلك سلفاً. هذا إلى أن تعرض الحكومة المصرية على الجمعية العمومية للمحاكم المختلطة اقتراحاتها بسن تشريعات جنائية.

قامت ثورة 1919 بزعامة سعد زغلول لتحقيق استقلال مصر من خلال محورين:-

أولهما: إخراج المستعمر البريطاني فيها، وثانيها: إصدار دستور ينظم الحكم ويرتب حقوق المواطنين. وفي 1923 صدر دستور ينظم لأول مرة في العالم العربي أسلوب الحكم وحقوق وواجبات المواطنين، في صورة عصرية محددة. وكان مما شمله الدستور مبدأ أن الملك يملك ولا يحكم إلا من خلال وزارة تشكلها الأغلبية السياسية وتكون مسئولة مسئولية تضامنية أمام نواب ينتخبهم الشعب، ومبدأ الفصل بين السلطات الثلاث : التنفيذية والتشريعية والقضائية، واستقلال القضاء، والمساواة بين جميع المواطنين في الحقوق والواجبات.. إلى آخر ذلك.

اتجهت الحكومات المصرية المتعاقبة إلى التفاوض مع الحكومات البريطانية المتتالية للحصول على الإستقلال، وفى 1936 توصل عدد من كبار الساسة المصريين بزعامة مصطفى النحاس إلى توقيع معاهدة، كان المفهوم وفقا للظروف الدولية آنذاك أنها خطوة مهمة على طريق الإستقلال التام. وأهم ثمار هذه المعاهدة إلغاء الإمتيازات الأجنبية في مصر. ففي المادتين 12، 13 من المعاهدة أقرت بريطانيا بسيادة مصر على جميع الأجانب المقيمين فيها وتعهدت بالعمل على مساعدة مصر في إلغاء الإمتيازات الأجنبية التي كانت تشكل حائلا وعقبة أمام هذه السيادة. وفى 8 مايو 1937 عُقدت معاهدة مونتريه (بسويسرا) بين مصر والدول صاحبة الإمتيازات، حيث تم الإتفاق على إلغاء الإمتيازات التشريعية والمالية والقضائية. واستردت مصر على الفور سيادتها في القضاء الجنائي على جميع المقيمين فيها من مصريين وأجانب، بعد أن كان الفصل في المسائل الجنائية التي يكون أحد أطرافها أجنبي من اختصاص قنصل بلده وحده. وصدر قانون العقوبات سنة 1937 ليُنفذ على الجميع، واتُّفق على إلغاء المحاكم المختلطة بعد اثني عشر سنة، وبالفعل ألغيت في 14 أكتوبر 1949، ونفذت المجموعة المدنية الجديدة إعتبارا من اليوم التالي مباشرة. وتلا هذا إصدار قوانين للضرائب التي تسرى على الجميع دون أي استثناء.

مفاد ذلك أن الإمتيازات الأجنبية بدأت أصلا في الأستانة – وهى في المنشأ مدينة بيزنطة والقسطنطينية – ذات التاريخ البعيد في منح الإمتيازات. وقد كانت الإمتيازات تُمنح بمقتضى براءة (أو فرمان أودكريتو) تصدر عن السلطان العثماني من جانب واحد ولا تُفرغ في صورة معاهدات أو إتفاقيات تنظم حقوق والتزامات الطرفين، وطريقة ومدة استعمال الإمتياز، على تقدير فقهي (غير شرعي) بعدم جواز التعاقد مع حاكم أو أمة تقع في دار الحرب ولا توجد في دار السلام (أو الإسلام). غير أن هذا التقدير كان نظرا قاصرا مؤقتا، ذلك بأن الإمتيازات التي كانت منحة صارت مع الوقت حقوقا لأصحابها ترتب التزامات على السلطنة العثمانية، ولا تضع أي إلتزامات على المستفيدين منها، وهو ما لم يكن ليحدث لو كانت الإمتيازات قد تحددت نتيجة معاهدات أو إتفاقيات مشتركة. ورثت مصر الإمتيازات الأجنبية من السلطة العثمانية، باعتبارها إيالة لها (أي آلت إليها بالغزو فصارت من أملاكها). وتفشت الإمتيازات في مصر نتيجة لعوامل كثيرة فصارت انتقاصاً كبيرا من سيادتها وعدوانا بالغاً على أبنائها. وحتى تستطيع مصر التوصل إلى إلغاء الإمتيازات كان عليها أن تُنجز إصلاحات مهمة لتحديث النظام الحكومي وضمان استقراره وعدم تغوّل الإدارة أو سوء استعمال السلطة (وهو ما حققه إلى حد كبير دستور 1923، دون النظر إلى التطبيق السيء أو التأويل الفاسد).

كذلك أن تعمل مصر على وضع قوانين بالأسلوب العصري الذي يتضمن تقنين الحقوق والإلتزامات والجرائم والعقوبات في نصوص واضحة محددة، تضمها مجاميع مُيسّرة مثل القانون المدني وقانون العقوبات والقوانين الإجرائية.. إلى آخر ذلك. وقد أنجزت مصر هذا كله، بل وقننت أحكام الأحوال الشخصية (الزواج والطلاق والنفقة والحضانة..) والمواريث والوصية اعتبارا من العشرينيات.

يضاف إلى ذلك أنه كان من اللازم إنشاء نظام قضائي حديث كفء ومستقل؛ وهو ما عملت الحكومات المصرية المتعاقبة على تحقيقه. وفى سبيل ذلك فقد صدر قانون استقلال القضاء سنة 1943، وأنشىء مجلس الدولة سنة 1946، وأهم ما فيه اختصاص القضاء الإداري بإلغاء القرارات الإدارية إذا شابها عيب أو انبنت على سوء استعمال للسلطة، وقد كانت سلطة القضاء من قبل تقتصر على التعويض عن آثار القرار الباطل أو المعيب دون إلغائه.

هذه العناصر الثلاثة: حكومية مدنية مسئولة، ونظام قانوني عصري، وقضاء كفء مستقل، صارت هي المقومات الأساسية للدولة في المفهوم الدولي المعاصر، وفى المجال الإنساني العام، وهى التي يجب أن تكون واضحة مفهومة للجميع، وأن يؤكد عليها كل من يريد ويعمل على احترام مجتمعه واستقلال بلده. حتى لا تنفذ إليها قوى غريبة تفرض لنفسها إمتيازات خاصة، تغلّفها بأسماء مختلفة وتسترها بعبارات ذات بريق. أما من يحاول العدوان على هذه المنظومة، وتفكيك عراها، بصورة أو أخرى، سواء كان ذلك بتخريب النظام الحكومي بالفساد أو الرشوة أو التعسف أو بالعدوان عليه أو بتوهين قوائمه أو بتدمير قواعده ؛ أو كان ذلك بتقويض النظام القانوني بعصيانه أو عدم إعماله أو ازدرائه أو نشر عدم احترامه، أو كان ذلك بضرب السلطة القضائية بالإهمال أو الغش أو الجهل أو التحيز أو سحب الضمانات أو استغلال الحصانات.. أو، أو، أو… من يفعل ذلك عامدا أو جاهلا فهو في الحقيقة يضر وطنه ضررا جسيما ويؤذى مجتمعه إيذاء بالغاً.

saidalashmawy@hotmail.com

• القاهرة

Comments are closed.

Share.

اكتشاف المزيد من Middle East Transparent

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading