لم يتردد المبعوث الدولي والعربي الجديد لسوريا الأخضر الإبراهيمي، قبل الانطلاق في جولاته المكوكية، في وصف مهمته بأنّها شبه مستحيلة. ولم يبالغ هذا الديبلوماسي المحنّك حينما حذّر من أنّ الصراع المتفاقم في سوريا “يشكل خطراً يُهدّد المنطقة برمتها”، ثم عاد وأكّد تشخيصه الواقعي وغير المتفائل بعد لقائه الرئيس السوري، السبت الماضي، معتبراً أنّ الأزمة في سورية “خطرة جداً وتتفاقم لتشكّل خطراً على الشعب السوري والمنطقة والعالم كله”.
والملاحظ أنّ وزير الخارجية الجزائري الأسبق ركّز على الأبعاد الإقليمية والدولية للأزمة السورية، كأنّه أراد التذكير بمناخات حرب باردة من نوع جديد تدور رحاها على الأرض السورية وحولها، وهو على عكس كوفي أنان، سلفه وشريكه في “جماعة “الكبار” (مجموعة من زعماء العالم تتكوّن من مسؤولين سابقين أسّسها نيلسون مانديلا عام 2007 بهدف نشر السلام وحقوق الإنسان)، أراد وضع الجميع أمام مسؤولياتهم حتى لا يختتم، ربما، مهماته الديبلوماسية الكبيرة بفشل ذريع سجّله كوفي أنان.
من خلال تجاربه من لبنان إلى أفغانستان والعراق كمبعوث خاص للأمم المتحدة، يعلم الديبلوماسي المخضرم أنّه من دون حدّ أدنى من الإجماع الإقليمي والدولي، لن يُكتب له النجاح.
من أفغانستان إلى العراق لا تشابه مع الوضع السوري الصعب، ومن هنا يحلو للبعض القول إنّ تسلم الإبراهيمي هذه المهمة يهدف إلى تركيب اتفاق طائف سوري على غرار الطائف اللبناني عام 1989. وهناك استعجال في الاستنتاج لأنّ تكليف الإبراهيمي أتى بعد رفض شخصيات دولية بارزة مهمة غير مدعومة جدياً من الكبار في العالم والإقليم.
ومن ناحية أخرى، يجدر التذكير أنّ اتفاق الطائف أتى بعد جلجلة لبنانية طويلة من الحروب المتنقلة وكان ترجمة داخلية وإقليمية لميزان قوى تحت غطاء وفاق دولي، لكنّه كان في الحقيقة تسليم أميركي وسعودي بالنفوذ السوري في لبنان، والأهم أنّ هذا الاتفاق لم يدخل حيز التطبيق إلا في عام 1990 أي بعد انحياز النظام السوري للحرب ضد العراق، وبعد حربي “التحرير” و”الإلغاء” في لبنان.
إذاً الواقع السوري الحالي لا يسمح بإنتاج مشاريع من هذا النوع، اللهم إلّا إذا راهن البعض على التعفن والاهتراء والاقتتال في سوريا ليصل الأمر إلى حد تسليم المعارضة الحالية بالرئيس الأسد ممثلاً مجموعته الدينية ضمن لعبة محاصصة شبيهة بما جرى تركيبه في عراق ما بعد صدام حسين، وقاد إلى تخريب الدولة العراقية ومؤسساتها.
بناءً على هذا التذكير التاريخي الذي يبرز خصوصية الحالة السورية، كان لافتاً الكلام المنسوب إلى الرئيس بشار الأسد بعد مقابلة الإبراهيمي إذ حدّد أنّ “المشكلة الحقيقية في سوريا هي الخلط بين المحور السياسي وما يحصل على الأرض”، معتبراً أنّ “نجاح العمل السياسي مرتبط بالضغط على الدول التي تقوم بتمويل الإرهابيين وتدريبهم وتهريب السلاح إلى سوريا لوقف القيام بمثل هذه الأعمال”. وهذا يعني إصراراً على المضي في العمل العسكري وعدم الاستعداد لولوج الحل السياسي الفعلي.
ومن ناحية المعارضة السياسية والمسلحة، لا تبدو بوادر القبول بشروط الأسد والقبول بأقلّ من تنحيه كمدخل لبدء مرحلة انتقالية نحو نظام آخر. التناقضات كبيرة وعميقة في الرؤى ممّا يجعل الغموض الديبلوماسي في هكذا حال غير بناء، واتفاق جنيف (خطة أنان المقترحة روسياً في الأساس) هو النموذج لهكذا غموض يترك الأمور في حلقة مفرغة وحوار طرشان.
تكمن المشكلة أيضاً في مقاربات جاهزة ومغلوطة: النظام السوري ما دأب يروّج لنظرية المؤامرة الكونية والحرب المشروعة ضدّ الجماعات المتطرفة والمسلحة، والحراك السوري الذي تحوّل ثورة مسلحة تحت ضغط عنف النظام المُفرط لم ينجح في إبراز البعد الوطني الشامل للثورة وبقي ضحية انقسامات نخبويّة لا تعبأ بتمثيل فعّال أو ببلورة استراتيجية بديلة لسوريا الجديدة.
والأدهى من كل ذلك كلام الإبراهيمي عن الأطراف السورية، وفي ذلك بلبلة لأنّ رفض النظام مقولة الحرب الأهلية هي من اجل تبرير حربه ضد شعبه كحرب ضد الإرهاب، بينما يرفض الثوار هذا التوصيف نظراً إلى الفخ المنصوب حيال مستقبل سوريا ووحدة أراضيها في حال الانزلاق للعنف المذهبي أو للاتّخاذ من مطالب الأكراد المحقة في الاعتراف بهُويتهم مبرراً لتصادم المكونات السورية.
ليس هناك الكثير من العناصر التي استجدت وتعاصرت مع مهمة الإبراهيمي، إذ لا يزال القتل والتدمير مستمراً، ولا يزال شبح الفيتو الروسي الصيني المزدوج ماثلاً (سابقة ممارسته ثلاث مرّات خلال تسعة أشهر) والدعم الإيراني المُطلق للنظام وضعف الإرادة الدولية.
ولعل العنصر الوحيد المستجد هو النشاط الجديد للديبلوماسية المصرية تحت إشراف الرئيس محمد مرسي، والسعي من خلال إلى لجنة رباعية تضمّ إيران لتغيير قواعد اللعبة. ولا يزال من المبكر الحكم على ذلك ومدى نجاعته في تغيير موقف طهران.
بيد أنّ تطورات الأسبوع الماضي في ما يخصّ مظاهرات الغضب ضدّ الفيلم المسيء للإسلام، تشوّه حركات “الربيع العربي” وتزيد من فرص مناورة النظام السوري… ويمدّد بالتالي الوقت الضائع في انتظار ما بعد انتخابات الرئاسة الأميركية ومعرفة مدى احتمال حصول الصفقة أو الترتيب بين واشنطن وموسكو حول سوريا، ويمكن للمأساة السورية المروعة أن تنتظر التموضع النهائي حول الملف النووي الإيراني في الشهور المقبلة.
سيسعى الإبراهيمي خلال هذا الوقت، ببراعته وحنكته، إلى ملء الفراغ الديبلوماسي الدولي إزاء سوريا.
وإذا لم تحصل متغيرات تقلب المواقف تبدو مهمته مستحيلة إلا إذا جرى التمديد لها على وقع لبننة أو شيشنة سوريا، عندها يمكنه الإسهام ليس في إنتاج طائف سوري، بل ربما في أداء دور الشاهد لمشهد إقليمي جديد تتغير فيه الحدود والأسماء
khattar@noos.fr
باحث جامعي وإعلامي لبناني
الجمهورية