جديد الأردن قديمه. هذه ليست المرّة الأولى التي يطرق الإرهاب باب الأردن منذ العام ١٩٥١. الأكيد أنّها لن تكون المرّة الأخيرة، خصوصا أنّ الملك عبدالله الثاني إعتبر دائما أن لا مفرّ أمام المملكة من المشاركة في الحرب على ظاهرة الإرهاب.
كشفت الجريمة التي استهدفت الطيّار معاذ الكساسبة كم أنّ الأردن على حقّ في أن يكون شريكا في الحرب على الإرهاب، كما كشفت إلى أيّ حدّ كان عبدالله الثاني على حقّ عندما اعتبر في حديثه الطويل، قبل شهرين، أنّ على المسلمين المبادرة إلى مواجهة الواقع الأليم الذي من سماته وجود تنظيم مثل “داعش” يسمح لنفسه بارتكاب أبشع الجرائم في حقّ المسلمين والإسلام أوّلا.
كان العاهل الأردني مصيبا عندما قال أواخر العام الماضي “إنّنا نواجه مشكلة داخل الإسلام”. من الواضح أنّ هناك مشكلة يُفترض بالمسلمين التصدّي لها قبل غيرهم. هذا ما يشدّد عليه عبدالله الثاني الذي يقول أيضا: “علينا تولي (معالجة المشكلة) بأنفسنا وأن ننهض ونقول الحقّ وندين الباطل. يجب أن نقول أنّه هذا لا يمثّل ديننا، بل هو الشرّ بعينه وعلينا جميعا أن نتخّذ هذا القرار”.
هناك جرأة أردنية في تسمية الأشياء بأسمائها. ليس الأردن سوى ضحية من ضحايا الإرهاب في منطقة وجدت فيها منذ فترة طويلة أنظمة مثل النظام السوري. هناك أنظمة تعتبر المنظمات المتطرفة اداة من الأدوات التي تستخدمها في ابتزاز العرب والمجتمع الدولي. ألم يعتقد النظام السوري أنّ تشجيع عناصر “القاعدة” على شنّ عمليات في العراق سيحمل الإدارة الأميركية على التفاوض معه من منطلق أنّه لاعب إقليمي لا يمكن تجاوزه؟
من لديه ادنى شك في ذلك، يستطيع العودة إلى علاقة النظام السوري بالإرهابي “أبو مصعب الزرقاوي” الذي قتل في العراق في السابع من حزيران ـ يونيو ٢٠٠٦ والذي كانت مهمّته محصورة بتغذية الشعور بالظلم لدى السنّة وتأليبهم على الشيعة، أي ملاقاة ايران التي كانت تثير من جهتها العصبية الشيعية، وتحضّ على مهاجمة الأميركيين خلال فترة وجودهم العسكري فيه.
كذلك، يستطيع من لديه أدنى شك في علاقة النظام السوري بالإرهاب والإرهابيين، العودة إلى مرحلة ظهور “فتح الإسلام” فجأة في مخيّم نهر البارد للفلسطينيين في شمال لبنان. كان على رأس التنظيم شاكر العبسي الذي خرج من السجون السورية وتخرّج منها. أين العبسي الآن، كيف استطاع النظام السوري استعادته بعدما أنهى الجيش اللبناني التمرّد في المخيّم صيف العام ٢٠٠٧؟
قبل أقل من سنة من قتل الزرقاوي في عملية، خُطّط لها جيدا، كان الأردن يتعرّض في تشرين الثاني ـ نوفمبر ٢٠٠٥ لسلسلة هجمات نفّذها انتحاريون في فنادق كبيرة في عمّان.
كانت ساجدة الريشاوي التي قبلت السلطات الأردنية مقايضتها بالطيار الأسير، من بين الإنتحاريين الذي استهدفوا مدنيين في فنادق عمّان. لم تُعدم الريشاوي إلّا بعد إحراق الطيّار الأردني.
وعى الأردن باكرا خطورة الإرهاب. لم يتردّد لحظة في القيام بواجبه حماية للأردنيين وحفاظا على رسالة الإسلام. لم يتصدّ الأردن لهذه الظاهرة الخطيرة التي تهدّد الإقليم كلّه، عن طريق اللجوء إلى القوة فقط. كانت هناك أيضا سلسلة نشاطات استضافتها عمّان من أجل التقريب بين الديانات ونشر ثقافة التسامح والإعتراف بالآخر. شملت هذه النشاطات التقريب بين السنّة والشيعة وكلّ المذاهب الإسلامية من أجل خلق أجواء جديدة في المنطقة تساعد في التصدّي للإرهاب والإرهابيين.
أدرك الأردن سريعا أهمّية مواجهة ظاهرة الإرهاب. وإلى الذين لديهم بعض الذاكرة، يمكن العودة إلى صيف العام ٢٠٠٢ عندما حذّر عبدالله الثاني جورج بوش الإبن شخصيا من النتائج التي يمكن أن تترتّب على الإحتلال الأميركي للعراق في غياب خطة واضحة لإعادة بناء البلد على أسس سليمة مع الإعداد الجيّد للنظام البديل من نظام صدّام العائلي ـ البعثي.
يمكن أيضا العودة إلى “رسالة عمّان” التي صدرت في العام ٢٠٠٤ في الوقت الذي بدأت الغرائز المذهبية والفتاوى ذات الطابع الإعتباطي، التي تنمّ عن جهل بالإسلام، تنتشر في كلّ المنطقة انطلاقا من العراق ومن المروّجين لمدرسة الإخوان المسلمين.
ليست مواجهة الإردن للإرهاب جديدة، فالملك المؤسس عبدالله الأوّل إغتاله ارهابي في العام ١٩٥١، فيما كان يصلي في المسجد الأقصى. ورئيس الوزراء هزّاع المجالي إغتيل في تفجير مقرّه في عمان في العام ١٩٦٠ ورئيس الوزراء وصفي التلّ اغتيل في القاهرة في العام ١٩٧١ على يد ارهابيين فلسطينيين.
قبل ذلك، تعرّض الأردن لهجمة شاملة استهدفت كلّ مؤسساته والإنتهاء من سيادته على ارضه في العام ١٩٧٠.
إلى الآن، لا تزال هناك منظمات ارهابية تحاول التسلل إلى الداخل الأردني لضرب الإستقرار في المملكة، خصوصا عبر الحدود مع سوريا.
الأكيد أنّ العزيمة الأردنية لن تخفت. فحرق “داعش” للطيّار يترك حرقة في قلب كلّ اردني. إضافة إلى ذلك، إنّ الملك يعي تماما طبيعة المواجهة التي يخوضها البلد، إذ يقول “إنّها معركة واضحة بين الخير والشرّ، وهي معركة ستستمرّ لأجيال قادمة، كما قلت للرئيس بوتين. إنّي اعتقد أنّها حرب عالمية ثالثة بوسائل مختلفة”.
الأردن صامد في معركة يعرف تماما أنّها صعبة، خصوصا أنّه ليست هناك قوّة عظمى على استعداد لمعالجة ظاهرة “داعش” من خلال مقاربة تأخذ في الإعتبار أنّ ليس في الإمكان الإكتفاء بالغارات الجويّة على مواقع التنظيم لمنع تمدّده في هذا الإتجاه أو ذاك، كما حصل في بلدة كوباني (عين العرب) الكردية على الحدود السورية ـ التركية.
يُفترض في جريمة “داعش” في حقّ الطيار معاذ الكساسبة، وقبلها ذبح الرهينتين اليابانيتين والصحافيين الأميركيين ومواطن بريطاني جاء لمساعدة الشعب السوري، جعل الإدارة الأميركية تدرك أمورا محدّدة. في مقدم هذه الأمور أن اطالة الحرب الداخلية في سوريا واستمرار الإحتقان الطائفي الذي تشجّع عليه ايران في العراق يفرضان الوصول إلى خلاصة مفيدة.
فحوى هذه الخلاصة أنّ الحرب على الإرهاب ذات وجوه عدّة. أهم هذه الوجوه الحاضنة التي يستفيد منها “داعش” في سوريا والعراق. هل من رغبة حقيقية في طرح الأسئلة الحقيقية من نوع لماذا هناك حاضنة للإرهاب في سوريا والعراق ومن يتكفل ايصال المساعدات والمقاتلين إلى “داعش” وأخواته؟
القضاء على الحاضنة يختصر كثيرا الطريق إلى القضاء على إرهاب “داعش” بدل العمل على اطالة عمر هذا التنظيم خدمة لأهداف من بينها تفتيت سوريا، على اليد النظام القائم…