كأنّ سورية، الشعب والبلد والحاضر والمستقبل، بحاجة إلى رزء جديد كي تتفاقم أكثر من ذي قبل حال الابتلاء الشديدة المديدة التي عاشتها في إسار “الحركة التصحيحية” طيلة 30 سنة من استبداد حافظ الأسد، وسبع سنوات من استبداد وريثه بشار الأسد، هذا الأخير الذي يستعدّ لتزوير “بيعة” جديدة تمتدّ على سبع عجاف منذرات، على غرار “البيعة” الأولى، بالكوارث التي تلي المغامرات الطائشة هنا أو تسبق الجرائم العامدة هناك، في الداخل السوري كما في الجوار العربي. كأنّ سورية كانت، في ناظر الأخير، بحاجة إلى تذكرة مزدوجة لكي تتيقّن مجدداً من طبيعة البلوى: الأولى داخلية، وتمثّلت في الأحكام المضحكة ـ المبكية، ولكن البذيئة البغيضة، بحقّ نفر من خيرة أبناء سورية (ميشيل كيلو، أنور البني، كمال اللبواني، محمود عيسى، محمود الشمر، خليل حسين…)؛ والثانية خارجية، في مخيّم “نهر البارد” الفلسطيني شمال لبنان، ليس بالأحكام القضائية القراقوشية البائسة هذه المرّة، بل بالدماء والجثث والخراب.
مهازل هذه “البيعة” الثانية تضعنا من جديد أمام مثال حديث العهد عن الحال التي لم تكن تخطر على البال إلا عند قلّة قليلة من المتشائمين (وكاتب هذه السطور في عدادهم، ولا فخر!)، ممّن ساجلوا بأنّ عهد الأسد الابن لن يكون صيغة استمرار لعهد الأسد الأب فحسب، ومواصلة وسيرورة واستئنافاً… أيّها يفضّل المرء، بل سيكون في ملفّات عديدة أسوأ وأردأ وأعنف وأشرس وأشدّ ابتذالاً وعواقب وكارثية في نهاية المطاف.
ففي أيام الأسد الأب كانت التوجيهات العليا، الآتية من مصادر مختلفة في الهرم الأمني أو الحزبي أو البيروقراطي، تحثّ على تشجيع الاحتفالات والمسيرات الشعبية ابتهاجاً بالاستفتاءات الرئاسية، ولكنّ هذا كان يتمّ على نحو غير مباشر أو غير رسمي بالأحرى، وكانت مصادر التوجيهات تراهن على أنّ اللبيب من الإشارة يفهم. أمّا في هذه الأيام فإنّ القيادة القطرية لحزب البعث الحاكم أسقطت هذا الحياء (غير المبرّر، يشهد الله!)، فأصدرت توجيهاً رسمياً إلى الوزارات والمؤسسات والقطاعات المختلفة، يحثّ على السماح للشعب بالتعبير عن أفراحه. في عبارة أخرى، لا تمنعوا مضارب النفاق في الشوارع، ولا تفكّروا مرّتين قبل تأجيل الامتحانات المدرسية إذا كانت تتعارض مع المسيرات الشعبية، واذهبوا بعيداً بعيداً في تسجيل مشاعر السرور والحبور، ولا تقتصروا على ابناء شعبنا في سورية، بل اذهبوا إلى أشقائنا العرب واستفتوهم في مقدار ابتهاجهم بهذه “البيعة” الثانية!
وتحقيقاً لهذا المطلب، جالت الوكالة السورية للأنباء (سانا) في أرجاء الوطن العربي، ثمّ أتحفتنا بالسلسة التالية من الأقوال الماثورة. الممثلة المصرية هند رستم: “بشار الأسد شاب منفتح يحمل نظرة جديدة ومتقدمة للحياة. أشعر أنه سيقوم بعمل مهم بعقليته الجديدة هذه”. ناصر قنديل النائب اللبناني السابق: “تجديد الولاية الدستورية للسيد الرئيس بشار الأسد تعني استمرار نهج المقاومة في هذا الوقت العصيب الذي تشهد فيه المنطقة تحولات كبرى يشكل الرئيس الأسد فيها عنوان الشموخ والكرامة العربية”. الأديب التونسي ساسى حمام: “يحقّ للشعب السورى أن ينشر مظاهر الزينة فى كل المدن والقرى السورية لمناسبة ترشيح بشار الأسد لولاية دستورية جديدة وذلك تعبيراً عن اختياره الحرّ فى مواصلة واستمرار النهج الذى اختاره الرئيس بشار الأسد وطنياً وقومياً وعالمياً”. المذيعة الجزائرية صابرينا شامي: “الرئيس بشار الأسد رجل متطور متحضر وهو شاب يخدم بلده ويحمل مسؤولية الهم القومى. ونتمنى له كل الخير والنجاح ولسورية الازدهار والتقدم”. نائب رئيس مجلس النواب اليمني عبد الوهاب عبد الحميد: “الرئيس الأسد جّسد فى سياسته المشروع القومى والحفاظ على الثوابت الوطنية والقومية”. فخرى قعوار رئيس اتحاد الكتاب العرب ورابطة الكتاب الأردنيين سابقاً: “المواقف القومية للرئيس بشار الأسد تستحق التقدير والاعتزاز والاحترام بما يؤهلها لتكون نهجاً فى كامل المنطقة العربية”…
الأرجح، بالطبع، أنّ الإعلاميين السوريين الذين جمعوا هذه الأقوال لم يصدّقوا هم أنفسهم أنها يمكن أن تنطلي على أبناء الشعب السوري، فيزداد إيمان المواطنين بالدور النضالي والقومي والحضاري والإصلاحي الذي يلعبه المرشح في حياة الأمّة (العربية، جمعاء، وليس سورية وحدها)، ممّا يجعلهم أكثر حماسة لتجديد “البيعة” والاستفتاء بنسبة تقارب الـ 99.99 هذه المرّة، وليس نسبة الـ 97,29 التي حصل عليها في استفتاء تموز (يوليو) 2000. وفي المقابل، إذا كان مرجحاً أنّ الفنانة هند رستم لم تسمع باسم المعارض السوري الأشهر رياض الترك، فإنّ من غير المرجّح أنّ فخري قعوار لم يسمع باسم ميشيل كيلو… عضو اتحاد الكتّاب العرب! أيضاً، لعلّ الشاعرة التونسية آمال موسى، التي أدلت بدلوها في التهليل لهذه “البيعة” الثانية، أشدّ اطلاعاً على معاناة السوريين في ظلّ هذا النظام الاستبدادي العائلي، من اطلاعها على أحوال أهل بلدها في ظلّ نظام زين العابدين بن علي! وإذا كانت الاحتفالات والمسيرات والمضارب تجري في سورية تحت سوط الترهيب، دون ان تغيب عن بعضها عناصر الترغيب والتزلف والولاءات، فما الذي يجبر الكاتب المصري محفوظ عبد الرحمن على النفاق، اللهم إلا إذا كان يؤمن حقاً بأن الشارع العربي كلّه مع بشار الأسد!
غير انّ الحقائق الأبسط، والأشدّ وضوحاً وسطوعاً وجلاء، تقول أوّلاً إنّ الشعب السوري لن يذهب طائعاً إلى صناديق الاستفتاء يوم 27 الجاري، بل سيُساق إليها صاغراً وعلى على نحو أكثر بذاءة من سوقه إلى مسيرات التطبيل ومضارب التزمير. وهل يصدّق أحد، ذو ضمير بعد البصر والباصرة، أنّ السوريين سوف يقترعون استناداً إلى إرادة حرّة على أيّ نحو؟ أو أنّ الإرادة الوحيدة في هذا المضمار ليست لسلطة عليا استبدادية عائلية أمنية ـ عسكرية فاسدة ناهبة، هي ذاتها الإرادة العتيقة التي أجبرت السوريين على ممارسة الطقس الروتيني ذاته كلّ سبع سنوات منذ العام 1971 حين انتُخب الأسد الأب رئيساً للجمهورية؟
وقبيل استفتاء تموز 2000، ذكّرت شخصياً بأنّ نسبة التصويت في الاستفتاءات على رئاسة الأسد الأب لم تهبط مرّة واحدة عن الرقم الشهير 99%، واعتبرت بالتالي أنه إذا تكرّر هذا الرقم أو معادله (أيّ كلّ ما هو أعلى من الـ 90%) فإنّ الأمر سوف يكون النذير الأبكر على أنّ بشار الأسد لن يختلف عن أبيه في تزوير الإرادة الشعبية. أمّا إذا شاء الفتى أن يقنع الشارع السوري، والعالم بأسره، بصدق نواياه في «تغيير» أحوال البلاد، فإنّ الوسيلة الوحيدة والمثلى هي تنظيم تصويت ديمقراطي حقّ، تتوفّر فيه الغرفة المغلقة والمراقبون الدوليون المحايدون (كما يحدث في زيمبابوي والبيرو ونيجيريا وكازاخستان…): إذا حصل المرشح الأوحد على أقلّ من 50% من مجموع المقترعين، فإنّ الواجب يفرض عليه أن يتنحى باعتباره المرشح الوحيد.
وبالطبع، كان هذا الترجيح بعيد المنال وغير ممكن عملياً في ضوء الاخلاقيات والأعراف والتقاليد التي حكمت وتحكم بنية هذا النظام، لكنّ فضيلته الوحيدة كانت أنه يساجل افتراضياً ضدّ الذين علّقوا الآمال على احتمال ان تتكشف الأشهر القليلة بعد انتخاب الأسد الابن عن نزوعات إصلاحية ملموسة، أو حتى عالية. وبالطبع، كان الفيصل الأوّل هو نسبة الـ 97,29%، ثم تعاقبت النذر والمؤشرات الكارثية: من وأد ما سُمّي بـ “ربيع دمشق”، وصولاً إلى الأحكام القراقوشية الأخيرة، مروراً باشتداد آلة القمع وتنويع أنساق الترهيب الداخلي، لكي لا نتوقف عند المغامرات الكبرى التي أسفرت عن اغتيال رفيق الحريري والانسحاب العسكري من لبنان وتخبّط السياسة الخارجية والخطاب الازدواجي في العلاقة مع الولايات المتحدة والمباحثات السرّية مع الدولة العبرية…
الحقيقة الثانية الكبرى تقول إنّ بشار الأسد ليس مرشح الشعب السوري ولا يمكن له أن يكون ذلك المرشح، إلا إذا واصل المنافقون والإنتهازيون والأزلام (فضلاً عن المتحذلقين في سورية، وخارج سورية أيضاً) التأكيد بأنّ أرحام السوريات عجزت عن أن تلد أفضل من هذا المرشح غير المجرّب، غير المؤهّل، وغير المستحقّ. وباستثناء كفاءة وحيدة (مقدّسة) تقول إنّ هذا الشبل من ذاك الأسد، كان سجلّ مرشّح تموز 2000 كان خاوي الوفاض فقيراً محدوداً. ففي مطلع العام 1994، حين توفي شقيقه باسل الأسد في حادث سيارة، كان بشار في الثامنة والعشرين، وكان مدنياً. وفي أقلّ من سنة واحدة تحوّل إلى عسكري، وتخرّج من الكلية الحربية برتبة نقيب (على نقيض من كلّ القوانين العسكرية المعمول بها في الكلية، التي تحتم أن يتخرّج الطالب الضابط برتبة ملازم). وخلال شهرين فقط رُفّع إلى رتبة رائد، رغم أنّ القوانين تنصّ على خدمة لا تقلّ عن أربع سنوات قبل الترفيع إلى رتبة عليا جديدة. ولم يمض عام آخر حتى رُفع الرائد إلى عقيد، وفي أقلّ من ستّ ساعات ـ في حزيران (يونيو) 2000، ساعة وفاة أبيه حافظ الأسد ـ رُفّع العقيد إلى رتبة فريق أوّل، وقائد عامّ للجيش والقوات المسلحة، قبل أن يُسمّى أميناً عاماً قطرياً لحزب البعث الحاكم، وأميناً عاماً قومياً (حتى دون أن ينعقد المؤتمر القومي للبعث!)، ومرشحاً لرئاسة الجمهورية.
هل تغيّر مرشّح حزيران 2007 عن مرشّح تموز 2000؟ بالتأكيد، وسبحان الذي يغيّر ولا يتغيّر: لقد تغيّر، نحو الأسوأ في السجلّ السياسي، والأشرس في تشديد القمع، والأوضح في تشجيع الفساد والنظام العائلي، والأكثر استعداداً للمغامرة الطائشة! ولهذا فإنّ الأسد، في تبيان الحقيقة الثالثة، ليس مرشّح «أهون الشرور» كما حاجج في الماضي بعض العباقرة السفسطائيين، خصوصاً أولئك الذين تغنّوا بحكاية «استقرار» سورية في عهد الأسد الأب، واحتمال تنعّمها باستقرار مماثل في طور الأسد الابن. وعشية استفتاء تموز 200 كان المرشّح يفتقر إلى الخبرة الإنسانية (تلك التي كانت وما تزال السبب في أنّ معظم الدساتير تشترط في المرشح لرئاسة الجمهورية أن يبلغ سنّ الأربعين)، وهي خبرة لا تنبثق من اللقاءات الإحتفالية مع الساسة الكبار أو الصغار، أو إدارة جلسات تحضير أرواح مع المثقفين الكبار أو الصغار، أو تزعّم حملة استعراضية في تطوير «المعلوماتية» هنا وأخرى تجميلية في «محاربة الفساد» هناك. إنها خبرة صناعة السياسة اليومية في خضمّ الحياة اليومية، وهي حصافة المخوّل باتخاذ القرار من موقع الحرص على مصلحة بلاده مثل حصافة المستولي على القرار من موقع الحرص على نظامه.
هل صار ذاك المرشّح أكثر حصافة اليوم، عشية استفتاء حزيران 2007؟ ربما، إذا كان في تصنيف الحصافة أنّ يطلق شتيمة “أنصاف الرجال” بحقّ زعماء عرب، ثمّ لا يكفّ عن إراقة ماء الوجه من اجل استرضائهم وكسب عفوهم عنه؛ أو كان في عداد الحصافة أن يشعل النار في لبنان عن بكرة أبيه، لأنّ قلّة الحصافة قادت إلى إرغامه على الخروج العسكري من لبنان؛ أو، بالطبع وأساساً، أن نحكم على أستاذ بارز في الاقتصاد السياسي (عارف دليلة) بالسجن عشر سنوات بتهمة السعي إلى تغيير الدستور بالقوّة!
ومن جديد يصحّ القول إنّ هذا الفتى ورث منصباً ولم يكتسب رئاسة، ولهذا فإنّ الخشية أن يكون قادم أيّامه أشدّ عاقبة ممّا مضى منها!
s.hadidi@libertysurf.fr
* كاتب سوري- فرنسا
الأسد في الولاية الثانية: ثابت الاستبداد ومتحوّل الـ 99
رائع جدا وعميق وملئ بالمعلومات وجرئ جدا جدا والف تحية للكاتب وللموقع