منذ عام ونيف، وُضع المصريون أمام خيارين لا ثالث لهما: أن يسلموا رقبتهم، إما للطاعون، أو للكوليرا. أي أن يصوّتوا، في الدورة الثانية لإنتخاب رئيس جمهويتهم، إما لأحمد شفيق، مرشح الفلول، أو لمحمد مرسي، مرشح الإخوان المسلمين. وقتها “عصرَ” الكثيرون “على قلبهم حامضاً”، وصوتوا للأخير، محمد مرسي. أي انهم وجدوا أنفسهم بعد ثورة، أمام ضرورة القيام بحقهم الاقتراعي، لأنهم ثاروا أصلاً من أجله، فيصوتوا لأحد الشَرّيَن؛ هكذا تحول هذا الحق الى واجب ثقيل، أمام خيار شديد المحدودية، بين رمز لنظام أسقطوه للتو، وبين رمز للظلامية والقهر، خرجت شخصياته لتوها من السجون.
فكان ما كان، خلال السنة المنصرمة من حكم إخواني تخريبي، حشدت القوى المضادة له، بمبادرة من “تمرد”، ومؤازرة من الجيش؛ لا نعرف حتى اللحظة حجم هذه المؤازرة وعمرها، ولكن بما تبرزه الآن في المشهد، يبدو هذا الجيش حاكما لها ومتحكما بوجهتها، قائداً لمسارها مفجرا لديناميكيتها. فعدنا ثانيةً الى الخيارات المرّة، ولكن بنظرَين. النظر الإخواني يرى المشهد من خيارين جهنميين، أشد فتكا من الطاعون أو الكوليرا: فإما أن يذعنوا لورقة الطريق التي وضعها عبد الفتاح السيسي، فيكونون بذلك منتحرون طواعية؛ وإما هذا أو ينخرطوا في حرب أهلية من نوع خاص، وقودها ابناء الشعب المصري، بدأت طلائعها المبكرة تظهر في شبه جزيرة سيناء، وفي ميادين القاهرة…
أما النظر الآخر،الذي يقوده العسكر، فليس أقل انحشاراً. كانت مصر تنهار أمام عيونهم، تضيع منهم، كما يقولون، على يد حكم الاخوان الفاشل، الذي انتُخب ديموقراطيا؛ فإما أن يتركوا بلادهم تغرق، أو ان يسقطوا هذا الحكم، بمؤازرة شعبية ضخمة، صحيح، تاريخية، صحيح… ولكنها موجهة أولاً، وموافقة على ارتكاب معصية ديموقراطية بخلع أول رئيس مصري منتخب ديموقراطياً. أبناء هذا المعسكر كانوا، هم أيضاً، على غرار الاخوان المسلمين، امام مصيبتين: انهيار مصر، أو انقاذها على يد العسكر. فاختاروا المصيبة الثانية.
هكذا ارتسم المشهد القريب والبعيد: حكم العسكر القصير الذي جاء بعد الثورة مباشرة، كان مليئاً بالقمع والضرب والسحل والتعذيب والاعتقال… أثار الغضب العارم بين المصريين، فتشوقوا للاخوان، الذين لم يجلسوا إلا سنة واحدة على عرش الحكم، حتى تسببوا بثورة أشدّ غضبا مما سبق، وذعراً غير مسبوق على مصر نفسها. فكانت المناداة بسقوط الإخوان كلهم، برئيسهم ومرشدهم وتنظيمهم. وذروة التعبئة والحشد لهذا الخيار المرّ كانت مع التظاهرات الاخيرة التي دعى اليها القائد العسكري وشعارها “تفويضه بشن حرب على الارهاب”… ليس أقل من ذلك! هم أيضاً أمام كوليرا حكم الاخوان الفاشل أو طاعون العسكر الذي سوف يسيطر على قرار البلاد، بعدما يكون حررها من سطوة الاخوان ومعمعاتهم، و”جرائمهم وتخابرهم”، يضيفون. بل ان الجيش منذ اسقاط محمد مرسي كان صاحب أعظم الأدوار في عملية الإسقاط هذه. تجاوز رئيس الجمهورية الموقت، ونوابه ومجلس الوزراء والقضاة. وهو على الرغم من مهاراته الفائقة في تصوير الشعب وكأنه هو صاحب القرار، إلا انه لم يتمكن من حجب معصياته الديموقراطية، بدءا من عزل الرئيس المنتخب، انتهاء باطلاق النار على المتظاهرين أنصار الإخوان، مرورا بحملة تخوينهم وأبلستهم، التي تعهدت بها الفضائيات المصرية، الخاصة والرسمية. وهذه الاخيرة انتقلت من أحضان الاخوان الى أيادي العسكر في اليوم الثاني من تظاهرات “تمرّد” التاريخية.
وهذه المعصيات إنما هي بمثابة الإثم التأسيسي لعهد جديد، مدعومة الآن من الشعب… ولكنها سوف تكون جاثمة، حاضرة، حاسمة في تحديد معالم العهد الجديد. فالذين يحررون البشر أو الأوطان، هم الذين سوف يحكمونهم، وبالطرق التي نشأوا عليها. انبعاث عبد الناصر بصوره المرافقة لصور عبد الفتاح السيسي، قائد المرحلة، لا تشي بحماسة وطنية مصرية وحسب، بالخوف على مصر وحسب… إنما هي تُحضر معها كل المناخ الذي كان يختصر بـ”لا صوت يعلو فوق صوت المعركة”، أي عود على بدء، عندما كانت الحرية، بمختلف تعبيراتها، تخرس أمام أولوية “المعركة الوطنية”.
المصريون فكروا بالأمر، شاوروا عقلهم ومصلحتهم، فوجدوا انفسهم، مرة اخرى، بين حكم عسكري أو حكم اخواني؛ تلك الثنائية التي ما برحت مكانتها منذ العام 1954، عندما دشن عبد الناصر حكمه بحملة اعتقالات واعدامات وملاحقات بحق الاخوان المسلمين الذين كانوا يطالبونه بمشاركتهم في السلطة، بصفتهم الحزب الأكثر شعبية.
فهل نكون الآن بصدد العملية نفسها؟ نعم يجيبك الثوار المساندين للعسكر؛ “مصر كادت تضيع من بين ايدينا” يكررون. وهي تحتاج الآن الى أب يحميها، قوي وصاحب عقيدة الخ. وهذا الأب ليس البرادعي ولا حامدين صباحي ولا بطبيعة الحال شباب “تمرد” ونظارئهم. انه صاحب البدلة المهيبة، الشاب، عاشق عبد الناصر منذ طفولته، الواقف على رأس القوة الأكثر تنظيما وتسليحا وثراء، وله فوق ذلك، وبقدرة قادر، “الكاريزما” نفسها التي كانت لعبد الناصر.
نحن هنا في صميم حلقة مفرغة، قطرها أوسع من الحلقات العادية، لأنها تعني ملايين من البشر، وتمتد على أكثر من نصف قرن من الزمن. حلقة مفرغة خارجة عن الإرادة أو المؤامرة أو النوايا. هي مثل الخطيئة الاولى الضرورية التي ارتكبها آدم في الجنة، تلاحق ذريته الى أبد الآبدين، فتدور معهم عبر الزمن.
هكذا هي خطيئة الجيش، ليست اولى، ولكنها مؤسسة لمرحلة جديدة. الى متى؟ المرحلة الانتقالية احرقت حتى الآن كل الوجوه التي ارتبطت بفصولها: أبرزها عصام شرف، المشير طنطاوي، محمد مرسي. والآن عبد الفتاح السيسي. متى يأتي دوره بالاحتراق؟ أو بالأحرى، هل يستطيع ان “يرعى” الديموقراطية المصرية بعدما ارتكب إثمه الأول هذا؟
قد نجد في الإجابة ملامح مصر المقبلة. وقد نجد فيها إجابة على سؤال آخر. اذ تكون التجربة العسكرية قد “نجحت” أو “أخفقت” في حربها ضد “الارهاب”. ولكن من المؤكد ان مصر سوف تجد نفسها مرة اخرى امام خيار بين الطاعون والكوليرا. فمن يكون بديلا عن العسكر ساعتها؟
ما يجرنا الى سؤال آخر: لماذا تحصل الأمور الآن في مصر هكذا؟ في دروة جهنمية من الحلقة المفرغة؟
كان يفترض بثورتها الديموقراطية أن توسع خياراتها السياسية؛ واذا بها تضيقها، تحدّها، تأخذها بيدها الى الحائط المسدود.
هل يكون هكذا الصراع على السلطة بعد سقوط رأسها؟ صراع عنيف، دموي، معطِّل ومشلول؟ هل هي الملامح غير الدقيقة لفوضى لا تفكّ رموزها الا بعد حين؟ هل هي مسألة صراع بين كتلتين، هما الأساسيتين، عسكر واخوان، لا ثالث لهما حقيقةً… وليس اعلامياً؟
هل هو الفراغ الأيديولوجي خارجهما؟ أم هو مجرد فراغ فيزيائي، لا يطيقه عالم السياسة، فيشفط الى قمته وجوانبه أقوى من كان على استعداد تنظيمي وعقيدي لخوض معركة حياة أو موت؟
dalal.elbizri@gmail.com
المستقبل