الفكرة المتأصلة في نفوس جميع المؤمنين ــ دون استثناء ــ هي أن الدين الذي هم عليه هو الدين الصحيح، هو الأمثل والأفضل بين الأديان، وهذه هي الحقيقة المسكوت عليها التي لا تنطق بها الشفاه لضرورة المجاملة وعدم الدخول في معارك ولكن ذلك يقر في قلب كل مؤمن، ويرى أنه أمر طبيعي، فإذا لم يكن دينه هو الأفضل، فلماذا إذن يؤمن به، ولا يؤمن بالآخر.
إن هذا التساؤل الذي يصل إلى حد المسلمات بين الناس يغفل واقعة هامة هي أنه ما من أحد اختار دينه بادئ ذي بدء، وما من أحد يكلف خاطره دراسة الأديان ومقارنتها لينتهي إلى أن دينه هو الأفضل، إن الأديان تورث، وحقيقة أنه مؤمن بدين، إنما يعود إلى أن أبويه مؤمنان بهذا الدين وأورثاه إياه بمجرد ولادته ولم يكن له شأن إرادي فيه، وهذا هو مضمون ما قاله الرسول من أن كل مولود يولد على الفطرة، وأن أبواه يمجسانه أو يهودانه أو ينصرانه، وإذا كان يدافع عن دينه ويراه الأفضل، فهذا من منطلق مقوماته، وليس مقومات الدين.
ومن ناحية الأديان نفسها، فالأديان جميعًا تقوم على الإيمان بالله، وهذه هي حقيقة الدين والتي تميزه عن الفلسفة، ومن غير المعقول أن يكون هناك إله للمسيحيين، وإله لليهود، وإله للبوذيين.. الخ. إن فكرة الإله لا تستقيم إلا عندما تتحول فكرة الإله الإقليمي إلى الله المطلق الذي خلق هذا الكون بأسره وكل ما فيه من آدميين وحيوانات ونبات وجبال.. الخ. فإذا كان الله واحدًا للجميع، فمن العبث إقامة الأسوار ما بين الأديان أو ممارسة نوع من التفاضل بينها، والذي يغير دينه إلى دين آخر، فإنه في الحقيقة لم يتحول عن الإيمان، لأنه سيدين في النهاية بالله الذي أنزل الأديان كلها، والذي هو إله البشرية، فلا يمكن الفرار من الله إلا إليه، وهذا العمل لا يعتبر خروجًا، ولكن تحولاً من دين إلى دين آخر داخل الإطار الواحد للأديان كلها الذي يتمحور حول الإيمان بالله.
وينبثق عن الإيمان بالله قيم مثل المساواة، والحرية، والخير، والعلم، والصدق.. الخ، وهذه هي جوهر الأديان وروحها، وهذه القيم لا تتأثر بنقص مؤمنين بها أو زيادتهم فستظل هي هي.
من ناحية الدين إذن الذي يقوم على الإيمان بالله إله الجميع، ومن ناحية أن هذا الإيمان يتبلور في قيم موضوعية لا تتأثر بقلة أو بكثرة المؤمنين بها، لا يكون هناك معنى للتعصب وللضجة التي تصطحب بمحاولات تغيير الأديان، بل لا يكون هناك مجال للحديث عن تفاضل، كما يظهر تمامًا بطلان فكرة أن ديناً ما ينسخ الأخر. فلو كان ينسخ حقاً لما كان للآخر وجود. أما وهو موجود بكثرة، فإن هذا الوجود نفسه يناقض فكرة النسخ، فضلاً عن أن الله تعالى لو أراد النسخ لأوقعه بطريقته الخاصة، وهو على كل شيء قدير، أما أنه لم يوقعه ــ بدليل وجود المسلمين والمسيحيين ــ بأعداد مماثلة تقريبًا، فإن هذا ليس له إلا نتيجة واحدة هي أن الله تعالى لا يريد هذا النسخ، وهو تفسير الآية « وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ» (هود: 118).
* * *
هذه النتيجة التي انتهينا إليها تثير الذهول، لأنها تتناقض تمامًا مع الفكر السائد بين الناس جميعًا، وإذا كانت صحيحة فكيف سيطر التعصب على عالم الأديان؟ وكيف حدث أن كانت أكثر الحروب شراسة هي الحروب الدينية؟ وأن التعصبات الدينية أوجدت وصمة في تاريخ البشرية هي محاكم التفتيش التي ظلت طوال أربعة قرون منذ استيلاء الأسبان على غرناطة سنة 1492م حتى ألغاها نابليون عندما دخل أسبانيا، ومارست أبشع صور التعذيب بحجة خلاص الروح.
كيف حدث هذا؟
الرد:
المؤسسة الدينية.
ذلك أن الأديان تتنزل على أنبياء يختارهم الله نماذج للكمال الإنساني ويزودهم بوحي يوجههم ويحول دون انحرافهم ويجعل دورهم مجرد التبليغ دون أن يكون لهم أي سلطة غير ذلك. فالنبي لا يكون من مسئوليته تحقيق الهداية، ولكن تبليغ الدعوة، وبهذا تأخذ طابعًا «موضوعيًا» بعيدًا كل البعد عن النزعة الذاتية.
بعد وفاة الأنبياء يقوم أتباعهم بتكوين «مؤسسة» لمواصلة الدعوة، ولكن هناك فرقاً كبيراً بين الأنبياء الموحى إليهم وبين الأتباع الذين يخضعون لضرورات الطبيعة البشرية. وتكون النتيجة أن تأخذ المؤسسة شكل «المحامي» الذي يؤمن بقضية معينة ولا يعنيه إلا الدفاع عنها ولا يعمل لغير نصرها، وبالتالي تأخذ المؤسسة طابعًا ذاتيًا قدر ما تبعد عن الطابع الموضوعي لرسالة الأنبياء. ومع الزمن تحدث عملية «شخصنة» المؤسسة، بمعنى اندماج المؤسسة في أشخاص القائمين عليها، ويرى هؤلاء أنهم هم «الدعوة» وأنه لا يجوز لغيرهم التحدث باسمها، وبهذا تضيف المؤسسة لنفسها صفة «الاحتكار»، فيختزل الدين في المؤسسة وتختزل المؤسسة في القائمين عليها.
ولما كانت هذه العملية غير سليمة من الناحية الأصولية، ففي كثير من الحالات تنشأ «مؤسسة» معارضة تنازع المؤسسة الأولى احتكار الدعوة، وتنشأ صراعات بينهما.
وظهر هذا جليًا في تاريخ الكنيسة. فقد بدأت الانشقاقات منذ تاريخ مبكر، وتزايدت مع الزمن، وأصبحت الكنائس الكبرى هي الكاثوليكية، والأرثوذكسية والبروتستانتية بالإضافة إلى عدد آخر اقل شأناً.
وكل كنيسة تدعى أنها تمثل المسيحية الحقة، وأكثرها تمسكاً وتعصبًا هي الكنيسة الكاثوليكية التي ما فتأت تدَّعى من أيامها الأولى أنها الكنيسة الحقة، وآخر ما جاء في هذا الصدد ما ذكره البابا بنديكت السادس عشر في خطبته المشهورة بإحدى الجامعات الألمانية أن الكنيسة المسيحية الهيلينية التي ظهرت في عاصمة أوروبا العريقة روما هي وحدها التي تقدم الخلاص، أما بقية الكنائس فهي تابعة لها، وفي اليهودية ظهر القرآون والربانيون.
ولا يزال الخلاف ما بين الكنائس يصل إلى حد تحريم التزاوج ما بينها، كما تختلف عادات وطقوس بعضها عن بعض، حتى تحديد عيد الميلاد يختلف ما بينها.
في كل هذه الحالات تكون المؤسسة ــ وليس الدين ــ هي التي قادت الصراع وتولته. فقد قاد السينود اليهودي الحملة على المسيحية، وهو الذي ألّب السلطات الرومانية على المسيح وطلب منها صلب المسيح، وحاول الوالي الروماني الوثني التخلص من هذه المهمة البغيضة وأراد أن يمارس حقه في العفو ويعفو عنه، ولكنهم رفضوا وآثروا أن يعفى عن لص هو بارباس ولا يعفو عن المسيح.
ورغم ذلك، انتصرت المسيحية، وعندئذ قامت الكنائس باضطهاد اليهود اضطهادًا شنيعًا على مر العصور، منذ انتصار المسيحية حتى مشارف العصر.
على أن انتصار المسيحية كان يؤذن بإضرام الحرب ما بين كنائسها المختلفة وقد خربت أوروبا حرب المائة عام وثار الكاثوليك على “الهوجونوت” في فرنسا في مذبحة “سان بارثلمو”، وفي كل مكان من أوروبا قامت الحروب ما بين المذهبين الرئيسيين في أوروبا الكاثوليكية والبروتستانتية ولا تزال آثارها قائمة حتى الآن في أيرلندا.
فإذا كانت الخلافات ما بين المؤسسات الدينية المسيحية ــ أي الكنائس ــ قد أدت إلى حروب غطت أوروبا كلها، فلنا أن نتصور موقفها عند ظهور دين غريب عليها هو الإسلام.
ما أن ظهر الإسلام حتى شنت الكنيسة عليه حملة من الاتهامات التي نالت شخصية الرسول وقداسة القرآن، ثم تنامت إلى الحروب الصليبية التي دعا إليها ــ باسم المسيح ــ البابا أوربان الثاني، وظلت هذه الحروب قرنين، وارتكبت فيها الجيوش التي تضع شارة الصليب على ملابسها وأعلامها مجازر ومنكرات يشيب لهولها الولدان واستمرت حتى احتلت غرناطة وطردت المسلمين واستأصلت عملية إبادة الباقين عن طريق محاكم التفتيش الرهيبة.
وفي الجحيم الأحمر الذي أثارته الكنيسة على الإسلام وجدت سابقة وحيدة يتيمة سلكتها الكنيسة وأجرت حوارًا وتفادت العداوة واعترفت بالإسلام واعترف الإسلام بها، تلك هي ما حدث مع نصارى نجران.
وكان لنصارى نجران (باليمن) وضع مميز ولها كنيسة بأساقفتها وقسسها ولها علاقات وثيقة بالعالم المسيحي. وعندما ظهر الإسلام أرادوا تنظيم «مباهلة»، أي ما يشبه المناظرة، وذهبوا للمدينة وقابلهم الرسول وأنزلهم بالمسجد وأقاموا فيه صلواتهم، ولكنهم كانوا قد فكروا في عواقب هذه «المباهلة» وما ستجره من عداوة، فسألوا المسلمين: ألا تقولون إن المسيح كلمة الله ألقاها إلى مريم وروح منه وأن الله تعالى أيده بروح القدس؟ فرد المسلمون : بلى. فقالوا حسبنا هذا، وطلبوا من الرسول أن يرسل معهم أحد أعوانه فأرسل معهم أبو عبيدة.
إنه لمن المؤسف أن هذه الواقعة لم تتكرر، وظل موقف الكنيسة عدائيًا وأرسلت المبشرين لتحويل المسلمين، كما فتحوا المدارس والمستشفيات ذات الطابع التبشيري، وحتى في الدول الإسلامية التي يعيشون فيها في ظل الحرية الإسلامية، فإنهم لم تبدر منهم بادرة اعتراف بالإسلام.
هذا السجل الطويل المتصل للتعصب، والعداوة والحروب التي أثارتها المؤسسات الدينية ما بين بعضها بعضًا، وما بينها وبين الإسلام، كانت وراء تنديد القرآن برجالها، وقد اعتبرهم القرآن وليس المسيحية أو اليهودية، أو حتى المسيحيين واليهود هم المسئولين عن هذا الصراع واتهمهم بأمرين:
الأول : أنهم « ِنَّ كَثِيراً مِنْ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ» وهو أمر يؤكد ثروة الكنيسة وما لجأت إليه في بيع «صكوك الغفران»، وما احتازته من أوقاف أو هبات.
والثاني : أنهم « ُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ»، وقد أوضحنا أن طبيعة العمل العام تجعل للمؤسسة مصلحة خاصة بها غير مصلحة الدين، بل ومخالفة له في بعض الحالات، فليس من الغريب أن يحدث هذا التحريف سواء في عرض صورة الله أو في استحواذهم على سلطات. وهذا في الحقيقة لا يمس المسيحية، بل هو يبرئها، ويوقع المسئولية على المؤسسة الدينية. ومما يؤكد ذلك أن الكتب المقدسة كانت تكتب باليد قبل أن تظهر المطبعة بمئات السنين، وأن التوراة والإنجيل تعرضت لعملية ترجمة من العبرية التي كانت قد انطمست إلى اللغة اليونانية التي كانت لغة الثقافة في الإسكندرية في الترجمة السبعينية التي نقح فيها الفيلسوف اليهودي «فيلون». ومن هذا التاريخ السحيق وقد تعددت الترجمات حتى التي وضعها «مارتن لوثر». ويعترض المسيحيون بشدة على هذه النقطة، مع أنها ليست إلا ذكرًا لوقائع تاريخية، وهذا لم يحدث بالنسبة للمسيحية واليهودية فحسب بل حدث في أديان أخرى وحدث هذا في الإسلام بالنسبة للسُـنة التي لم تدون إلا بعد مائة سنة من الهجرة، وإن كان القرآن قد نجا من هذه الظاهرة لأنه دون بعد خمسة عشر عامًا من الهجرة، وكان قبلها محفوظاً في الصدور مكتوبًا في رقاع متفرقة.
الأديان لا ينسخ بعضها بعضًا ولكن يكمل بعضها بعضًا(1)
لله درك ، يا فضيلة الشيخ المفكر فيما ذكرت من غزيرعلمك وعمق فكرك وسعة ثقافتك ، وشجاعة الرأي وقوة الحجة التى تواجه بها جحافل الظلاميين والمتحجرين والمتعصبين بسبب الجهل وعقد النقص والعجز عن لفهم والقدرة على التفكير .
هذا ما أعلق به عن عجالة ، ولكنني سأضيف اليه الكثير اذا ما اتسع المجال . وتحية حارة ودعاء صادقا لك بوافر الصحة والمزيد من العطاء .
فاضل
لقد حجرت واسعا ياهذا
اليك يامن تعدي بدعاة تقسيم الحق قال تعالى ودو لو تدهن فيدهنون وقال سيد المرسلين والذي نفسي بيده لايسمع بي احد من هذه الامه ثم لم يؤمن بي الادخل النار وقال تعالى ان الدين عند الله الاسلام.واعلم انك تخالف اساس رساله من تدعي انك من امته