ما أن انتهت الجولة الثانية لمؤتمر جنيف -2 حتى بدأ كل من طرفي الصراع التحضير بقوة للعودة إلى الميدان لتحسين موقعه على الأرض عسكرياً قبل العودة مجدداً إلى طاولة المفاوضات، التي لم يتم تحديد موعد لجولتها الثالثة من قبل الموفد العربي – الأممي الأخضر الإبراهيمي. هو سياق طبيعي خبرته معظم الحروب والنزاعات، لكن البارز في المشهد السوري أن ثمة قراراً قوياً للقوى الغربية الداعمة للمعارضة باللجوء إلى المسار العسكري، ورهاناً على ضرورة أن يُحدث الميدان تغييراً ملموساً في موازين القوى في الفترة الفاصلة عن الجولة الثالثة يُعيد بعضاً من العقلانية والواقعية للنظام السوري في العملية التفاوضية.
فما تكشّف من معلومات عما دار في جنيف -2 بين الإبراهيمي ووفد النظام يُفسّر الاتهام الأميركي بلسان وزير الخارجية جون كيري لروسيا بتعزيز مساعداتها للرئيس السوري بشار الأسد وتشجيع مغالاته في قتل شعبه، وإعادة حديثه عن أن الرئيس باراك أوباما يعيد باستمرار درس الخيارات المتوافرة ولا يستبعد أي خيار. ففي المعلومات التي تسرّبت إلى جهات لبنانية حليفة للنظام السوري، أن الإبراهيمي عَقَدَ في اليوم ما قبل الأخير اجتماعاً مع وفد النظام، وبادره بالقول أنه سيتحدث معه بالمباشر من دون مواربة أو إيحاء، عن وجود توجه أميركي – أوروبي لدعم فكرة التمديد للأسد سنتين، على أن يترافق ذلك مع تشكيل حكومة انتقالية بصلاحيات كاملة، ولا سيما في المجالين الأمني والعسكري، على أن تكون مهمتها الأولى التصدّي للمجموعات المسلحة ذات السمة التكفيرية والإرهابية، ومن ثم يتم العمل على عقد مؤتمر وطني لوضع دستور جديد يُحدّد تركيبة النظام لسوريا الغد. بدت علامات من الرضى على وجه وليد المعلم فيما كان فيصل المقداد وبشار الجعفري أكثر تحفظاً.
أمهل الإبراهيمي الوفد أربعاً وعشرين ساعة لإعطائه الجواب لمراجعة القيّمين في دمشق. في اليوم التالي نقل الوفد جواب النظام. قال المعلم للإبراهيمي: لقد عرضنا الاقتراح وسأتحدث معك أيضاً بالمباشر وليس بالإيحاء. إن الرئيس الأسد لا يقبل بالتمديد، وهو مصرّ على أن يترشح للانتخابات الرئاسية المقبلة، لكنه ليس ضد فكرة حكومة انتقالية شرط أن تتحدّد تركيبة الحكومة في ضوء أحجام القوى وأوزانها، ومع أن تكون مهمتها الأولى التصدّي للمجموعات الإرهابية. فَهمَ الإبراهيمي الرسالة: فالأسد غير قابل للسير بالحل السياسي الذي يطرح التمديد، ويريد أن يُفرغ الحكومة الانتقالية ويُشتّت المعارضة بحيث يُحكم سيطرته على الحكومة كقوة وازنة فيها.
وصلت الرسالة إلى الأميركيين والغرب، وانتهى مؤتمر جنيف -2 من دون أن يُحدّد الإبراهيمي موعداً للجولة الثالثة، فيما كانت موسكو تُبلغ حليفها أنها لا تتدخل بخياراته، وهي سائرة معه في الخيار الذي يتخذه.
إزاء موقف النظام السوري، الذي بات واضحاً للراعي الأميركي أن ذهابه إلى جنيف -2 ليس إلا مناورة وخطوة شكلية، بدأت عملية التحضير في الميدان كوسيلة لإعادة الضغط على الأسد والإتيان به إلى طاولة المفاوضات بتوجّه مرن ومستجيب للسيناريو المرسوم دولياً لحل الأزمة السورية. ووفق تلك الجهات اللبنانية الصديقة للأسد، فإن النظام السوري وحلفاءه لا يقللون من أهمية القرار بدعم المعارضة عسكرياً بسلاح نوعي والتحضيرات في شأن معركة دمشق لإدراكهم أن هدف الهجوم هو تغيير المعادلة الميدانية في إطار دفع الأسد للقبول بشروط التسوية. وهم يتحسّبون للمواجهة المقبلة لمنع سقوط دمشق ويُدرجون معركة القلمون الدائرة راهناً كجزء من خطة ضمان حماية دمشق.
إلا أن استراتيجية النظام وحلفاءه لا تقف عند حدود الدفاع عن مناطق سيطرته، بل تتعداها إلى استحضار النموذج الجزائري مجدداً، بحيث يجري التركيز على السيطرة على المدن الرئيسية في المحافظات سواء في حلب وحمص وحماه وبدرجة ثانية إدلب ودير الزور، ودفع المعارضة المسلحة أكثر باتجاه الأرياف والأطراف، ما يُؤمّن للنظام، ليس السيطرة على النسبة الأكبر من المساحة، بل على النسبة الأكبر من الثقل السكاني الموجود في المدن، الأمر الذي يجعله يتحكم بقلب المدن عسكرياً وأمنياً وبنتائج الانتخابات المقبلة سياسياً، ويفرض شروطه كمفاوض أقوى على الطاولة.
على أن النظام وحلفاءه يدركون أن المعركة ستمتد رحاها أشهراً عدّة، وقد تستمر إلى أيلول المقبل وهو التاريخ المرتقب لإجراء الانتخابات الرئاسية في سوريا، ويدرك هؤلاء، ولا سيما «حزب الله»، الذي يضع ثقله في المعركة وخصوصاً في “القلمون” متحسباً لحجم الخسائر التي قد تصيبه، إلا أنهم ينظرون إليها على أنها المعركة الفاصلة التي من شأنها أن ترسم صورة المشهد الإقليمي الأكبر. ذلك أن الحسابات لا ترتبط بمستقبل النظام السوري فقط ، بل بمستقبل موازين القوى في المنطقة التي تشكل الحرب الدائرة في سوريا إحدى ساحاتها، إلى جانب الساحات الأخرى وأبرزها راهناً الساحة العراقية التي من المفترض أن تتبلور معالم الصورة فيها على ضوء الانتخابات النيابية ومدى قدرة نوري المالكي على العودة إلى السلطة، بما يشكله من ركيزة أساسية لمحور طهران – دمشق – حارة حريك، من دون إغفال أن المالكي ما زال نقطة تقاطع إيرانية – أميركية، وأحد الملفات المتأزمة في العلاقة الأميركية – السعودية، فضلاً عن الملف النووي الإيراني والانفتاح الأميركي على طهران.
ومن هنا يرى حلفاء دمشق أن الأشهر المقبلة ستكون أشهراً صعبة ومفتوحة على احتمالات شتى وستحمل في طياتها مخاطر كبيرة، نظراً لشراسة المواجهة التي ستشهدها سوريا على غير جبهة، وطبيعة القوى المنخرطة فيها. فعلى المستوى اللبناني، لا يتوهم «حزب الله» الذي ينغمس يوماً بعد يوم في الوحول السورية أن تداعيات هذا الانغماس قد ترتد على بيئته بشكل أكبر، لكنه يُعوّل على أن نجاحه وقوات النظام في حسم معركة القلمون قد يُقلل من حجم مخاطر التفجيرات الانتحارية التي تتعرّض لها مناطقه بشكل خاص.
غير أن المخاوف من حجم التداعيات التي ستؤول إليها معركة القلمون، وانعكاسها توترات أمنية، وربما تفجيراً للساحة اللبنانية، إذا ما عبر مقاتلو المعارضة السورية إلى الجانب اللبناني، دفع بالأميركيين إلى التحرّك باتجاه مرجع أمني بارز بحثاً عن السبل الناجعة لمنع امتداد التفجير إلى الساحة اللبنانية. وفي المعلومات أن المرجع الأمني المذكور قد لعب دور « المحاور الوسيط» بين الأميركين و«حزب الله» في بحث هذه المخاوف، فكان أن تم التوصل إلى نوع من الاتفاق – التفاهم يضمن من خلاله الحزب إقامة خط عازل بين يبرود - بوصفها المعركة الرئيسية في القلمون – وعرسال، بحيث يحول دون تدفّق مقاتلي المعارضة السورية إلى الأراضي اللبنانية، وبالتالي تأمين حيّز معقول من الاستقرار الأمني!
الأسد يرفض عرضاً أميركياً: تمديد سنتين مع حكومة انتقالية!
من التكهنات فقط, لن نعرف من سينتصر في القلمون لأنها حرب كر وفر. ولكن اذا انتصرت الثورة, لا شك ستشهد المدن على الحدود اضطرابات قتالية شديده. الإنتقام من حزبالله وبيئته لا مفر منها, هذا اذا تقاعست الدولة اللبنانية بالدفاع عن الحدود وبقاء حزبالله ممسكاً بها. عداء الثورة لحزبالله والسلطة التي تتغاضى عن قتاله في سوريا, سيكون الثمن باهضاً جداً.
خالد
khaled-stormydemocracy