لعل الكثيرون لا يعلمون أن في كمبوديا طائفة إسلامية تسمى “أتباع الإمام سان”. وهذا الأخير كان يوما ما أحد أبرز الشخصيات الإسلامية في البلاد وأكثرها حظوة لدى الأسرة المالكة. حيث تقول إحدى الروايات التاريخية أن عاهل كمبوديا في القرن التاسع عشر الملك “أنغ دوونغ” صادف الإمام سان في الغابة وهو في حالة تأمل وعبادة، فاندهش لما رآه إلى الدرجة التي قربه معها إلى البلاط الملكي و أغدق عليه الأراضي والهدايا والمهم أنه بمرور العصور صار لهذا الرجل أتباع (يقدرون في الوقت الحاضر بنحو 37 ألف شخص، يتوزعون العطايا المتنوعة. وفي رواية أخرى نجد ثمة أقاويل تشير إلى أن الملك وجد في الإمام حليفا جاهزا ومستعدا لدعم الحكم الملكي المترنح وقتذاك، فكان ذلك سببا في ارتباطهما بصداقة.
على عشرات القرى في طول البلاد وعرضها)، بل صارت لهم أيضا مناسبات دينية خاصة من أهمها يوم مولد الإمام سان الذي يحتفلون به في أكتوبر من كل عام في “يودونغ”، وهي مدينة ملكية قديمة تقع على بعد 30 كيلومترا من العاصمة “فنوم بنه”. في هذه المناسبة التي تسمى “مولوت” (الكلمة محرفة من مفردة “مولود” العربية)، تجري احتفالات مزركشة تجمع ما بين أتباع المذهب القادمين من مختلف أنحاء البلاد، وفيها يتم التواصل وعقد صفقات الزواج ما بين أسر الفتيان والفتيات أيضا، والتي لولا تلك المناسبة لاستحال على تلك الأسر إيجاد عرسان لبناتها أو العكس.
وتعتبر طائفة الإمام سان، هي الطائفة الإسلامية الوحيدة التي لا تخضع لتعاليم وسلطة مفتي كمبوديا الرسمي المعين من قبل الحكومة، بل أن أتباع الطائفة يرون أن التهديد الذي يلاحقهم ليس مصدره أتباع الديانات الأخرى الموجودة على الساحة الكمبودية كالبوذية والمسيحية والهندوسية والبهائية، بقدر ما هو تهديد ناجم عن ازدراء واحتقار إخوتهم المسلمين لهم بدعوى أن إسلامهم غير نقي ومرتبط بالحركات الصوفية أو اختلطت به التعاليم البوذية بسبب قرب الإمام سان من البلاط الملكي البوذي، خصوصا وأن أتباع الطائفة يزورون المقابر ويقيمون الموالد، ولا يمانعون من بناء مساجدهم بجوار المعابد البوذية، بل لا يؤدون فريضة الصلاة سوى مرة واحدة في اليوم.
غير أن أتباع سان الذين انحدر أجدادهم من فيتنام في القرن السابع عشر، ينظرون إلى أنفسهم كمسلمين أكثر التزاما وتوافقا مع مقاصد الإسلام الحقيقية من بقية مسلمي كمبوديا الذين ينتمون عرقيا إلى اثنية “تشام” والذين ظلوا إلى ما قبل سنوات قليلة يمارسون الإسلام الشرق آسيوي المتسامح والمعتدل على النمطين الماليزي والاندونيسي، قبل أن يظهر في صفوفهم من يبشر بالإسلام الشرق أوسطي المتشدد كنتيجة لما سمي بالصحوة معطوفا على تنامي العلاقات الاقتصادية والثقافية ما بين كمبوديا من جهة ودول الشرق الأوسط العربية وغير العربية من جهة أخرى، ودخول الجمعيات الدعوية والخيرية من الأخيرة إلى الأولى وقيامها باستغلال فقر وبؤس الشعب الكمبودي المنهك من الحروب الأهلية الطويلة لصالح أجنداتها الخفية عن طريق منح القروض الميسرة وإقامة المشاريع الخدمية وبناء المعاهد الدينية وتأسيس المصارف الإسلامية.
و طبقا لمقابلة أجريت مع عجوز من أتباع الطائفة البارزين ويدعى ” ايك بورت”، فان الطائفة أخذت تنحسر من حيث أعداد أتباعها مقابل ارتفاع عدد المنضوين تحت لواء تيار الإسلام الكمبودي الأعرض، وذلك بسبب أنشطة تقوم بها الجمعيات السلفية وجماعة التبليغ الكويتية و جماعات احمدية قادمة من الهند وباكستان، وضغوطات تمارسها تلك الجهات ضد أتباع الإمام سان من الشباب الذاهب للدراسة الجامعية في فنوم بنه كي يغير مذهبه. علاوة على ذلك صارت أنماط الجوامع الممولة من قبل هؤلاء مختلفة عما اعتاده الكمبوديون المسلمون عليها من حيث أشكالها الهندسية، وأيضا من حيث الطقوس التي تقام فيها والخطب التي تلقى بها. وبالمثل صارت ملابس المسلمين من اثنية “تشام” أقرب إلى ملابس الأفغان أو ملابس رجال الدين العرب منها إلى ملابس نظرائهم في ماليزيا، كما استبدل مفهوم الولاء للوطن بمفهوم الولاء للعقيدة والأمة. ولهذه الأسباب مجتمعة يبدي “ايك بورت” مخاوفه من احتمالات عدم تمييز الأجيال المقبلة لمذهب الإمام سام وتعاليمه وطريقته الدينية المميزة.
وبطبيعة الحال فان مثل هذه الأمور لم يكن لها وجود قبل عام 1975، بل أنه في الفترة ما بين عامي 1975 و 1979 التي كانت البلاد فيها رهينة في يد نظام الخمير الحمر بقيادة الجزار “بول بوت”، تم هدم ما لا يقل عن 132 مسجدا وإغلاق عشرات المساجد الأخرى كما تمت تصفية نحو تسعين ألف مواطن مسلم في حقول الموت من اصل إجمالي عددهم الذي كان يتراوح حينذاك ما بين مائة وخمسين ألف و مائتي ألف مسلم، بل لم ينج من مجازر الخمير الحمر سوى 21 عالم دين مسلم من أصل113 عالما (يقال أن عددهم اليوم ارتفع إلى 280 عالما). وبحسب مراكز الأبحاث المتخصصة في جامعات الغرب (جامعة ييل الأمريكية مثلا)، فان مسلمي كمبوديا الذين يشكلون اليوم نسبة 1.6 بالمئة من سكان البلاد البالغ تعدادهم 12 مليون نسمة أو نحو 230 ألف نسمة، لم يستيعدوا بعد ما كان لهم من حضور ونفوذ في الماضي، على الرغم من تحسن أوضاعهم ومراكزهم بعيد سقوط نظام الخمير الحمر على أيدي القوات الفيتنامية الغازية التي نصبت حكومة ساوت ما بين المواطنين المسلمين والبوذيين لجهة الحقوق والواجبات. وبعبارة أخرى لم يستعيدوا ما كان يتمتعون به من امتيازات في العهود الملكية المبكرة مثل استثناء قادتهم من الضرائب، ودعوة ممثليهم إلى حفلات البلاط الملكي، كما لم يعد حالهم مثلما كان في سنوات الاستقلال الأولى حينما كانت أمور المذاهب الإسلامية الخمسة تدار رسميا من قبل مجلس رسمي مكون من خمس أعضاء، وكان لكل مذهب “حكيم” لقيادة شئونه والإشراف على مسجده، و”أمام” لقيادة أتباعه وقت الصلاة، و”بلال” لرفع آذان الصلوات الخمس.
والحقيقة أن أوضاع ونفوذ مسلمي كمبوديا من غير المتوقع أن تشهد تحسنا في المستقبل القريب، بعدما صارت أعين أجهزة المخابرات في الغرب (تحديدا الولايات المتحدة الأمريكية) وفي الشرق (تحديدا الصين) مفتوحة على كمبوديا وتراقب حركة مسلميها منذ أن ألقي القبض في عام 2003 على 47 مدرسا مسلما من الجنسيات الكمبودية والتايلاندية والمصرية والسودانية واليمنية والنيجيرية في مدرسة “أم القرى” في فنوم بنه، بتهمة الانتساب إلى الجماعة الإسلامية الاندونيسية المتهمة بالإرهاب والتعاون مع تنظيم القاعدة المجرم، و أيضا بتهمة تقديم الضيافة والملجأ في المدرسة المذكورة للإرهابي الماليزي رضوان عصام الدين (الملقب بالحنبلي) قبل شهر من وقوعه في قبضة الشرطة التايلاندية في أغسطس 2003 في منتجع تايلاندي.
وقتذاك، وبينما كان مسلمو كمبوديا من اثنية “تشام” يردون على تلك الاتهامات بالقول أنها جاءت إرضاء للأمريكيين وبغية كسب ودهم ومساعداتهم واستثماراتهم، كان النائب المسلم المعارض في البرلمان “أحمد يحيى” يكيل الشتائم لرئيس الحكومة “هون سين” ويصفه بالنسخة المكررة للجزار “بول بوت”. غير أن كل هذه المواقف لم تمنع السفير الأمريكي في فنوم بنه “جوزيف موسوميلي” من القول في كلمته الوداعية وهو يغادر منصبه في أغسطس 2008، من أن كمبوديا في خطر، وأن نفوذ الجماعات الإسلامية المتشددة وهيمنتها على تيار الإسلام المعتدل الوسطي الذي ساد البلاد طويلا في ازدياد. وربما لهذه الأسباب، سارعت واشنطون في العام الجاري إلى افتتاح مقر ضخم لمكتب التحقيقات الفيدرالي ( اف بي آي) داخل سفارتها في فنوم بنه، وإرسال مدير المكتب “روبرت مويلر” لحضور الاحتفالية الخاصة بتلك المناسبة شخصيا.
وفي الكلمة التي ألقاها الأخير، أوضح الرجل دوافع افتتاح المكتب ولخصها في تزايد أهمية كمبوديا عند المتطرفين كمعبر أو نقطة تجمع للقيام بالأعمال الإرهابية التي تستهدف مصالح ومواطني الغرب. ولم ينس مويلر أن يغمز من قناة دول شرق أوسطية معينة متهما إياها بتسهيل مرور الأموال والأشخاص من جمعياتها الدعوية والخيرية إلى كمبوديا منذ أوائل التسعينات من اجل تلويث عقول شبابها وغرس مفاهيم التشدد والتطرف فيها، فضلا عن استعدائهم ضد مكونات وطنهم من الطوائف الدينية الأخرى كالبوذية والمسيحية والهندوسية والبهائية.
لكن الباحثة الأكاديمية “أغنيز دو فيو” ترى الأمور من زاوية أخرى، فتقول في حديث لها حول كتابها القادم المسمى ” مسلمو كمبوديا وفيتنام”، أنه رغم كل ما حدث لمسلمي كمبوديا من شد وجذب، وقتل وتشريد، وعزلة واستنهاض، وإغراء وتكالب، فإنهم بصفة عامة لا يرون أنفسهم سوى أقلية مهاجرة داخل الوطن الكمبودي، فضلا عن أنهم – رغم روابطهم الاثنية والدينية والثقافية والتاريخية العميقة مع مسلمي تايلاند وماليزيا – يختلفون من حيث الأهداف والطموحات، فهم مثلا لا يطمحون إلى وطن مستقل كما يفعل إخوتهم في جنوب تايلاند المسلم. كما أنهم لم يتحدثوا قط عن إزالة النظام العلماني الكمبودي الحالي من اجل إقامة نظام إسلامي كما تفعل بعض الجماعات والأحزاب السياسية الإسلامية في ماليزيا.
• باحث ومحاضر أكاديمي في الشئون الآسيوية من البحرين
elmadani@batelco.com.bh