لم أكن قد سمعت عن كتاب هالة الوردي “أيام محمد الأخيرة” الذي صدر عام 2016، قبل أن ينصحني أحد الاصدقاء بالحصول عليه طالما أني سأكون خارج لبنان. لأنه ممنوع في بلاد الحريات!
لقد اعتدنا ليس فقط أن تمنع هذه الكتب التي تحاول إعادة قراءة التراث والنظر إليه عن بُعد، أي بعد اتخاذ المسافة اللازمة للنظر إليه كتاريخٍ لزمن آخر ولى وابتعد؛ بل أن يتعرض مؤلفوها للتكفير والاضطهاد أو لفتاوى القتل.
ينطلق الكتاب من فكرة أنه لم يكن لمحمد لدى المسلمين الذين عايشوه تلك القداسة التي أُسبغت عليه اليوم. لم يكن إلا بشراً (الأمر الذي يؤكده باستمرار). بدليل أن قَبرهُ ظل غير معروف حتى عهد الوليد بن عبد الملك.
اختلفت الآراء بشأن الكتاب بين مُحتفِل بجرأة الباحثة وبين من صنفها في فئة المغضوب عليهم.
مع ذلك، من الجيد أن هذا التحدي في نزع القداسة عن النبي محمد وصحابته لم يثر “زوبعة” الرفض الغوغائية والتكفير والاتهام التي لاقتها كتب كثيرة قبله؛ من صادق جلال العظم في بداية السبعينيات إلى نصر حامد أبو زيد إلى سلمان رشدي. بل تمت مراجعته بشكل رصين ومن على منابر إسلامية أحيانا.
فهل هذا علامة على تطور ما في مجتمعاتنا لجهة تحمل نقد الدين والنظر إلى النبي والآباء المؤسسين من دون نتائج كارثية؟ هل يكون للثورات التي تعرضت للقمع وحوربت هذا الأثر الحميد؟
لقد سعت الباحثة في كتابها الصادر بالفرنسية عن دار “ألبان ميشال”، إلى البحث عن محمد التاريخي، الرجل الذي وُجد من لحم ودم، وانطلقت في عملها من الأيام الأخيرة للنبي ـ الإنسان الضعيف والمريض ـ وأبرزت الصراع على الخلافة واستهداف السلطة والتخطيط للحصول عليها مع استبعاد الخصوم إلى تغليب الطمع أحيانا واستخدام الحيل والكذب وحتى القتل في أحيان أخرى. فهذه جميعها من المحركات الرئيسية لتلك المرحلة. في تأكيد على أن البعد السياسي شكل محورا هاما للنبي في حياته ولمن أحاطوا به. فغالبا ما يكون الدين واجهة للطموحات الإنسانية.
ترفض الكاتبة القراءة المحدودة التي تخفي الحقائق؛ معتمدة على المصادر المتنوعة: القرآن، والحديث، وكتب السيرة، والتاريخ، والروايات السنية والشيعية. مع الإشارة إلى أن هذه المصادر تثير العديد من الأسئلة؛ فالقرآن جُمِع بعد وفاة الرسول، والحديث جُمع بعد قرن ونصف، وكذلك الأمر بالنسبة إلى الأخبار.
لقد استطاعت الكاتبة إعادة صياغة الأحداث مستخدمة منهجية المقارنة لجعلها أكثر قابلية للفهم. وهذا جديد، لأننا اعتدنا على تعامل نمطي جامد في انتقائيته التي لا تجيز أي مراجعة أو نقد لأي من أفعال النبي أو حتى التعليق عليها.
وفي رأيها إن هذا الموقف الجامد يعود إلى أن هناك ما يثقل ضمير المسلمين؛ مما تعرض له النبي في أيامه الأخيرة سواء في منعه من كتابة وصيته، إلى تلك الصورة المحزنة لترك جثمانه يتعفن ليومين من دون أن يُدفَن. مع العلم أن من أهم تعاليم محمد “إكرام الميت دفنه”! هذه الصور المشؤومة المسكوت عنها لا تزال تؤرق اللاوعي الجمعي الإسلامي. وهي القطب المعاكس للعبادة المبالغة للنبي في أيامنا هذه. إن دفعَ المسلمين لعبادة نبيهم إلى الحد الأقصى هو هاجس حقيقي ـ دفاعي ـ أمام التجديف الذي تعرض له ما جعل هالة التقديس الحالية تحمل شيئا من التحجر.
فبعد ألف وأربعمئة عاما أصبح محمد “تجريدا صافيا” ذا فعالية هائلة يقاوم كل المحاولات التي يمكن أن تمثله. ولهذا شكلت الصور الكاريكاتورية الشهيرة قلقا وانزعاجا عميقين عند المسلمين لدرجة تسبُّبِها بردود فعل قاتلة ليس لأنها تهزأ من النبي بقدر ما لكونها وضعت الإصبع على ما يعتقد أنه نقطة الإسلام الضعيفة: إنكار تمثل النبي بأي شكل من الأشكال. فيكون الإرهاب قد أعاد بشكل متوحش راهنية الخيال الديني الأصلي للإسلام.
المفارقة أنه في عصر الصورة لم يعد رفض الرسم الأيقوني في الإسلام مجرد “دوغما” مطلقة بل عارضا فاضحاً للاتزامن الذي أظهره الرد العنيف على الصور وأعطاه بعدا مأساويا. بحيث يبدو أن الاسلام أغلق على نفسه عبر العصور في “تمثل مطلق” تجعله يرفض بالقبول بمنطق زمن الآخرين. فلا يقبل المسلمون النظر إلا في مرآة تراثهم الخاص المحابية، معتقدين أنهم سيستطيعون تكثيف تاريخهم ومستقبلهم أيضا في وهم أزلية لا تهزم.
ترى الباحثة أن ردة الفعل هذه بدل أن تكون ردة فعل بعض الرؤوس الحامية أو الذئاب المنفردة تبين أنها رأس جبل الجليد الهائل للامتثال (conformism) الديني المتواطئ مع الجريمة الصامتة. فالعنف السياسي ليس ظاهرة عرضية بل هو عنف مؤسس كان الرسول نفسه ضحية له فبعد منعه من كتابة وصيته سقي دواء شك بأنه سم. وهو كان بدأ بالشك بمحيطه منذ محاولة اغتياله لمرتين واتهم ضمنا أقرب محيطه.
نقاط عديدة ملفتة في الكتاب تستحق التوقف عندها، لكن لضيق المجال سأتوقف عند بعضها فقط.
عمر والنساء
تظهر الباحثة شخصيات المحيطين بالنبي عبر أفعال أو أقوال نسبت إليهم وعبر ردات فعل الآخرين. تصف أبو بكر بالذكي اللماح الذي التقط باكرا أهمية ما جاء به محمد وشعر أنه تأريخ لزمن جديد ووقف إلى جانبه. مع ذلك هو تاجر قد يغلّب مصلحته على كل ما عداها. ولقد ساعده كثيرا كون ابنته عائشة الزوجة المفضلة عند الرسول، في الوصول إلى الخلافة؛ فهي كثيرا ما كانت تتجسس على النبي ما يغضبه جدا أحيانا. أما في الأيام الأخيرة فلقد كانت هي صلة الوصل الوحيدة بين محمد ومحيطه تنقل له ما تريد وبالعكس. لكن الغريب كيف أن عائشة التي لازمت الرسول في أيامه الأخيرة لم تكن موجودة عند دفنه؟
تصف الكاتبة عائشة أنها ذكية وشغوفة وحقودة. لكنها تميل إلى الإعجاب بها؛ عكس موقفها من فاطمة التي تظهرها مفتقرة إلى الجمال ولها طبيعة فاترة تأخرت في الزواج لأن أحدا لم يرغب بها عكس أخواتها الأكبر منها. حتى عليا (تلمح الباحثة أن فاطمة أكبر منه) يبدو أنه أرغم تقريبا على قبول الزواج الذي رفضته أيضا فاطمة ووصفت زواجهما بالتعيس.
تبرر رفض فاطمة إلى كون عليا يبدو كما أظهرته أقرب إلى التشوه والبلادة والكسل معتمدة على الكتب السنّية على عكس الكتب الشيعية التي تسبغ عليه من الصفات والمزايا ما يضعه في مصاف الأبطال بالغي الوسامة. في متابعتها لشخصية علي بدت الكاتبة وكأنها تبحث عما يقلل من أهمية الشخصية ومزاياها وأرادت أن تبرهن عدم ثقة النبي به.
ومما قدمته لنا من معلومات ومن أحداث الأيام الاخيرة للنبي، يبدو أن النبي لم يكن يعتمد كثيرا على “علي” في البداية، لكن خبث وخيانة الأصدقاء المقربين منه ربما جعلته يعيد النظر ويسعى إلى الاعتماد عليه. ثم في مناسبات عدة بدا أفراد عائلته أضعف وأقل قدرة من عمر وأبو بكر.
وفي النزاع الذي انطلق في الجلسة التي يطلق عليها “رزية الخميس”، حيث الصمت التام في كتب التراث عن سبب هذا النزاع؛ حضر الجميع بمن فيهم عمه عباس وابن عمه، ولا ندري سبب غياب علي، وهؤلاء جميعا لم يستطيعوا مواجهة عمر أو تغليب رأيهم فيما لو كانوا يعتقدون أنه سيوصي بخلافة علي. ومن هنا ما ينقل عن النبي توقعه استضعافهم، فهم بدوا كذلك بحضوره فكيف بغيابه.
أما كيف تمكن عمر من منع النبي، عمليا، من كتابة وصيته. فيبدو أن ما سمح لعمر بذلك ما يظهر من شخصيته النارية المتسلطة والمهابة حتى من النبي، الأمر الذي كان يسمح له بالتدخل بحياة النبي الخاصة وبزوجاته ولقد اعترضن عليه في مناسبات عدة من أنه يسمح لنفسه بما لا يقوم به الرسول نفسه.
فمحمد كان يتعاطف مع النساء واعترض عند احتضاره زجرَ عمر لهن لاعتراضهن على منعه النبي من كتابة وصيته. قائلا للموجودين: إنّهن أفضل منكم. ومن المعروف أن عمر على عكس النبي، كارهٌ للنساء وهو من جعله يفرض الحجاب على نسائه ووحده الذي أصر على وجود آية الرجم وأعادها إلى الذاكرة.
صلح الحديبة الوثيقة العلمانية الأولى في الإسلام
لم تظهر أهمية صلح الحديبة للمحيطين بالنبي، فلقد وجدوا فيه تنازلا غير مقبول إذ وقّعه باسمه محمد دون لقب نبي المسلمين. وكاد عمر أن يخرج من الإسلام. وبحسب الباحثة، لم يعطَ هذا الصلح وأهميته للإسلام والمسلمين حق قدره.
وهو عدا عن أنه الوثيقة العلمانية الأولى في التاريخ الإسلامي لأن محمدا قبل أن يوقعها بصفته رجل دولة وليس مبعوثا نبويا، محدثا الفصل بين الديني والسياسي؛ برهن صلح الحديبة عن فعالية مذهلة، فلقد أكسب الإسلام من الأتباع أكثر من أي نصر حربي. وهذا بسبب ما يمتلكه النبي من حس توافقي حاد كاستراتيجي مرهف.
ربما يجب تأليف مراجع، على هذا النمط من الكتابة الموضوعية كي تعرض، بأكبر قدر من الموضوعية، مختلف الروايات حول النبي والسيرة والسنة، رواية السنة ورواية الشيعة والرواية التي يتفق عليها الجميع وتلك التي يختلفون عليها جذريا والأخبار والأحاديث المتفرقة. مع محاولة تبويب ومقارنة وإعادة موضعة تاريخية قدر المستطاع.
وليترك للقارئ مهمة تكوين الرأي الذي يتوصل إليه. فمن غير المعقول أن يظل لكل فئة رواياتها الخاصة والمقدسة التي لا يمكن المس بها. ربما عندما نقرأ نص “الآخر” بطريقة مجردة قد نعيد النظر بالخطابات التي تؤجج الصراع المذهبي والتي اكتسبت صفة القداسة!
إقرأ أيضاً:
“عليّان”: الأسطوري والتاريخي قراءة تاريخية بدون تعصّب أو انحياز
رسالة من المخرج الإيراني “محمد نوري زاد”: إجلس يا “علي” لكي أنصحك!