بعد نصف قرن على استقلاله، ما تزال الأزمات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، تعصف بالسودان. والواضح، أن الخيارات بشأن مستقبله، تبدو شديدة الغموض، ومتصلة إلى حد كبير بعوامل ومعطيات عدة.
وواقع الأمر، أن الأزمة التي بدأت في التشكّل منذ استقلال البلاد في أولّ يناير 1956، تعمّقت بشكل خطير في العقود التي تلت الاستعمار. وغني عن القول، إن الاستعمار ذاته، أسهم بشكل أو بآخر، في إذكاء بعض المشكلات. غير أن النخب السودانية نفسها، فشلت في استنباط حلول ملائمة لأزمات عميقة، بل لجأت، في أغلب الأحيان، لـ”حلول سهلة”، وآنية، لا تلبث أن تتفجر بعدها الأزمات على نحو مروّع.
وبالإضافة لهذا، فإن المعطى الخارجي، المتعلق بالمصالح الاستراتيجية الكبرى لأطراف عدة، يشكل أيضا “حجر زاوية” في اتجاه الحل، أو “تفتيت” السودان، إما بتنازع كبير بين قوى عالمية في مقدمتها الولايات المتحدة، وفرنسا، والصين، في ما يمثّل حالة من حالات “الحرب الباردة الجديدة”، على الموارد الاقتصادية للسودان، والاستثمارات التي يمكن أن توفر لهذه القوى مصادر للطاقة، أو بنوع من التوافق على إمكان تقاسم المصالح على رقعة شاسعة، يرجح أن تكون معظم قطاعاتها الجغرافية صالحة لكشوف نفطية كبيرة.
كانت أولى تمظهرات الأزمة السودانية، انفجار الوضع فى جنوب السودان قبيل الاستقلال الكامل بعام، نتيجة نقض المواثيق، والمناورات التى أجرتها القوى السياسية فى شمال السودان بقصد استدراج الجنوبيين لاقرار الوحدة الطوعية ومن ثم الالتفاف على الحقوق الجنوبية فى المطالب التى طالبت بها القوى السياسية فى جنوب السودان.
ظلّت أزمة جنوب السودان، منذ 1955 وإلى غاية الآن، توضح بجلاء، مدى فشل النخب السودانية في احتواء الأزمات الوطنية، وطرح “مشروع وطني شامل”. وكانت مسألة جنوب السودان، أزمة شاملة بالمقاييس كلها، ومؤشرة على قلة الحيلة السياسية والثقافية، أو التحايل، أحيانا، في ترسيم دولة ديمقراطية، تعددية، تولي تنوّعها الديني والإثني والسياسي، عناية بالغة، باعتبار أن أي تعسف يحيق بأية مجموعة سودانية، سيلحق ضررا بالغا بالمشروع الوطني كله.
عوض ذلك، وعلى مدى خمسين عاما، تنافست الأنظمة السياسية، والمنظومات الثقافية، في “تهميش” مكوّنات رئيسة في البلاد، ما خلّف نزعات متباينة، تجلّت في حروب أهلية مستمرة، واحتجاجات متفاوتة، وشعور عميق بالتهميش.
وفي كيفية الإجابة على سؤال التنوّع السوداني، وقدرة السودانيين على إجراء نقاشات موّسعة حوله، وفاعليتهم في إيجاد حلّ مرض للمكوّنات كلها، تكمن جدلية المستقبل، بل وآفاقه.
“جراح” الهوية
ومن نافلة القول إن اشكالات كبيرة تتوّلد عن أزمة الهوية الوطنية، التي اعتسفتها النخبة السياسية التي حققت للبلاد استقلالها، في البعد “العروبي الإسلاموي” للسودان، ملغية فعليا بذلك، المكونات السودانوية الأخرى.
كما تجدر الإشارة أيضا، إلى أن تلك النخبة، على الرغم من كفاحها الوطني المجيد ضد المستعمرين، إلا أنها أخفقت في قراءة الواقع السوداني، قراءة صحيحة، بهدف رسم طريق واضح لبناء دولة تتأسس على حقوق الانسان، والعدل، والديمقراطية، والتنوّع.دولة، ربما أهم شروط بقائها، تقصير الظلال الادارية، من خلال “الفدرالية” أو “الكونفدرالية”، وتعبيرها عن المجاميع الدينية والإثنية، بطريقة ديمقراطية، وعادلة، حسما لجدل “الهوية”، وبحيث تكون الهوية الوطنية، جامعة لكل المكونات، لا متحيزة – عسفا – لجماعة تسيطر فعليا على السياسة والاقتصاد.
إذن، يمكن القول إن البداية كانت واهنة فى مضمار الحقوق الدستورية والمدنية والفهم الشامل لقضايا السودان والتخطيط الاستراتيجي لمستقبله، فأورثت البلاد خللا كبيرا في توزيع السلطة والثروة، وضعفا حادا في التعبير عن أية ثقافة أخرى، بخلاف الثقافتين العربية والإسلامية.
وتستدعي الأزمة الوطنية الشاملة، ما يمكن وصفه بـ”إعادة تركيب” كثير من المفاهيم خصوصا المتعلقة بإنتاج الوعي السوداني، بوصف السودان – الجغرافيا والتاريخ والإنسان – حالة قائمة بذاتها، تختلف عمّا سواها، نتاج العوامل الجيوسياسية، والثقافية، والتاريخية، التي أفرزت وعيا ما، وشكلّت ما يمكن تعريفه بـ”العقل السوداني”، مع إقراري بأن ثمة جدلا يمكن أن يثيره المصطلح، إذ لا يمكن قطعا الإتكاء على “عقل سوداني” مطلق، كما هو الحال كذلك مع إشكالية مصطلح كـ”العقل العربي”.
وعلة من علل السودان الرئيسة، هي السعي الدؤوب لفرض “الواحدية” الثقافية، من دون التعمق في فهم تراكم التجارب على نحو مختلف للإثنيات والمكونات والثقافات المختلفة، ما أفرز انتهاكات واسعة لحقوق الانسان في السودان.
فـ”البنى الأساسية لانتهاكات حقوق الانسان في السودان، الذهنية المفاهيمية الاجتماعية، والثقافية، والنفسية، والسياسية” [1]، القائمة منذ عقود، وربما قرون، تتوفر عليها شواهد، تشكّل ورطة بالغة للمشروع الوطني كلّه، الذي لا يمكن أن يتأسس بشكل شامل، إلا على أنقاض، الاستعلاء الثقافي الممارس من قبل بعض السودانيين بحق بعض آخرين.
والشواهد لا تحصى عن الاستعلاء اللغوي والعرقي والثقافي من “الحياة اليومية العادية على قيامه في البنية الذهنية في كلا مستويي الوعي واللاوعي. يكفي في هذا الخصوص تعبير “غلفة اللسان”. وهو مع أنه مفهوم عام يسري على كل من لا يتحدث العربية (النظيفة)، إلا أنه يقترن أكثر ما يقترن بمفهوم العبودية السوداني” [2].وفي هذا الجانب أيضا، تقوم – ما يمكن أن أصفها بالذائقة الجمالية المستلبة إلى حد ما – باجترار “المفاهيم العربية” حول لون البشرة، والزراية باللون الأسود، وتوجيه المثالب كلها إليه.
وعلى هذا الأساس، يمكن الإشارة إلى أن مدخلا رئيسا لحل الأزمة، يكمن في الاعتراف بالتعددية، لكن السؤال المثار، هو، هل يمكن لهذه التعددية أن تتسق في اطارها التاريخي العام، لتشكل ملامح تجربة مقاربة لـ”سودان موحد” يحتمل التعدد حتى في تجربته التاريخية، التي أفرزت بالضرورة وعيا يتقاطع ويتفق ويختلف؟
وهل ثمة حاجة لتفكيك هذه التجربة على المستوى النظري، بالنظر إليها على أساس واحديتها التي حتمتها ظروف القهر الثقافي، لتنتج عقلا جمعيا – ظاهريا – موحدا ؟ يذهب عالم الآثار السويسري شارلي بونيه، الذي قضى في السودان، قرابة أربعين عاما، للقول، إن الحضارة النوبية – في شمال السودان -، تعود لحوالي ثلاثمائة ألف سنة، وإن الملوك النوبيين، حكموا مصر إلى فلسطين، قرابة ألفين وخمسمائة سنة [3].
وإذا كان أسلاف السودانيين بلغوا بملكهم مصر وفلسطين، فليس من الصعب، من خلال البحث ودراسة المجتمعات، وثقافاتها، معرفة ما إذا بلغت ظلال الحضارة النوبية، أطراف السودان (الحالي)، الجنوبية والشرقية والغربية. ويرى باحثون سودانيون أن الحضارة النوبية أثّرت بعمق في سائر أنحاء السودان (الحالي) [4]، ما يمكن الافتراض معه، بأن هناك ثمة صلات وروابط حضارية وثقافية أزلية بين المكوّنات السودانية.
لكن فرضية كهذه، تحتاج جهودا دؤوبة، من أجل، إما كشف ضعفها وتهافتها، أو الإقرار بصحتها. على أن الشواهد الثقافية على امتداد هذه الحضارة (السودانية القديمة – المؤسسة)، حاضرة في أنحاء السودان.
هذه الفرضية، إن تتبعها الباحثون، وتعمّقت في “الوجدان الوطني”، فضلا عن “العقل الجمعي”، ستؤسس لفهم تاريخاني وثقافي، يصب باتجاه تنوّع الثقافات السودانية، في اطار الواحدية الحضارية، والجذور المشتركة.
الخطير، أن أزمة الهوية، إلى جانب مشكلات أخرى، لم تشعل الحرب الأهلية في جنوب السودان فحسب، فقد امتد الحريق الذي تأسس على معطيات ثقافية واقتصادية وسياسية، ليطال شرق البلاد، وغربها. ولعل أزمة دارفور الحالية، تعبّر عن تراكم التجارب السيئة في هذا المضمار، مضمار الفشل في تحقيق تنمية متوازنة، ومشاركة عادلة في السلطة والثروة، واعتراف شفاف بالثقافات الأخرى، غير العربية، في اطار هوية، لا تهمّش الآخر.
وتستدعي الأطروحة المعمقة الموسومة بـ “شجرة نسب الغول في مشكل (الهوية الثقافية) وحقوق الإنسان في السودان، أطروحة في كون الغول الإسلاموي لم يهبط علينا من السماء” للدكتور عبدالله بولا، مناقشات مستفيضة، و”استطرادات” من قبل الباحثين، لما بدأه د. بولا، وصولا إلى “فهم” مشترك حيال الأطروحة. وهي واحدة من أعمق وأشمل الطروحات الثقافية التي تعرضت للمشكل الثقافي في السودان.
ولعل نقطة جديرة بالنقاش، كمفتتح لهذه الأطروحة، غير البعيدة عن نقاشات الديمقراطية والتعددية وحقوق الانسان، هي كيفية جعل مثل هذه المناقشات متاحة لقطاعات واسعة من الشعب السوداني حتى لو تمت الاستعاضة عن لغة البحث العلمية بلغة تحوي قدرا من التبسيط والشرح للمصطلحات العلمية، والأفكار ذاتها.
وهذا بحد ذاته، يحتاج جهدا في مضمار الاقناع الواسع بضرورة الانتقال إلى عقل ناقد ومنفتح على المدارس النقدية، وأولويات المراجعة العميقة. بعبارة أدق، وبصيغة سؤال: كيف السبيل إلى بناء “ثقافات شعبية ناقدة” في السودان، وقادرة على طرح فرضيات مختلفة حيال المسائل الثقافية، عوضا عن اليقينات والمسلمات. وفي هذا الخصوص، يبدو أن المدخل إلى مناقشة ورقة د. بولا، ستكون الشواهد التي لا تحصى عن الاستعلاء اللغوي – بحسب د. بولا – والعرقي والثقافي (والاضافة من عندي) من “الحياة اليومية العادية على قيامه في البنية الذهنية في كلا مستويي الوعي واللاوعي. يكفي في هذا الخصوص تعبير “غلفة اللسان”. وهو مع أنه مفهوم عام يسري على كل من لا يتحدث العربية “النظيفة”، إلا أنه يقترن أكثر ما يقترن بمفهوم العبودية السوداني” عبدا لسانه أغلف” و”عبدا أبلم” و”الطين في طينه والعبد في رطينه” [5]
والحقيقة أن مثل هذه المفاهيم تسري على أوجه كثيرة في حياتنا، وتقع ضمن “المسلمات” من دون أية مراجعات أو على الأقل “ملاحظات ناقدة”، وتؤثر حتى في الآمال المعلقة على السلام والوحدة في السودان. ويتوجب في هذا السياق أن نوجه عنايتنا وبشكل كبير إلى “الأمثال الشعبية” و”المفاهيم” التي لا تخلو من تأكيد هذه المعاني الاستعلائية، وتفصح عنها بشكل لا يستدعي اللبس، مثل “عبدا بي سيدو ولا حرا مجهجه”. والحر هنا بطبيعة الحال، لا يمكن أن يكون “ود عرب”، وإنما سيأتي ذكره لاحقا فيما يتعلق بأخلاف أسلاف كانوا “أرقاء” وأعتقوا. ويعني – في تقديري – رغبة مضمرة في استمرار الاستعباد بأشكال مختلفة، لأن الحرية “مجهجهة” !!
ويمكن كذلك قراءة النكات – والتي لاقت رواجا كبيرا في فترة التسعينات وبداية الألفية الثالثة، من خلال مجموعات “فكاهية” – ومدى “تقبلها” في هذا السياق، وهي تستبطن أيضا في بعض جوانبها استعلاء. ففيها إشارات واضحة إلى المكانة الثانوية للجنوبيين مثلا في المجتمع. كما فيها إشارات للمستوى الذهني المتدني للجنوبيين. هل هناك حاجة للقول إن “الجنجويد” ظاهرة مترسخة في المجتمع السوداني؟
وفي هذا الجانب أيضا، تقوم – ما يمكن أن أصفها بالذائقة الجمالية المستلبة إلى حد ما ولا أدعى بأنني أقتحم ميدان فلسفة الجمال – باجترار “المفاهيم العربية” حول لون البشرة، والزراية باللون الأسود، وتوجيه المثالب كلها إليه. بل أن المفاهيم هنا تستبطن بل وتصرح علانية أبيات المتنبي التي يبشع فيها بكافور الأخشيدي مثل :
لا تشتري العبد إلا والعصا معه.. إن العبيد لأنجاس مناكيد
في تأكيد انحطاط “العبيد” والمصطلح مرتبط بطبيعة الحال بـ”الزنوج”!!
إن نسقا “مضمرا” بل ومصرحا به على هذه الشاكلة في الثقافة، كفيل بالقضاء على أية بادرة لـ”المواطنة” و”التعددية”، ناهيك طبعا عن الاقتباسات التي ساقها د. بولا، مع تحليل لسياقاتها الثقافية. ولا يغيب عن حيز البحث أيضا، الاسقاطات السياسية الواضحة في هذا الخصوص، حين يكون هذا المدخل وحده، دالا إلى اقصاء الآخر (د. قرنق مثلا) في العبارات الدارجة والاستنكارية في اطار المحاججة وفي صيغة سؤال “كيف يحكمنا هذا العبد”.
ولي أن أنبه هنا إلى ما أسميه “هامش الهامش” إذا جاز المصطلح. والمرء لا يعوزه عناء كبير للاتفاق مع د. بولا، بأن “الزنجي” في السودان هو “عبد” بالضرورة، في “النسق الثقافي” للعربسلاميين (والمصطلح للدكتور بولا)، لكن ثمة “مغيبين” عن المشهد، هم أولئك الذين جيء بأسلافهم منذ عشرات السنين كـ”أرقاء”، وأعتقتهم القوانين، وربما أيضا انحسار مفهوم “الرق” في “صيغته القانونية”، لكن لم يعاد إلي أخلافهم الاعتبار إلى غاية الآن. ويمارس بحق هؤلاء استعلاء عرقي وثقافي فائق، على الرغم من إسلامهم أو “أسلمتهم”، لكن الإسلام ذاته لم يشفع لهم لدى “سادتهم”. ومفهوم السيادة ما يزال ماثلا إلى غاية الآن على الرغم من انتفاء صيغته القانونية، لكن حصول هؤلاء الأخلاف على أبسط الحقوق ما يزال بعيد المنال، لأن غالبيتهم لم ينالوا تعليما يذكر، ولا يسعون – بالتالي – للمطالبة بها، كما أنهم لا يملكون أراض زراعية (في الإقليم الشمالي مثلا) أو مصادر أخرى للرزق.
وثمة أحياء تتألف من بيوت رثة في هوامش عدد كبير من المدن السودانية تضم هؤلاء، ويقومون في الغالب بالعمل في البيوت، ولدى الآخرين في أعمال البناء والفلاحة، والرعي، وصنع الشاي والقهوة، وربما صناعة الخمور في شروط انسانية بالغة التعقيد. هؤلاء ينسحب عليهم مصطلحا “عبد” و”خادم” في ظل قبول من جانبهم تحتمه المصالح الاقتصادية، وربما الغلبة الاجتماعية والثقافية في تلك المجتمعات، وهي ظروف ليست في صالحهم.
هذه المسألة برمتها، ومناقشاتها – خصوصا في ما يتعلق بضرورات النقد والمراجعة – تبقى قدرتها على احداث تغيير حقيقي، رهنا بمراجعة شاملة و”نقدية” للمناهج الدراسية في السودان. لا يتعلق الأمر بالتعريب “القسري” فحسب، وإنما في فرض ثقافة بعينها، بكل “اسقاطاتها” و”أنساقها المضمرة” وهنا بيت رئيس للقصيد. لا يتعلق الأمر فحسب، بالسماح بتدريس اللغات الأخرى في السودان، وإنما أن تحوي المناهج الدراسية قدرا غير قليل من “البناء المعرفي النقدي”، والاستعاضة عن مبدأ التلقين والتحفيظ، و”اليقينيات” وكون المدرسة والمعلم، مصادر نهائية للمعرفة . وتأهيل “المعلم” ذاته يبقى قضية مفتوحة للنقاش، إذا لا تستقيم مثل هذه الدعوة، في ظل “تعليم جامد” ناله المعلمون أنفسهم.
التشوهات التي لحقت بأجيال تالية توّلدت عن انتقال خبرات غير مدعومة برؤي نقدية من اجيال سالفة، فتعاطي الاجيال مع بعضها عملية تلقينية بالكامل تتمحور حول محاور شيخ الطريقة – المدرسة – الأب – زعيم الحزب او يمكن القول بأنها دينية، تعليمية، اجتماعية تفرّخ أجيالاً غير قادرة علي وضع لمسات حداثية عبر اتجاهات وطرائق جديدة للتفكير في ما عدا التقنية، أي ان الذهنية نفسها استبطنت النسق المتكامل المضمر في أنسجة المجتمع المستلهم للتراث الديني والثقافي والاجتماعي .
كيف نبني “العقلية الناقدة” المتطورة باستمرار ؟ هذا هو السؤال الذي علينا أن نثابر على طرحه، ونحاول الاجابة عليه. فالنسق الثقافي، مؤثر جدا، وقادر على التأثير مستقبلا، إن لم تشكل “الأسئلة القلقة” بل والقناعة بجدواها، اشكالية له (النسق الثقافي). وهو، في طبيعته الساكنة و”غير القلقة” يستمد صلابته “المعرفية” من تراكم ما يمكن وصفه بـ”الوصايا”، وأدعوها كذلك، لأن النسق الثقافي يضمر أيضا تبجيلا منقطع النظير لآراء الكبار (الآباء، آئمة المساجد، المعلمين، شيوخ العشائر، وحتى زعماء الأحزاب) ويكاد يصل بقناعاتهم لمقام التقديس.
وتبقى قدرتها على احداث تغيير أيضا، بمدى قدرة الإعلام والمؤسسات الثقافية على ادارة حوار جاد وعلمي حول “الثقافات السودانية” وأنساقها المختلفة، و”تنمية” العقل الناقد.
بالطبع، لا يمكن مناقشة المسألة – هذه المسألة شديدة الارتباط بالنسق الثقافي – بمعزل عن أن ” العقل السوداني نفسه لم يظهر الي الآن عناية بحضاراته القديمة وحصر جهوده في اجترار التاريخ الأنجلوسكسوني بالسودان ومناوراته مع المهدية، وهذا يستدعي تضافرا لجهود تدعمها منظمات عالمية مختصة من اجل الكشف عن حلقة من أهم الحلقات الانسانية، كانت لها اتصالاتها بحضارات بعيدة، يقرر باذل ديفدسن في كتابه “افريقيا تحت اضواء جديدة” * بأن آنية من الآنيات المعروضة في المتحف السوداني باعتبارها راجعة للحقبة المروية تحمل زخارف صينية! ديفدسن ينبه العالم الي ان لمروي علي الانسانية ان ترعاها وان تكشف ما في بطونها من ذخائر، انها من أعظم ما خلّف العالم القديم، والتاريخ الذي تحتويه، شطر من تاريخ الانسان جليل القدر علينا ان نجلوه، فالواقع الذي لا يزين الآن، هو اننا لا نعرف عن الحياة التي عاشها الانسان في مروي وسائر مدن كوش، اكثر مما عرفه هيردوتس قبل 14 قرنا وما مروي الآن الا مدينة بائسة يغير عليها النهر اثناء فيضانه وتتجاذبها رمال الصحراء الجامحة في سطوتها التي تذرو الغبار علي كنوزها الغائبة في بطن الارض، وتحتوي علي اهرامات ملوكية لا تقل ابداعا هندسيا عن رصيفاتها في الجيزة الا بصغر حجمها. (وأنبه هنا إلى أن “العقل السوداني” ذاته مصطلح يحتاج لوقفة، إذ لا يجوز في تقديري اطلاقه بهذا التعميم ومن دون النظر في مكونات مختلفة له، وعلى أي حال هو غير منضبط مصطلحيا).
والغريب أن المناهج الدراسية (التي درسناها على الأقل في مراحل التعليم قبل الجامعي) لا تعطي هذا الأمر إلا أهمية قليلة، شأنه شأن “تاريخ أوروبا” و”تاريخ أفريقيا”. والحلقات الغائبة في تاريخ السودان وتنشئة الأجيال بناء علي نسق منفصل عن الجذور العميقة، جعل من (الشخصية الماثلة)، مستعارة ومستلبة إلى حد ما، كونها مستنبتة في معمل القرنين الماضيين فحسب بينما يقبع التاريخ الورائي في ثنايا الذاكرة السودانية كـ”شظايا” غير حيوية ولا منتمية. عدم الانتماء هذا ولّد شعورا بـ”هامشية الشخصية” وسط شخوص عريقة علي المستوى الإقليمي.
كما لا يمكن فصل المسألة، عن النظرة السائدة بالانشداد نحو المصادر الأولى (عربيا وإسلاميا) وهي الجزيرة العربية، حيث الحقائق تكاد – أقول تكاد – أن تكون مطلقة، والمعارف نهائية. فالعروبة خصيصة عرقية وثقافية “أفضل من غيرها”، وأنماط التدين “المنتجة” هناك، ربما تكون أكثر صلاحا، والتصاقا بالمصادر الأولى، لذلك فإن تأييد بعض علماء السعودية لحكم الاعدام على الأستاذ محمود محمد طه – مثلا – يكتسب أهمية بالغة لدى (الرأي العام).
وهنا تصبح الثقافة (هنا) جزء من (كل) هناك، مستهلكة لانتاج ذلك الـ(كل)، أو في أفضل الأحوال تعيد انتاجه بصيغ أخرى، لكنها تحافظ على جوهره “ويفهم النسق المضمر والمعلن هنا”. أي أن (هنا) ربما ليس إلا “جغرافيا” مكملة لـ(هناك)، وعليه، فإن منجزات الـ(هنا) الثقافية تبلغ كمالها بالتطابق ربما مع الـ(هناك) حتى في شكله. ففي حال غنى السودان وثرائه حال تدفق البترول سـ”نرتدي الأشمغة والعقالات” كما يستبطن ذلك في بعض النكات، و”القصائد الحلمنتيشية”. أما المثال الأكثر وضوحا على هذه المسألة، فهي الدعاوى الدائمة، والملحة بأن (الأصول) تعود إلى ذلك الفخذ أو البطن من قريش، أو “الدوحة الهاشمية”. (في هذا الاطار لا تتم الاشارة مطلقا إلى أبي جهل أو أبي لهب مثلا كجد مفترض لأية قبيلة سودانية !!).
الاحتقان السياسي
بعد استقلال السودان، بعامين، استولى الجيش السوداني على السلطة، بتواطؤ من قيادات سياسية نافذة، في أحد أكبر حزبين في البلاد، حزب الأمة. ومنذ نوفمبر 1958، مرورا بـ”إنقلاب” مايو 1969، ونهاية بـ”إنقلاب” الإنقاذ – يونية 1989، اتجهت البلاد إلى الهاوية السياسية. وتواتر الانهيار في سائر مظاهر الحياة، تبعا لأنظمة “ديكتاتورية”، مارست تضييقا بالغا على الحريات، وقادت البلاد لنفق مظلم، من خلال مناوشات مستمرة مع القوى السياسية، وشلل أصاب التنمية في طول البلاد وعرضها – تدريجيا -، وتخطيط مرحلي واستراتيجي اتسم – وما يزال – بضيق الأفق السياسي، أفضى لنتائج كارثية.
ولا يصعب علي أي باحث، بالنظر إلى ممارسات الأنظمة الديكتاتورية، وسنواتها الطويلة في الحكم (واحد واربعون عاما للأنظمة الديكتاتورية مقابل أحد عشر عاما فقط للديمقراطية،من مجموع
اثنين و خمسين سنة هي عمر الاستقلال)، أن يقرر بأن “الخراب” الذي أصاب السودان، إنما هو محصلة لمآلات الحكومات العسكرية، وفشل سياساتها على الصعد كافة.
فضراوة الحروب الأهلية ارتبطت دائما بالحلول “العنفية” التي تبنتها الأنظمة الديكتاتورية، في مقابل محاولات جادة باتجاه الحلول السلمية، في عهود الديمقراطية. وتجدر الإشارة هنا، إلى أن الحرب الأخيرة في جنوب البلاد (1983-2005)، والتي خلّفت حوالي مليوني قتيل [5]، فضلا عن حوالي 4.4 مليون مشرد حتى نهاية 2001 منهم أربعة ملايين نازح داخلي [6] (يضاف إليهم 2 مليون آخرين في دارفور منذ 2003)، و 440 ألف لاجئ وطالب لجوء. وتجاوزت نفقات هذه الحرب 60 مليار دولار وهو مبلغ يعادل تقريباً نصف الديون الخارجية للعالم العربي [7].
وللتدليل على هذا الأمر، فقد تفجر الوضع في الجنوب في 1983، أثناء حكم الرئيس الأسبق جعفر نميري (1969- 1985)، وبلغ ذروته أثناء حكم الرئيس عمر البشير (1989- ). ولجأت حكومة البشير في مواجهة التهديد القادم من جنوب السودان، للآلة العسكرية، مفسحة الطريق أمام خطاب سياسي إسلاموي – عروبي، كان مسؤولا عن الدفع باتجاه حرب “مقدسة”، و”وطنية (عروبية) شوفينية” ضد المسيحيين الجنوبيين.
وجرى ذلك من خلال “شيطنة” الدكتور جون قرنق، زعيم الجيش الشعبي “متمردي الجنوب”، والسخرية منه ومن شكله – كإفريقي أسود – في التلفزيون الرسمي التابع – بالطبع – للدولة.وكان يتم بث صورة قرنق في شكل وحش يقطر فمه دما !!. وتجدر الإشارة هنا إلى أن ثمّة نزاعا آخرا، نادرا ما يشار إليه منفصلا عن الجنوب، ذلك الذي تفجر في جبال النوبة (جنوب كردفان) في 1984.
الأزمة في تمظهرها الاقتصادي
ولعل واحدا من أبرز تمظهرات أزمة السودان، وفشله، الموارد الهائلة التي يزخر بها، ولم توفر حياة كريمة لمواطنيه. فهنالك أكثر من 88 مليون هكتار صالحة للزراعة، و100 مليون هكتار أخرى تستخدم في الرعي، وحوالي 18 مليون هكتار من الغابات الطبيعية، و103 ملايين رأس من الماشية، بالإضافة لحوالي 30 مليار برميل من المياه المتدفقة – المهدرة – على طرفي مستنقعات جونقلي (جنوب)، ناهيك عن الأنهار الرئيسة التي تشقه من جنوبه، وشرقه إلى أقصى شماله [8].
ومع تدفق النفط نهاية التسعينات، أضحى منطقيا إضافة المورد النفطي، إلى ثروات السودان. وبحسب تقرير صندوق النقد الدولي الصادر في مايو 2006 يشكل البترول 14.3% من الناتج القومي الاجمالي السوداني [9].
و بفضل الريع البترولي تحقق ازدياد مضطرد في الناتج القومي الاجمالي: من 13454 مليون دولار (2001)، إلى 15109 مليون دولار (2002)، 17680 مليون دولار (2003)، ثم 21610 مليون دولار (2004)، حتى 27699 مليون دولار في 2005، بنسب نمو تبلغ 6.1%، 6.4%، 5.6%، 5.2% و8.0% على التوالي (صندوق النقد الدولي، تقرير السودان القطري، مايو 2006) [10].
كما قفز ريع البترول: من 20900 مليون دولار (2001م)، إلى 23600 مليون دولار (2002م)، 25700 مليون دولار (2003م)، 26000 مليون دولار (2004م)، حتى بلغت في العام السابق 27700 مليون دولار (صندوق النقد) [11].
لكن الثروات الهائلة وحدها، لم تكف قرابة 96% [12] من السودانيين البالغ عددهم حوالي 40 مليون نسمة [13]، مؤونة العيش تحت خط الفقر. وتبدو طبيعة الادارة في السودان، مشكلة من المشكلات التي تقعد فعلا بنمو الاقتصاد، وتحول دون انعكاس تحسنه المطرد على السودانيين.
فقد صنفت مؤسسة الشفافية الدولية في تقريرها (2006) السودان بحسبانه الدولة العربية الأكثر فسادا وبين “الدول العشر الأكثر فسادا في العالم” [14].
ولابد من الإشارة هنا إلى أن ما أنفقته الدولة على التعليم في الفترة 1995-1997 لا يتعدى 1.4% من الناتج القومي، في حين بلغت هذه النسبة على التوالي في بلد كساحل العاج 5% وكينيا 6% وسيشل 10%. في الوقت نفسه بلغ حجم الإنفاق العسكري المعلن في السودان 3.6% من الناتج العام أي قرابة ثلاثة أضعاف ما أنفق على التعليم [15]. ويبلغ عدد الأميين في السودان 18 مليون [16].
وجل ايرادات النفط خلال 2003 (حوالي 2.5 ترليون جنيه سوداني) تم صرفها على جهاز الدولة البيروقراطي (913.000 مليار جنيه) وتم تخصيص 468 مليار للأمن والدفاع [17].
أما الانتاج والتنمية البشرية، فتراجع نصيبهما (من 775 مليار جنيه إلى 620 مليار) بنسبة 20% عن العام السابق، فيما تراجع نصيب التنمية الزراعية 23% (من 220 مليار جنيه في 2002 إلى 170 مليار في 2003) [18]. في حين لا يتعدى دخل الفرد على أحسن الوجوه، 400 دولار سنويا، أي أن نصيب الفرد أكثر بقليل من دولار واحد يوميا.
وشهد السودان تدهورا مريعا في اقتصاده، تدهورا بلغ ذروته في منتصف التسعينات، وما تلاها من سنوات، حيث بلغ سعر الدولار الأمريكي، مقابل الجنيه السوداني، 2500 جنيها، وكان الوضع معكوسا في 1969 مثلا (حين استولى جعفر نميري على السلطة)، حيث كان الجنيه السوداني، يعادل دولارين.
لكن هذا الوضع، لا يبدو غريبا، بالنظر إلى جملة سياسات خاطئة، وأوجه صرف جائرة، على الأمن والجيش، و”الفساد”، وقلة الشفافية المالية والادارية، ارتكبت – بتفاوت – منذ 1956، وخصوصا في العهود الديكتاتورية.
فقطاع الزراعة مثلا، وهو القطاع الرئيس الذي كانت تعتمد عليه البلاد، أخذت حصته في إجمالي الناتج المحلي في التناقص بشكل كبير. كانت تلك الحصة 62% في 1956، ثم حوالي 46% في عقدي الستينات والسبعينات، وانخفضت إلى نحو 37% خلال عقدي الثمانينات والتسعينات [19].
والصناعة لم تساهم إلا بحوالي12%و 16% من إجمالي الناتج المحلي علي التوالي خلال فترتي الستينات والسبعينات ، والثمانينات والتسعينات [20].وهذا يعني أن الصناعة والزراعة معا لا تعطيان سوي 55% تقريبا من إجمالي الناتج المحلي, والباقي (45%) يأتي من قطاع الخدمات [21]، أي أن الاقتصاد السوداني اقتصاد مكشوف قائم علي أسس غير ثابتة، ومعرض للكوارث والنكبات خاصة في ظل الظروف الإقليمية والدولية الراهنة المتسمة بالتعقيد وعدم الاستقرار [22].
وبعد أن كانت البلاد في منتصف الخمسينات من القرن العشرين قادرة على تغطية احتياجاتها الغذائية من الإنتاج الزراعي المحلى، شهدت (في 2004) اعتمادا متزايداً على استيراد القمح مصحوباً بالإغاثة لمواجهة جزءاً مقدراً من حاجة السكان للحبوب الغذائية [23].
وتقلصت المساحة المزروعة بالقطن، الذي كان من أهم صادرات البلاد، طيلة أربعة عقود، من نحو 875 ألف فدان في المتوسط على مدى عشرين عاماً لعقدي السبعينات والثمانينات (الفترة الممتدة من 1970/1971 وحتى 1989/1990) إلى حوالي 430 ألف فدان كمتوسط سنوي للمساحة في عقد التسعينات ( الفترة الممتدة من 1989/1990 وحتى 1999/2000) [24].
كما هبط إنتاجه الكلي (القطن) من نحو 500 ألف طن كمتوسط للفترة الأولى إلى 218 ألف طن فقط كمتوسط للفترة الثانية [25].
ومع هذا الانهيار في الأداء الاقتصادي،كانت جملة الاعتداءات على المال العام، باستثناء قطاع المصارف من سبتمبر 2004 وحتى نهاية أغسطس 2005 طبقا للصحافة السودانية، تقدر بـ(542 مليون دينار، يعني 5 مليارات جنيه سوداني).
وكانت جرائم سرقة المال العام وصلت إلي 813 مليون دينار (8 مليار جنيه) في 2002 لم يسترد منها الا 8.32 مليون دينار أي 9% تقريبا. وكان الاعتداء علي مال الزكاة كانت نسبته 11% من إجمالي المبالغ المسروقة.
وتجدر الإشارة أيضا إلى أن السودان تصدر الترتيب العالمي للدول الفاشلة، في دليل “الدول الفاشلة” لعام 2006 الذي يصدر في واشنطن. وتعريف الدول الفاشلة هي تلك “التي لا تملك فيها الحكومة سيطرة فعالة على أراضيها، والتي لا توفر الأمن المحلي أو (الخدمات العامة) لمواطنيها، وتفتقد إلى احتكار استخدام القوة”.
الفشل السياسي والاداري
هذه التمظهرات كلها، لا يمكن أن تقرأ خارج الفشل في ادارة الموارد، والاخفاق في رسم السياسات، و”المغامرات” السياسية التي طبعت أنظمة حكم سياسية، كانت تفتقر للخبرة، والتخطيط الاستراتيجي. يضاف لهذا كله، نزعة السلطة المركزية، لحلّ المسائل العالقة، إما بالتفاف ومحاولة فرض الأمر الواقع، أو بوسائل عنفية.
فالأنظمة الديمقراطية في السودان، لو أتيح لها الاستمرار، واستطاعت أن ترسخ قيّم الحوار والتسامح، وأفادت من الخبرات العلمية والفكرية والثقافية السودانية، لجهة التنمية، ووضع خطط قصيرة، ومتوسطة، وطويلة المدى، لكان من الممكن التغلّب على الأزمة الشاملة، التي تضع السودان، اليوم، على مفترق طرق.
وكانت الخبرة السياسية المتراكمة، والتجربة المتوّلدة عن معاينة الاخفاقات، والعلل، لتسمح للسياسيين المنخرطين في “العملية الديمقراطية”، أن يطوروا تدريجيا، الديمقراطية السودانية، آخذين بالاعتبار، التنوّع، و”جدل الهوية”، وضرورات التنمية المستدامة، وتوازنها، والقسمة العادلة للسلطة، ولا مركزيتها.
بالنسبة لجدل الهوية مثلا، قاد رئيس الوزراء السابق (1986 – 1989)، ورئيس حزب الأمة، الصادق المهدي، نهاية التسعينات، حملة في ضرورة الاعتذار عن تجاوزات الماضي بين السودانيين، وأصبح يتحدث عن قيمة الثقافات في جنوب السودان، ومبلغ جهل الشماليين بها [26].
وأدى الوعي بالتنوع أيضا إلى مناقشة مسائل (داخل حزب الأمة)، كانت تعد من المسلمات مثل انتماء السودان لجامعة الدول العربية، ومنظمة الدول الإسلامية. وإلى الحديث عن الأفريقانية بمفهوم جغرافي ديناميكي [27].
وهذا التحول في موقف الحزب، المحسوب على الشمال (العربي الإسلامي)، من التنوع أدى لصياغة “الميثاق الثقافي” بواسطة قادة الحزب [28]. وغني عن القول، إن نقد التجربة السياسية، ومراجعة الأداء، والبرامج، بتفاوت، أمر بات شائعا في أروقة القوى السياسية الديمقراطية في السودان، على عكس، الأنظمة الديكتاتورية، التي لا تلجأ أبدا للاعتراف بأخطائها الكارثية.
وإذا كان الفشل السياسي والاداري، والخلل في التنمية، وعدم توازنها، والتهميش الثقافي، والقمع، قد نجم عنها مظالم، واحتجاجات، وأزمات سياسية عصفت بالسودان، طيلة عقود، فإن السنوات الـ 15 الأخيرة، شهدت بلوغ الأزمات مدياتها القصوى.
فمن جهة، حسم توجه نظام الرئيس البشير (العروبي الإسلاموي) جدل الهوية بالقوة، وفرض على الثقافات الأخرى، إما أن ترضى بالإنضواء تحت لافتته، أو أن تناضل – بوسائل عنفية – من أجل حقوقها. ومن جهة ثانية، لم يسع النظام السياسي الذي ورث تركة اقتصادية ثقيلة، من عهدي جعفر نميري، والصادق المهدي، لإجراء اصلاحات حقيقية في الاقتصاد. وأسهم الحصار الذي ضرب على السودان، منذ 1995، في تسارع وتيرة الانهيار. كما تضاعفت حدة المعارك في الجنوب، وقاتلت الحكومة المركزية، في جبهات جديدة، في شرق السودان، وفي غربه. وكلّ ذلك، جعل من السودان، “رجلا مريضا اقتصاديا”.
ولمواجهة كلفة الحروب الأهلية، والحصار الاقتصادي، كان الخيار الوحيد أمام حكومة عمر البشير، المزيد من فرض الضرائب على الشعب، بالإضافة لخصخصة المؤسسات العامة. وتم فصل حوالي 125 ألف سوداني وسودانية من وظائفهم في الفترة من 1989 إلى 1995[29]. وانخفض عدد العاملين في هيئة السكة الحديد – مثلا – من 31 ألف في 1989 إلى نحو 11 ألف في 2003، أي بنسبة 65% تقريبا [30].
وإذا أضيف لذلك، احتكار الوظائف في الخدمتين المدنية والعسكرية، بواسطة مؤيدي حكومة عمر البشير فحسب (الجبهة الإسلامية المؤيدة له حازت 54 مقعدا فقط من أصل 260 مقعدا في البرلمان السوداني 1986)، والشلل الذي أصاب قطاعي الزراعة والرعي (الثروة الحيوانية)، فيمكن القول، إن 96% من السودانيين تحت خط الفقر [31]، يشيرون فعليا، إلى انقراض “الطبقة الوسطي” في السودان، وإلى اختلال خطير للغاية، خصوصا أن غالبيتهم، هم من الريف والبوادي، بالإضافة طبعا لقطاعات واسعة من سكان المدن (المريّفة)، الذين اتجهت نسبة مقدرة منهم، لامتهان أعمال هامشية، لا يمكن تصنيفها ضمن أي “دورة انتاج”.
ليس هذا فحسب، فتجاهل أزمات الجنوب والشرق والغرب، والشعور المتفاقم، بأن السلطة والثروة، تمت السيطرة عليهما، من قبل “نخب”، تتحدر من شمال السودان غالبا [32]، أورث “قابلية” لاشتعال الحرائق السياسية، خصوصا في ظل “تراجع” دور الأحزاب السياسية، وبروز تنظيمات جهوية وقبلية، باتت تعبّر عن برامج سياسية “مناطقية”، تحاجج بها السلطة المركزية.
دارفور..رؤوس أقلام حول الأزمة
تتضارب الأقوال حول بدايات أزمة دارفور، حيث يرجعها بعض الباحثين لعشرات السنوات (1967 أو 1968)، بسبب التنازع حول الموارد، بين قبائل عربية رعوية، وأخرى إفريقية زارعة، بينما يؤكد آخرون أنها تعود لعام 1967 أو 1968 بسبب احتكاكات نجمت عن سرقات ماشية [33]. ويرجعها آخرون [34] لعام 1985، إذ يتهمون الحكومة المركزية بتسليح بعض المجموعات العربية، في مواجهة مخاطر “التمرد الجنوبي، الذي امتد إلى جبال النوبة في الغرب”.
والثابت، أن الجفاف والتصحّر الذي ضرب شرق أفريقيا منذ مطلع الثمانينيات، وتدفق السلاح إلى الإقليم خلال الحرب التشادية – الليبية، منتصف الثمانينيات، واحتكاكات المزارعين والرعاة، شكلّت كلها، عوامل، تراكمت تدريجيا، لتتسبب بعد عشرين عاما (2003) في كارثة تعتبرها الأمم المتحدة أكبر أزمة إنسانية في العالم نظرا لفرار مليوني لاجئ [35].
ويشير بعض المحللين، إلى أن أزمة دارفور، تمثّل جانبا من جوانب صراع الإسلاميين على السلطة، عقب المفاصلة التي جرت بين الدكتور حسن الترابي، والرئيس عمر البشير، في 1999. وإذا كانت ثمة معطيات، تؤكد ضلوع الإسلاميين في الصراع، (مدير جهاز الأمن والمخابرات السودانية، اللواء (وقتذاك، الفريق الآن) صلاح عبدالله قال في تصريحات صحفية “سلحنا ميليشيات دارفور لكننا لن نفعل ذلك في الشرق”) [36]، غير أنه لا يمكن الإتكاء على هذا البعد فحسب في دراسة الأزمة.
لا شك أن “مسألة دارفور” تشكّل كارثة، ما كانت لتنفجر على هذا النحو، لولا عوامل متداخلة، سياسية واقتصادية وثقافية، تمثّل في جوهرها، أزمة السودان، في اختلال موازين السلطة والثروة، وفي فرض ثقافة واحدية، هي الثقافة “الإسلامو – عربية”، وفي غياب الديمقراطية والشفافية.
ونجم عن إتكاء السلطة المركزية على الوسائل العنفية وحدها في حسم الأزمة، و”السوء البالغ في ادارة الأزمة”، إلى تحوّلها إلى “أكبر كارثة إنسانية” في العالم [37]. وأدخلت أزمة دارفور، الحكومة السودانية، التي كانت قد تحسنت علاقاتها قليلا بالغرب، إثر توقيع اتفاق سلام نهائي مع الحركة الشعبية لتحرير السودان، في نيفاشا (كينيا) في يناير 2005، في شدّ وجذب مع المجتمع الدولي، تبعته قرارات خطيرة [38] قد تؤثر في مستقبل السودان كلّه.
وعلى الرغم من أن بعض التقارير الصحافية تشير بإصابع الاتهام، لأطراف خارجية، باللعب بـ”ورقة دارفور”، والاسهام في تأزّم الوضع، بتشجيع المتمردين على رفع سقوف التفاوض، بناء على مصالح نفطية في السودان عموما، ودارفور خصوصا، في ظل معلومات غير مؤكدة، تشير إلى أن السودان، ربما يمتلك احتياطي النفط الأكبر في العالم [39]، وكذا احتياطي اليورانيوم الأكبر في العالم، وفي ضوء تكتم شديد من قبل الحكومة السودانية، والشركات العاملة في هذا المجال، على قدرات السودان النفطية [40]، وعلى الرغم من الإشارات الواردة أيضا بشأن الصراع المحموم بين الولايات المتحدة، وفرنسا، والصين، على التنقيب واستخراج النفط والسيطرة عليه في دارفور وتشاد، غير أن السودانيين أنفسهم يتحملون قدرا كبيرا من المسؤولية.
وتبقى الأزمة السودانية الشاملة، التي كلّفت البلاد مليوني مواطن في الجنوب، وحوالي 180 ألف آخرين في دارفور [41]، علاوة على ملايين اللاجئين، عالقة ومنذرة بتفتت السودان، ومزيد من التعقيدات في الوصول إلى أي حلّ، يمكن أن يظل هشّا، وقابلا للنقض، في ضوء شكوك كل طرف بالآخر، ما لم ينزع فتيل الأزمات كلّها، من خلال طاولة حوار وطني، لاستخلاص حلّ وطني، يتأتى من قدرة النخب السياسية والثقافية، على العبور من نفق الأزمة الشاملة، والمساومات التاريخية التي يمكن أن تجري بين مكوناته الإثنية والدينية والسياسية، لإقرار حقوق دينية وثقافية وسياسية متساوية، ضمن نظام ديمقراطي علماني.
وتجدر الإشارة أيضا إلى أن ثقافة العنف الفكري والسياسي واللفظي والإثني والديني، التي تفشّت في السودان، لا يمكن أن تجري معها أية محاولة لتأسيس وطن يتسع للجميع، ما لم ينظر بجدية في أمر المنظومات التربوية والتعليمية والثقافية، وأنساقها كلّها، لأن مثل هذه الثقافة أضحت بحد ذاتها، عاملا من عوامل الاشتعال، خصوصا وأن السياسة السودانية بالذات، طبعت في السنوات الأخيرة بطابع العنف، فمسؤول بارز يقول “ربما تكون الحكومة قد غضّت الطرف عن الميليشيات، وهذا صحيح، لأن الميليشيات تحارب التمرد” قاصدا بذلك مليشيات دارفور [42]، في حين يتحدث أحد قادة حركة تحرير السودان (دارفور) عن أن “الخرطوم لا تتحدث إلا إلى الذين يحملون السلاح” [43].
* دراسة خاصة بطلب من مؤسسة الفكر العربي – بيروت
* ترجمة جمال محمد أحمد
مراجع:
[1] الدكتور عبدالله بولا، أطروحة:شجرة نسب الغول في مشكل الهوية الثقافية وحقوق الانسان في السودان، 1996.
[2]المصدر السابق، الدكتور عبدالله بولا.
[3] شارلي بونيه، لمحطة (TSR) السويسرية الناطقة بالفرنسية، 30-06-2005 /ترجمة طه يوسف حسن.
[4] الخير محمد حسين، دراسة: اللغة النوبية والحضارات القديمة، 2006.
[5] الدكتور عبدالله بولا، أطروحة:شجرة نسب الغول في مشكل الهوية الثقافية وحقوق الانسان في السودان، 1996.
[5] مركز الجنوب لحقوق الانسان، 2002.
[6] المصدر السابق.
[7] المصدر السابق.
[8] الدكتور محمد سليمان محمد، السودان: حروب الموارد والهوية، كتاب، دار كيمبردج للنشر، لندن، 2000.
[9] مجدي الجزولي ، البترول في السودان: مورد وطني أم (مؤتمر وطني) – موقع الحوار المتمدن على الانترنت، 2006.
[10] المصدر السابق.
[11] المصدر السابق.
[12] برنامج الأمم المتحدة الإنمائي – UNDP – برنامج ادارة الحكم في الدول العربية – http://www.pogar.org/arabic/countries/gender.asp?cid=8
[13]بعثة الأمم المتحدة في السودان – UNAMIS
http://www.unmis.org/arabic/sudan.htm
[14] منظمة الشفافية العالمية
[15] محمد عبدالعاطي، الحرب في جنوب السودان.. حصاد الهشيم – موقع قناة الجزيرة على الانترنت.
[16] سعاد إبراهيم أحمد،التعليم والثورة، مجلة احترام: المجلة السودانية لثقافة حقوق الانسان وقضايا التعدد الثقافي، مارس 2006.
[17] محمد عبدالعاطي، الحرب في جنوب السودان.. حصاد الهشيم – موقع قناة الجزيرة على الانترنت.
[18] المصدر السابق.
[19] فرح حسن آدم، الزراعة السودانية بين الفناء والبقاء، موقع الحزب الشيوعي السوداني على الانترنت.
[20] المصدر السابق.
[21] المصدر السابق.
[22] المصدر السابق.
[23] المصدر السابق.
[24] المصدر السابق.
[25] المصدر السابق.
[26] ورقة الحل السياسي الشامل، موقع حزب الأمة القومي (السوداني) على الانترنت.
[27] المصدر السابق.
[28] المصدر السابق.
[29] التقرير السنوي لحالة حقوق الإنسان في السودان في 2003.
[30] المصدر السابق.
[31] برنامج الأمم المتحدة الإنمائي – UNDP – برنامج ادارة الحكم في الدول العربية – http://www.pogar.org/arabic/countries/gender.asp?cid=8
[32] الكتاب الأسود: إختلال ميزان تقسيم السلطة والثروة في السودان.
[33] جولي فلينت وألكس دي فال، كتاب: دارفور تاريخ حرب وإبادة، ترجمة أنطوان باسيل 2006.
[34] الدكتور محمد سليمان محمد، السودان: حروب الموارد والهوية، كتاب، دار كيمبردج للنشر، لندن، 2000.
[35] بي بي سي، 30 ديسمبر 2004.
[36] صحيفة الخليج الإماراتية 19 أبريل 2004.
[37] الأمم المتحدة، يونيو 2004.
[38] قرارات مجلس الأمن بشأن السودان: القرار 1556 بتاريخ 30 يوليو 2004، القرار 1591 بتاريخ 29 مارس 2005، القرار 1651 بتاريخ 21 ديسمبر 2005،القرار 1663 بتاريخ 24 مارس 2006، القرار 1665 بتاريخ 29 مارس 2006، والقرار 1672 بتاريخ 25 أبريل ،2006، القرار 1679 بتاريخ 16 مايو 2006، القرار 1706 بتاريخ 31 أغسطس 2006، القرار 1709 بتاريخ 22 سبتمبر 2006، القرار 1713 بتاريخ 29 سبتمبر 2006، القرار 1714 بتاريخ 6 أكتوبر 2006.
http://www.un.org/arabic/sc/SCRes06.htm
[39] قناة الجزيرة، قطر، برنامج “دارفور.. ما وراء الانسانية”، بتاريخ 16 نوفمبر 2006، وبإحالة إلى صحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية.
[40] المصدر السابق.
[41] بي بي سي، 14 مارس 2005، تصريحات يان انجلاند، منسق شؤون الاغاثة الدولية.
[42] مصطفى عثمان إسماعيل، وزير الخارجية السابق، ومستشار رئيس الجمهورية حاليا، تصريحات صحافية بتاريخ 24 أبريل 2004.
[43] عبد الواحد محمد نور، رئيس حركة تحرير السودان، خلال اجتماع عام عُقد في برلين، 16 يونيو 2004.
الأزمة السودانية الشاملة: التمظهرات وآفاق المستقبل
بعد كل هذا اين الحل