هو الأضحى يطل بعد أيام، هو الأضحى الأغلى والأدمى والأفتك ألماً. الخراف لم تنحر قرباناً لله سبحانه وتعالى وانما على مذبح الحرب المقيتة التي يجب ان تبقي طريق الحرير مفتوحاً أمام الغزاة. وتستوجب لهذه الغاية الحفاظ على نظام بشار الأسد ولو على حساب عسكر لبنان الذي نريده حامي الحمى ويريدون له في أحسن الأحوال ان يبقى “سرايا مقاومة” تحت جناح المعادلة الرباعية المستحدثة.
هو الأضحى الذي لن يطل على عائلات العسكريين الشهداء. فالمسافة بينهم وبين الأعياد صارت تقاس بالسنين الضوئية. وهذه المسافة تجعل الضوء في نهاية نفق الوطن مستحيلة على رغم الاستعداد للاحتفالات بنصر مفتعل وملغوم.
تصنيف الجيش اللبناني “سرايا مقاومة” في أحسن الأحوال، أكدته التطورات الأخيرة التي استوجبها سيناريو الجرود، حيث الحرب من طرف واحد في غياب عدو يواجه، وفي وجود مجرمين حصلوا على ممرات آمنة لينسحبوا بعد إتمامهم أدوارهم في معركة الحفاظ على النظام الأسدي.
التصنيف الجديد للجيش نعمة وارتقاء واعتراف بقبول وجوده على أراضي الحزب الإلهي اللبنانية، بشرط ان تُحترم الخطوط الحمر ولا ترتفع عين الشرعية على حاجب محور الممانعة.
في السابق لم يكن للجيش أي حيثية في قاموس هذا المحور، وموت سامر حنا خطأ مطبعي يكفي الاعتذار عنه بعد سنوات. ولطالما اعتُبر حضور هذه المؤسسة الوطنية صورياً وفق مقتضيات واقع الحال ولزوم ما يلزم لذرّ الرماد في عيون من يتهم الحزب بالخروج على الشرعية اللبنانية واصطناع التزامه منطق الدولة. لذا كان طبيعياً الالتفاف عليه في الوقت الذي يطمح اللبنانيون الى الالتفاف حوله، وفرض الوصاية عليه واختراقه واستخدامه حيث يمكن لمحور الممانعة الاستفادة منه، كما يصح الاستنتاج من مواقف عدد من الشخصيات العسكرية وتحليلاتهم الخنفشارية بعد الخروج من الخدمة الى التقاعد. اذ يبدو جلياً ان الولاء كان للحزب على حساب المؤسسة واعتباره في مكانة ارقى وافعل من الجيش المغلوب على أمره والعاجز وحده عن حماية لبنان.
لكن اليوم مع توريط “حزب الله” لبنان، وتحديدا الجيش اللبناني الذي دفع ثمناً دامياً، في لعبة الحرب السورية الوسخة، نتوقف قليلاً عند الاستهتار الممانع بإخراج لائق لكشف مصير العسكريين المفقودين.
فقد جاء الخبر الفظيع تسريبة إعلامية.
ولِمَ لا؟! فالقرابين الذين تم التعامل مع مأساتهم باستخفاف يشكل جريمة تكاد توازي جريمة قتلهم. جريمتهم انهم ليسوا حلقة يجب ان تنتهي فصولها بإنقاذ الرهائن كما شهدنا في أعزاز، لأن المطلوب في حينه كان طنّة ورنّة ترفع أسهم الحزب في بيئته وتبرر جرائمه السورية، وليسوا محسوبين على المسيحيين تحديداً، اذ كان المطلوب ان يشعر أبناء هذه الطائفة بخطر ابادتهم على أيدي “المتطرفين السنّة” فيطلبون الحماية ويخضعون للذمية خوفاً على مصيرهم.
من استطاع قيادة المفاوضات بصفة رسمية في قضايا أعزاز وصيدنايا بمعزل عن صفته الرسمية، لم يستطع الحؤول دون تقديم العسكريين المفقودين قرابين على مذبح حرب إطالة عمر نظام الأسد. لا نعرف من كلّفه في الحالات السابقة ولمَ لم يتم تكليفه من الجهة ذاتها في حالة العسكر؟
لكننا نعرف ان أضاحي أعياد الانتصارات الالهية لم يحظوا بمفاوضات تؤدي الى عمليات تبادل، كالتي حصلت بين “داعش” ومحور الممانعة واسفرت عن استرجاع عناصر من الحزب وجنود من الجيش الأسدي ومسؤولين إيرانيين، ناهيك عن عمليات التبادل للنفط مقابل المال او المواد الغذائية او غير ذلك من علاقات مدروسة تؤمن لـ”داعش” استمراريته حتى انتهاء صلاحيته.
لم يحظوا الا بالشهادة لأنهم لم يكونوا ورقة يحتاجها محور الممانعة. تُركوا لمصيرهم، في حين يتباهى “الحزب” بأنه عندما يريد يحقق ما يريده. ما يعني ان محور الممانعة، بوصفه الأقوى على الأرض، وبوصفه الاعلم بالحرب القذرة التي انخرط بها، لم يكن يريد.
لم يشفع لأضاحي العيد انهم يختصرون لبنان بانتمائهم إلى مؤسسته الوطنية. فقد تُرك الجيش على أبواب الجرود مشلولاً وممنوعاً عليه التفاوض لمعرفة مصير أبنائه. وواصل “حزب الله” تبنيه مبدأ محاربة الإرهاب لتبييض صفحته وتعويم النظام الاسدي في المحافل الدولية، ولتكريس دوره الجديد ربما كان يحتاج الى مزيد من الأضاحي.
الجيش لا يزال متروكاً رغم الميزانية الخاصة لحملة تزيين طرق الجنوب بالعلم اللبناني الى جانب علم الحزب الالهي.
الجيش لا يزال متروكاً على رغم الدور الذي أعطيَ له من دون إفراط وبشروط وإصرار على إظهاره في مظهر الجزء من كل ممانع. وذلك لاستكمال مسرحية الجرود وإظهار البطولات الخنفشارية لـ”الحزب” وجيش الأسد بغية تعويم نظام البراميل المتفجرة والأسلحة الكيميائية والقتل والقمع وغياهب السجون التي تبتلع الشعب السوري خدمة لنفوذ المشغّل الاكبر.
في كل هذه المعمعة التي استوجبت منح “الحزب” مهمة للجيش اللبناني، كان الحرص واضحاً على منع الجيش من قطف مجد حروب الممانعة المقدسة التي أدت الى “احتلال” “داعش” أراضي لبنانية. وكان المطلوب بعد همروجة الأسبوع الماضي ان يعود الحدث الى القلمون السوري حيث “الحزب” وجيش بشار الأسد و”داعش” يشكلون ثلاثية بلورية تتمارى على صفحاتها حلقة من حلقات الحرب السورية الوسخة، التي اعتمدت معادلة تسليم الأرض للإرهابيين ومن ثم استرجاعها وترحيل هؤلاء الإرهابيين بجرائهم الموصوفة الى حيث أمانهم الجديد.
لن تكون مهمة الجيش في المرحلة المقبلة سهلة او مريحة، ولا سيما بعد انكشاف ستر “داعش”، كونه الوظيفة المراد لها ان تروع العالم خدمة لهذا المحور. ويبدو ان من اخترعه قرر اقالته بالتراضي. فـ”الداعشيون”، وقبلهم عناصر “جبهة النصرة”، لا يتعاملون الا مع الحزب الإلهي والنظام الاسدي، ولا يأمنون الا جانب هذا الفريق ليقرر مصيرهم، ولمجده يجيّرون مصير العسكريين اللبنانيين.
لعل ما أعلن عن اتفاقات لوقف النار على جانبي الحدود اللبنانية- السورية، يؤكد ان لا شيء جديداً في هذا الطرح سوى ان تعاقب الاحداث والمعارك المفتعلة التي تليها انتصارات مفتعلة تصب في هذا الاتجاه فقط لتبرير طلب التنسيق العلني مع الحكومة السورية وفرض الأمر على السلطة اللبنانية في خطوات تسكتمل ملف إعادة النازحين السوريين، وانعاش الاقتصاد اللبناني والوعود الدونكيشوتية بمشاركة الجهات اللبنانية في إعادة اعمار سوريا.
من يتجاهل هذا الواقع، نذكّره بأن نصر الله قال في خطابه الأخير انه “بالنسبة الى حزب الله نقاتل من اجل اللبناني والسوري لاننا نؤمن ان المعركة لا يمكن تجزئتها وتفكيكها”، لاغياً بذلك نظرية مشاركته في الحرب السورية، والمفروض انها كانت استباقية لمنع التطرف من تهديد لبنان، لأن “الحزب” كان البادئ الأظلم للسوريين واللبنانيين، حتى قبل فبركة “داعش” و”النصرة”، تارة بحجة حماية العتبات المقدسة وطوراً حماية لشيعته في القصير والقلمون وكفريا والفوعة وغيرها.
على أساس استحالة التجزئة والتفكيك، انغمس “الحزب” في “مقاومته المتحدثة ضد التطرف” وكانت مشاركته في القضاء على الثورة السورية ومسخها “داعشية”.
كلّ كلام آخر، هو جعجعة لا قمح فيها. لبنان بجيشه وشعبه وجروده ليس سوى كومبارس في اللعبة الكبرى التي تقضي بأن ينوجد الحزب في العراق واليمن والبحرين والكويت ومصر واينما تدعو الحاجة، ببساطة لأنه يؤمن بأن المعركة لا يمكن تجزئتها او تفكيكها حتى لو كان الثمن تقديم عسكر لبنان قرباناً على مذبح ما يؤمن به الحزب الإلهي.
sanaa.aljack@gmail.com
النهار