لقد ملأت جماعات وكتّاب وخطباء الإخوان المسلمين الدنيا كتباً وأشرطة وصراخاً على ظواهر كثيرة منها مثلاً ظاهرة كالتعليم المشترك الذي اعتبروه صنوا للشرك بوصفه «اختلاطاً»، وتصدوا بقوة ومثابرة للحركة النسائية حتى دمروها في كل مكان، ووقفوا ملء الشوارع ضد هذا المقال وذلك الكتاب و«المرتد الفلاني»، ولكن ما دور الإخوان في محاربة العنف الديني وجماعات الإرهاب؟ وما المسافة التي تبعدهم حقاً عنها في مصر وباكستان ودول أخرى؟
إن الإخوان أولى من غيرهم بالبروز في ميدان محاربة ثقافة الإرهاب لا مجرد إدانة بعض العمليات، إذ لا يعري الإخوان ثقافة وفكر هذه الجماعات بشكل كاف!
كم عدد الكتب والكراسات التي أصدرها الإخوان ضد تنظيم «القاعدة» وجماعات السلفية الجهادية و«داعش» مثلاً؟
والأرجح أنهم لا يدعون لقوى الأمن بالنجاح والتوفيق في مطاردتهم، فهذه الجماعات الإرهابية مهما كانت ربما أفضل من «الجماعات العلمانية» وليس من أراد الحق فأخطأه كمن سعى إلى الباطل فأدركه وتمسك به! ثم إن الإخوان كانوا أول من سيّس الدين بهذه السعة، وأنشأ التنظيمات الخاصة والسرية والعسكرية، ودعا إلى التدريب على السلاح والتجمع في المخيمات والتعود على الحياة الخشنة والقيم العسكرية، وكان من الذين ابتدعوا عملية تصفية الخصوم بالاغتيال والإجهاز حتى على بعض عناصر الحزب نفسه والقضاة المسؤولين، فإذا كان الإخوان، كما تساءل البعض ولا يزال، يرون أن الإرهاب الذي يقوم به بعض شركائهم في الفكر والهدف «يضر بالقضية بل يتنافى مع الدين الإسلامي ذاته»، فلماذا لا نرى نشاطاً ملحوظاً ضده؟
لقد عاشت الأحزاب الشيوعية يقول «عبد الستار طويلة» في كتابه «أمراء الإرهاب» تجربة مماثلة، فالحزب الشيوعي الإيطالي مثلاً، وكان من أكبر الأحزاب في إيطاليا وأوروبا، كان يكرر القول دائماً إنه يعارض الإرهاب واستخدام القوة وعندما ظهرت منظمة الألوية الحمراء، رافعة شعارات يسارية ماركسية كان للحزب موقف فعال ضده:
«إنه لم يكتف برفض المنظمة الإرهابية فقط… بل كان أقوى قوة سياسية في إيطاليا ناهضتها وحاربتها، حتى إنه أشعل إيطاليا كلها حريقا ضد تلك المنظمة… إضرابات عامة من اتحادات العمال… مظاهرات صاخبة… تعاون مع سلطات الأمن… وكل المراقبين السياسيين في أوروبا الغربية يؤكدون أن الحزب الشيوعي الإيطالي هو السبب الرئيس في القضاء على تلك المنظمة والإضعاف من شأنها» (ص170).
هل قامت جماعات الإخوان أو «أحزاب الاعتدال» الإسلامي الأخرى بحملة مماثلة ضد «القاعدة» و«داعش»؟
على العكس تماماً، فكل الإسلاميين تقريباً يبررون لتصاعد العنف والإرهاب بأنه «مجرد رد فعل على ما فعلته الأنظمة بشباب الحركات الإسلامية»، وكأنهم يقولون إن من العدل أن يقتل الإرهابيون الناس ويفجروا المباني والمنشآت انتقاما مما فعلته السلطات قبل ربع قرن أو أكثر.
ثم إن تطرف الإخوان السياسي وتعجلهم وارتجالهم وسوء تعاملهم مع أهدافهم المعلنة ظهر على الملأ بعد وصولهم للحكم في مصر! وكان التعجل والارتجال بعض طباعهم قبل عهد د. محمد مرسي، أول رئيس جمهورية من الإخوان في مصر عام 2013.
ففي مقابلة صحافية مع جريدة «الأنباء» الكويتية يوم 21/ 11/ 1987، وكانت ندوة موسعة أجرتها الصحيفة مع قادة الإخوان في القاهرة، قال مأمون الهضيبي حول تطبيق الشريعة: «نحن لا نقول بالتدرج في تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية، بمعنى أن تطبقها بسياسة الخطوة خطوة، ومرحلة بعد مرحلة لأن أحداً لا يملك إرجاء تطبيق وإنفاذ حكم شرعي ما دام يمكن تنفيذه»، أي من الأفضل تطبيق الشريعة فوراً!
وبخصوص القنوات الشرعية المتوافرة آنذاك للتغيير صرح الهضيبي: «أحب أن أوضح أولا أن الموجود ليس بقنوات شرعية ولكنها قنوات قانونية»، ثم أضاف «وعلى الرغم من أن كثيراً من هذه القوانين لا تتفق مع الشريعة الإسلامية فإننا ملتزمون بها وإن كنا لا نحترمها، لا لشيء إلا لأن الخروج عليها سيترتب عليه ضرر يتجاوز ضرر الالتزام بها».
وقد صرح مصطفى مشهور في الندوة نفسها، ولم يكن وقتها مرشد الإخوان، إذ كان المرشد محمد حامد أبو النصر: «وسيلتنا في التغيير هي القنوات الشرعية فقط». وهو استخفاف صريح بالقوانين السائدة باعتبارها «وضعية» و«غير شرعية».
ومن الأمور التي تمنع الإخوان من العودة إلى سبيل العنف والتنظيمات السرية وغير ذلك صخامة حجم امتيازاتهم في دول الخليج خاصة، وصرامة القوانين الأوروبية والأميركية ضد الإرهاب، ورغم استخفاف أمثال «مشهور» و»الهضيبي» بالقوانين الوضعية فإن إخواناً آخرين في الكويت أو بريطانيا أو الولايات المتحدة يدركون الخسائر الفادحة التي تنتظر الجماعة إن لم يحترموا «القوانين الوضعية» و«المجتمعات الجاهلية»!
الإخوان المسلمون في تفكيرهم العقائدي لا يعترضون على مبدأ العنف في بعض مراحل العمل السياسي، وإن كانوا يتحاشونه إلا للضرورة، وقد يأتون لك بنصوص دينية تبرر العنف وتبرر السيفين المشهرين في شعار الحزب منذ تأسيسه، غير أنهم كذلك يعتبرون العنف أداة بالغة الخطورة بيد تنظيمات كـ«القاعدة» و«داعش»، ليس إيماناً بالديمقراطية والممارسة العصرية للعمل السياسي والسلام العالمي الذي يعتبرونه كذلك مجرد شعار وهمي إلا بشروطهم، بل لاعتبارهم أتباع هذه الجماعات الجهادية العنيفة والإرهابية مجرد مغامرين متعجلين في مجال الدعوة وفي مجال التهيئة لإقامة «النظام الإسلامي».
إن حزب الإخوان عندما تنظر إلى فكره وجذوره وعصر ظهوره تراه إفرازاً لمراحل متوحشة سياسيا وثقافياً، ووليد عصر الأيديولوجيات الغاضبة العنيفة في أوروبا، وبخاصة الفاشية الإيطالية والألمانية والأنظمة الزعامية الشمولية التي لا يزالون يرون في صلابتها النموذج المطلوب مع «الصبغة الإسلامية» ما أمكن ذلك، ولم تغير قيادة الجماعة شيئا جوهرياً في الحزب في مصر أو الأردن أو باكستان أو الغرب، ولم تسمح للعناصر المجددة فيه أن تنتقد وتتكلم وتصلح.
ومن هنا فإن خلاف أي حركة ديمقراطية دستورية، تؤمن بالارتقاء بالمجتمع وبالقانون العالمي لحقوق الإنسان، مع أحزاب الإخوان، بأيديولوجيتها وسرية تكوينها وعدم شفافيتها وعدم ديمقراطيتها وغير ذلك «خلاف وجودي» إن صح التعبير، وهذا موقفهم كذلك من أي مجتمع عصري حر التفكير، ولكن لا بد لهذا الخلاف أن يتم حله ضمن أطر ديمقراطية وضمن مراعاة حقوق الإنسان كي لا تخسر الدولة الحديثة روحها الديمقراطية التعددية.
وكل إنسان حديث التفكير مدرك للتجرية الإنسانية في التقدم والتحديث يدرك أن الديمقراطية والتعددية واحترام كل التيارات من ضرورات التقدم والاستقرار.
ونقول ختاماً، إن مقال الزميل القدير د. حامد الحمود مرافعة إنسانية منطقية رفيعة، تبدو مقنعة في بعض حججها، غير أن حركة الإخوان في سريتها وانغلاقها وفكرها تعاني عللا كثيرة يطول الحديث فيها ويصعب الدفاع والتبرير!