ثمة فئة تنظم «يأسها» العلني من الثورات العربية المتحققة، وتستبق «اليأس» نفسه من الثورات الجارية، السورية منها خصوصاً. باتَ لهذه الفئة كليشيهاتها وضمنياتها وهمهماتها المتسرّبة الى مناحي التعبير والوعي العربييَن… نعم الى هذا الحدّ «يأسها» منسق، تسنده عبارات بسيطة، مثل «خرجت (هذه الثورات) عن سياقها»، «سرقها الظلاميون»، «تعمّمت الفوضى»… تلك هي أهم كليشيهاتها. بحيث يمكنك أن تدرك هذا «اليأس» من لهجة صاحبه، أو ايماءاته، إن كان «يأسه» شفاهياً… قبل ان ينطق بواحدة من تعبيراته، قبل أن يتذكرها.
في صفوف هذه الفئة يمكن ان تجد، أيضاً، أصنافاً من الانتماءات ومن المواقف. ولكن الواضح ان الطاغي عليها هم أصحاب موقف معاد بالأساس للثورات العربية، خصوصاً بعد اندلاع الثورة السورية… بحجة ان المجتمع، بسُباته الديني ورجعيته ليس مؤهلا لها؛ ولكن أيضا من دون حجة مفيدة. رفض معلن، تسنده مجموعة أخرى من الكليشيهات المحفوظة والمكررة الى حدّ غير معقول، من نوع ان هذه الثورات إنما هي «مؤامرة إمبريالية-صهيونية«، أداتها «الإرهاب الديني المسلح« (كم من مرة قرأت هذا الكلام أو سمعته؟).
تجد هذه الفئة من «اليائسين» أينما كان، في لبنان، حيث يقف طائفيون شيعة ضد الثورات، يناظر كليشيهاتهم طائفيون سنّة بات لهم مجال حركة وتعبير، يعتقدون بأن الثورات، السورية منها خصوصاً، جاءت لتحمل لهم بشارة عودة الهيمنة السنيّة إلى مسلمي لبنان.
«يأسهم« مزعوم، ينطوي على كل أصناف الشماتة من الأغبياء الذين يتورطون بالوقوف مع هذه الثورة: «هل هذا ما كنتم تريدونه؟» ينشدون… «لحى وشريعة وخلافة وإرهاب…؟!» يصرخون، غير ناظرين إلى حدبتهم الظلامية الطائفية، التي حوّلت مجتمعهم الصغير إلى قلعة مصغرة من التشدد، ليست قابلة للعيش إلا بفضل نسمات طائفية تأتيها من الطوائف الأخرى…. ليست حجة «العلمانيين» و»الحداثيين» و»التقدميين» أقل تهافتاً من الطائفيين؛ في «يأسهم« إعتزاز بقوة الحجة، من أنهم ضد هذه الثورات لأنها تنهي السلطات «العلمانية» التي كانت حاكمة، والتي كنا نقايض استبداديتها بعلمانيتها وتنويريتها…. تلك هي وقفات الفئة الاولى، «اليائسة» وتعبيرات حكمة وألمعية على وجوه أصحابها، ونصر فكري… على أن يكون سنداً لنصر عسكري قادم لا محالة…
الفئة الثانية تقف على النقيض تماماً. هي ساندت الثورات منذ البداية، وتعمل باجتهاد على دحض هذا اليأس بنوع من التفاؤل الذي لا تعوزه، بدوره، الكليشيهات. الرئيس التونسي المنصف المرزوقي يقف على رأس هذه الفئة. يدافع بحرارة عن ائتلافه الحاكم، هو الليبرالي، الذي «قبِل« برئاسة جمهورية ما بعد الثورة يسيطر عليها اسلاميو حزب «النهضة«. وحجته المكينة انه ليس مثل الغرب، «إسلاموفوبي«… هو لا يخاف من الإسلام، وإن الإسلام السياسي سوف يتطور…. الخ. فيما على الأرض التونسية ليس لهذا الرئيس صلاحيات، بل تُنقض قراراته من دون أن ينتفض لأجل هذه الصلاحيات… (كما حصل مع إعادة المعارض اللليبي البغدادي المحمودي بقرار من الحمادي الجبالي، رئيس الوزراء النهضاوي).
ولكن إذا كنا نتفهم «أمل» الرئيس التونسي، بصفته حيثيته الأبرز ليبقى رئيساً في جمهورية تتأسلم بخطى هادئة وصاخبة، مباشرة أو بالتدرج… فإننا لا نفهم تماماً «الأمل» الذي تدافع عنه فئة من الناس، تتعاطى الكتابة؛ فانطلاقا من ليبراليتهم، يفترض هؤلاء بأن الخطر الإسلامي الذي تسير إلى هاويته الثورات العربية ليس حقيقياً بالقدر الذي يسمح بتكوّن يأس فكري من نتائجها المستبَقة. في ليبيا، يقولون، خسر الإسلاميون الإنتخابات وفاز الليبراليون. في تونس، لا يحكمون إلا بائتلاف، وفي مصر يخوضون صراعاً مع العسكر… وهم، أي المتعاطين بالكتابة هؤلاء، يبنون أملهم من الهوامش الحرة التي تخلفها مقومات هذا الزحف الإسلامي نحو السلطة، هي الهوامش نفسها الآخذة بالتضاؤل.
الفئة الأولى «اليائسة» لم تكن تريد هذه الثورات من الأساس، أو أرادها بعضهم حتى جاءت الثورة السورية. وهي الآن تعاديها من منطلق ضمني يفيد بأنه «كان يمكن تفاديها…»، وكأنهم ليسوا أمام زلزال طبيعي، وهي أكثر من ثورة بحد ذاتها، وما كان يمكن تفاديها إلا بالنار والحديد، عندما دعت الحاجة، كما حصل في سوريا. لذلك، فان «يأسهم» هو برسم التاريخ، ولا يحتاج الى أكثر من استمرار الزلزال وإرتداداته.
أما الفئة الثانية، «المتفائلة»، فان حجتها للإحتفاظ بالأمل ضعيفة، تستند الى وقائع غير مطابقة: في ليبيا، صحيح أن الإخوان المسلمين لم يفوزوا في الانتخابات، لكن الليبراليين الذين تفوقوا عليهم قالوا بالشريعة وتعدد الزوجات، ولم يتقدموا بأي فكرة تنمّ عن هذه الليبرالية؛ ليبراليون بسبب الانتماء العشائري والجاذبية الشخصية (وما ادراك ما الجاذبية الشخصية!). في مصر أيضا الصراع بين الإخوان والعسكر ليس هو الذي سيخلق هامش الحرية، بل ربما العكس. كذلك في تونس، حيث الرئيس (الليبرالي) هو الواجهة التي تزيّن أسْلمة تتحقق بما يشبه الرعاية «الناعمة» للتشدّد السلفي الزاحف.
«أملٌ» من هذا النوع، فوق ذلك، يغرف قوته من مظاهر الأشياء التي على السطح، من الصراع السياسي المباشر: هذا لم يحكم بعد، وذاك تقاسم، والآخر غُلِب الخ، أي أننا ما زلنا على المستوى الظاهر المغطّى إعلامياً من الموضوع، ولا نغوص إلى أعمق من ذلك؛ حيث حركة المجتمع وتوجهه الواقعي، ومدى استعداده للأسلمة، مدى تطلبه لها. لذلك، فان «الأمل« الذي تدعو له هذه الفئة من الناس يبدو هزيلا، باهتا أمام ضخامة الثورات التي يفترض بها انها بعثته. من جهة زلزال بركاني، ومن جهة اخرى، «أمل« بنتائجه، لا يتجاوز الفأر بحجمه: «أمل» هش هزيل، لا يصمد ولن يصمد أمام هول ما ينتظره من تقلبات حادة وإخلالات صارخة بالفكرة الاساسية التي قادت الثورات. وربما يسهل طعنها امام أعيننا، فيما نحن ما زلنا نستمد منها آمالا وأحلاماً…
الأرجح، أن مقياس الثورات في طور تحققها لا تملأه الثنائية (إياها!) الحادة التي تملي الحكم عليها أو تقييمها. بين اليأس الشامت والأمل الرخو، يوجد مساحة ثالثة لا بديل عنها، لو أردنا الإبقاء على قلوبنا من دون النيل من عقولنا. انها مساحة «التشاؤل» (شكراً إميل حبيبي، على هذا المورد). وهو يعني تفاؤل القلب وتشاؤم العقل. انه أمل نوعي، لا كمي، لا تبنيه «الإشارات» الملتبسة أو غير المفهومة أو الخارجة عن موضوعها وسياقها.
بالتشاؤل ننظر إلى ثمرات الثورات بغير الصفة السياسوية، المنجذبة دائما وأبداً الى مجريات الصراع على السلطة التي تليها. فهي، أي الثورات، أزالت الضغط عن حركات اسلامية تهيء نفسها منذ عقود لفراغ سلطوي ما، أتت به هذه الثورات. وقد رفعت هذه الأخيرة الحجاب عن مجتمع حُرِث بالاسلامية السياسية حتى نخاعه، وبات طلبه على الاسلامية يتجاوز طاقة التنظيمات الإسلامية على استيعابه. (لذلك، لا يعني الكثير عزوف الناخبين عن المرشح الإخواني. فالأصوات الممتنعة عنه ليس هناك ما يشير إلى أنها قد تذهب الى هذا الجناح «الليبرالي الثوري» أو ذاك…. وقِسْ على ذلك). والسفور المجتمعي هذا، يكشف بالقانون الديموقراطي البديهي، أن الشعب نفسه ينجذب بقوة لكل أنواع الخطب والممارسات الإسلامية، بصرف النظر عما تدعمه من دول، بل هذه تعرف من تدعم: من هو القابل لتجنيد العدد الأكبر من الانصار.
إن تعميق معرفتنا بهذه الميول المجتمعية سوف يعزز تلقائياً معرفتنا بتكويناتها الحداثية، بعناصر هذه التكوينات وسماتها، بالذي جذبها وجذرها ووضعها في حالة رفض شبه مطلق للحداثة وبناها الفكرية. هكذا نمط من المعرفة لا يتوقف عند هذه الحدود، سوف يتناول بطريقه النخبة الحداثية نفسها، وسوف يطرح عليها التساؤلات اللازمة التي حولت فكرة حداثية بامتياز، أي الديموقرطية، إلى ما تكرهه، أي حكم يقارع من أجل أن يستبد.
وفي هذه اللحظة تحديداً من الوعي، سوف يكون على جميع الليبراليين، والحداثيين من صلبهم، البحث في طبيعة تكوينهم هم، عن هشاشته، عن تزيفه، عن تسرعه وتعاليه. ذلك انه، في نهاية الأمر، لو شاء القدر أن يصعد إلى السلطة بعد الثورة الليبراليون التنويريون الحداثيون، هل كنا سننعم بالجنة الديموقراطية؟
dalal.elbizri@gmail.com
كاتبة لبنانية
المستقبل