بمعزل عن الارهاب الذي يضرب لبنان وعن مدى مساهمة تدخل “حزب الله” في سوريا به، وفي عودة الى القضية الفلسطينية والتاريخ الموجع الذي شكّل، ولا يزال، جرحاً غائراً في خيال الشعوب العربية وضميرها؛ لنحاول ان نضع انفسنا مكان الفلسطينيين الذين تعرضوا للمآسي والترهيب والقتل الجماعي وللتهجير، ومكان أهلنا الذين استقبلوهم في ذلك الزمن. سمعنا الكثير من القصص كيف تركوا بيوتهم للحظة، والكثير من متاعهم، ولم يحملوا سوى مفاتيحهم والقصص التي ظلوا يتداولونها بحسرة.
السؤال الذي علينا طرحه الآن، نحن الذين نعيش بداية مأساة كبرى اسمها كارثة سوريا على وزن نكبة فلسطين، هو الآتي: هل فكّر الفلسطينيون ومن استقبلوهم في المنافي، ان وضعهم الذي كان آنياً يومذاك، سيتحول الى دائم؟
هل فكّروا للحظة ان التقسيم والاعتراف بدولتين لشعبين، وهما تقسيم واعتراف كانا مرفوضين في ذلك الحين، سيتحولان الى أقصى ما يتمنونه الآن؟ هل فكروا ان وضع دولة اسرائيل سيصبح اكثر استقراراً مع الزمن؟
هناك من لم يع بعد خطورة ما يحصل في سوريا وكارثيته، إن لجهة تدمير بيوتها وآثارها وتاريخها، أو لجهة تدمير نسيجها الاجتماعي ولحمتها الداخلية من جهة أخرى.
لكن الأخطر من هذا وذاك، أن الاعتداءات التي نفّذها الصهاينة في ذلك الزمان كان لها دور في جعل العرب يتوحدون على الأقل ضد الاحتلال والاعتداء. وحّدتهم المصيبة حينها تجاه عدو واحد فقط.
لكن أنظروا حالنا الآن: نحن ننقسم على تسمية من هو العدو. هل هو رئيس سوريا ونظامه أم الشعب الثائر؟
ننقسم تجاه مَن يتحمّل من الاطراف الخارجيين مسؤولية ما يحصل: هل هي مسؤولية دول الخليج في تسليح الشعب السوري (أو التكفيريين على ما درج القول)؟ أم هي مسؤولية ايران وروسيا سواء في دعم النظام ورئيسه المستبد، أو في مده بالسلاح؟
ننقسم في لبنان على تسمية التدخل وعلى وصف ما يحصل وعلى ايجاد التبرير المقنع والمبرر لذهاب شبابنا الى سوريا.
الأسوأ من ذلك، ان القتل والدمار يتمّان بين مكوّنات الشعب نفسه من جهة، وبين “أشقاء” لهذا الشعب، أقصد “حزب الله” والفيلق العراقي، أو جميع من يطلقون على انفسهم لقب إسلاميين وشيعة من جهة اخرى.
كثيرون حذّروا من فداحة ما يحصل ومن خطورة الكارثة التي تتجمع خيوطها كلما أمعنت الحرب في تشغيل آلتها الجهنمية، وقمت بواجبي من ضمنهم. لكن ماذا يكون الرد على ما نكتب؟ اننا نبالغ ونهوّل ونزايد. نكاد نُتهم بالبارانويا. كأن الحرب نزهة، بيك نيك، نعود منها أكثر انشراحاً.
لم يحصل في تاريخنا كله ان دخل “الأشقاء”، الشيعة والسنة، في هذا التقاتل الدامي الموصوف والمستمر في الزمن. ان ظروف مقتل الحسين في كربلاء واغتيال الامام علي قبل ذلك، تمت في ظروف سياسية وبأشكال من الالتفاف الشكلي والمناورة السياسية التي حاولت التغطية على القتل العاري الذي طاول الامام الحسين واهله، وحصل الانقسام السني الشيعي بين المسلمين على اثرها. منذ ذلك الحين تمت معاقبة المنتصر وممّن سكت على ظلمه وجبروته، فصار اسمه لعنة في التاريخ حتى على يد من يعدّون في طرفه.
لكن ما يحصل الآن من تدخل في سوريا بين الأشقاء والاخوة، يقوم أمام أعيننا بفبركة حساسيات وثارات وافتتاح صراعات دموية لا أعرف مدى اللوحة الأبوكاليبسية التي ستولدها كلما استمرت هذه الحرب يوماً واحداً اضافياً، وكلما استمر لبناني حزب الهي او غيره في المساهمة بقتل سوري، سواء أكان داعشياً ام معارضاً ديموقراطياً أم بريئاً مظلوماً.
نحن نعيش أحداثاً تبدو آنية لقصيري النظر وعادية وأنها ستمر من دون ذيول جهنمية. لكننا نكون نخطئ في قراءة دروس التاريخ والتعلم منها. اننا نعيش أوقاتاً تؤسس لأساطير مؤسسة جديدة تختزن الحقد والمرارات وتجرح الكرامات، واذا استمرت فستجرف الاخضر واليابس، والى عقود مقبلة. إن ما نعيشه في الحاضر الآن هو التاريخ في المستقبل.
إن ما نساعد على استمراره في سوريا، وأقصد هنا الشيعة اللبنانيين، ستترتب عليه آثار جمة، على الأقل لن تكون في مصلحة هذه الطائفة التعيسة، سواء بإرادة منها أو بسبب حظها السيئ. ما يحصل لا يصبّ الا في مصلحة النظام الايراني الذي صار يعتاش على دمائنا ليحافظ على نفسه وليفخر باستعادته الحركة السياحية الى بلاده، فيما بلادنا تخرب وتفرغ من كل حياة. تقول لي صديقتي ان تدخل ايران في سوريا ومساعدتها الأسد بنوع من انواع الاحتلال والعنف بواسطة “حزب الله” من جهة وفرقة أبي فضل العباس من جهة أخرى، أي الاشقاء، مختلف عما قامت وتقوم به اسرائيل لأن الأخيرة احتلت الارض وطردت الشعب ولا أمل له في العودة!
ان تكون نتائج ما يحصل أخفّ أو أكثر كارثية، فذلك رهن بالمستقبل. لكن وقوفنا مكتوفي الايدي نتفرج على إكمال المهمة وانتظار السنوات المقبلة لمعاينة نتائجها، يجعلنا نكون كمن يسقي السمّ لمريضه في انتظار مفعوله. هل يميته أم لا؟! أعتقد أن الخطر يكمن هنا في هذا الانتظار المميت الذي ستترتب عليه نتائج لا يعود ممكناً السيطرة عليها وتعديلها، بل سيكون قد تأخر الوقت على ذلك، وستكون المنطقة قد تفتتت وتحللت أنسجتها وجعلت من الاخوة أعداء. ولمصلحة من؟
هل سيكون ممكناً إيجاد سبل لإصلاح الامور؟ هل سينسى المواطن السوري العادي أو المسلح من هاجمه في عقر داره؟ من قتل ولده؟ من هدم بيته؟ من تسبب بطرده من بلده؟ ننسى أن لدينا الآن نحو مليون ونصف مليون مهجر سوري وهم الى ازدياد. انهم تحت الصدمة الآن. هل سألنا ماذا سيفعلون لاحقاً؟ كيف سيتصرفون؟ كيف سينظرون إلى كل ما يجري وما يعيشونه؟ أين ستصرف مشاعر الغضب والظلم والذل المتراكمة يوميا؟ ضد من ستتوجه؟ متى واين؟
ايران بعيدة ولن تصلها شظايا هذا العنف المتراكم. لكننا هنا باقون، متجاورين ووجهاً لوجه: سني- شيعي، لبناني – سوري، ما العمل لينسى المجروح؟ او ليسامح؟ للاستدلال على خطورة ما يجري ليس علينا سوى الاستماع الى أغنية “نصرك في يبرود” التي اذاعها “حزب الله”، والرد عليها من ثوار سوريا بأغنية “قبرك في يبرود” كي يعاين حجم “الثارات” الآتية.
على كل حال، سأكون في منتهى السعادة فيما لو تبيّن انني كنت مخطئة على طول الخط.
هل فكرنا في ذلك؟
monafayad@hotmail.com