إن الحكومة اللبنانية، إذ تأخذ بعين الاعتبار أن أي حل للمعضلات الداخلية التي تعصف بلبنان، والتي تفاقمت بفعل الحرب الأهلية المتمادية منذ عقود، ومهما كانت طبيعة تلك المعضلات، اجتماعية أو اقتصادية أو ثقافية أو تنموية أو إدارية، الخ. ينبغي إن يبدأ من حل الأزمة السياسية التي تستولد كل الأزمات الأخرى أو تتأثر بها.
وإذ تأخذ بعين الاعتبار أن الحد من وطأة التعقيدات الاقليمية والدولية يبدأ، هو الآخر، من بوابة الحل السياسي للأزمة اللبنانية.
وإذ تأخذ بعين الاعتبار أن بداية الطريق إلى الحل السياسي هو تحصين الوضع الداخلي من أجل إعادة بناء الوطن والدولة.
وحتى لا يكون البيان الوزاري نسخة شبيهة بكل البيانات الحكومية السابقة، وحتى لا تكون عناوينه تكرارا رتيبا لعناوين التنمية والتربية والسياسات الاجتماعية والثقافية والمالية والاقتصادية، الخ.
لذلك نقترح أن يقتصر البيان على النقاط الثلاث التالية التي نعتبرها مدخلا إلزاميا لكل الحلول التفصيلية:
أولا: في عروبة لبنان
انطلاقا مما أقره الدستور اللبناني، ومما كرسه نضال اللبنانيين، منذ ما قبل مرحلة الاستقلال وحتى تحرير التراب اللبناني من الاحتلال الاسرائيلي، لم يعد مبررا أن تظل هوية لبنان العربية موضوعا لصراع القوى السياسية في الداخل أو لمساومات وتسويات بين القوى الخارجية، بل لم يعد من المبرر أن تبقى معايير العروبة والالتباسات المحيطة بمضامينها على حالها بعد أن أغنى اللبنانيون بتضحياتهم مضمون الالتزام بالقضايا القومية كلها وبالقضية الفلسطينية على وجه الخصوص,
وبمقدار ما كانت تضحيات اللبنانيين سبيلا لتكريس انتماء لبنان إلى العروبة وإلى القضايا القومية للشعوب العربية، فهي كانت، قبل ذلك وبعده، دفاعا عن لبنان، و عن حقه في أن يكون وطنا نهائيا لجميع أبنائه.
لقد توج اللبنانيون تلك التضحيات بانتصارهم الكبير على جيش الاحتلال الاسرائيلي وصار يحق لهم أن يؤرخوا بهذا الانتصار نهاية المرحلة التي كانت فيها القوى الاقليمية والدولية تستضعف لبنان وتستخدمه ساحة لصراعاتها، و كانت القوى السياسية اللبنانية، على اختلاف مشاريعها، تستسهل استدراج الخارج لمصلحة هذه المشاريع و ضد مصلحة الوطن. لقد صار من واجب الحكومة اللبنانية أن تحمي هذا الانتصار وتحمي جميع العوامل التي ساعدت على تحقيقه، ولاسيما العامل الذي هو في أساس انتصارنا و كل انتصار محتمل، نعني وحدة اللبنانيين، مقاومة وجيشا وحكومة وأحزابا ومؤسسات مجتمع مدني، تلك الوحدة التي كان ينبغي أن تكون نقطة انطلاق صلبة لإعادة بناء الوطن والدولة؛ وأن تحمي على نحو خاص المقاومة الشجاعة ومقاتليها فتساعدها على أن توظف طاقاتها ما بعد التحرير في عملية إعادة بناء الوطن وبسط سيادة الدولة على امتداد الحدود اللبنانية وفوق كل الأراضي اللبنانية وعلى كل المواطنين وكل المقيمين على هذه الأراضي.
لقد بات علينا أن نحمي مقاومة الشعب اللبناني من نفسها، أي من نزوعها الطبيعي، بحكم امتلاكها السلاح، إلى بناء سلطة خاصة بها على حساب سلطة الدولة، ونحميها من أن تتحول إلى مقاومة فئوية ومذهبية ومناطقية، فتفقد إذذاك مبرر وجودها وتغدو مطمعا للتوظيف من قبل القوى الخارجية في مصلحة هذه القوى ولغير مصلحة الوطن، وتغدو مادة للصراع بدل أن تكون رمزا للوحدة.
كما بات من واجب الحكومة اللبنانية أن تحسم الجدل حول العلاقات الوثيقة التي ينبغي أن تقام مع الشقيقة سوريا، كجزء من علاقات لبنان مع سائر البلدان العربية الأخرى،من موقع الاحترام المتبادل لسيادة كل بلد وحريته واستقلاله، وخصوصا من موقع الإقرار العملي، من جانب القوى السياسية اللبنانية أولا، وبالتالي من جانب النظام السوري، بأن من حق اللبنانيين أن يكون لهم وطن ودولة، وطن هو الوطن النهائي لجيمع أبنائه، ودولة هي الدولة الديمقراطية البرلمانية، الدولة التي يتوجب عليها أن تحترم علاقات التاريخ والجغرافيا والعادات والتقاليد والثقافة والروابط الاجتماعية والعائلية التي تجمع لبنان إلى سوريا، وأن تعمل على جعل هذا الاحترام متبادلا وشاملا الدولتين في لبنان وسوريا وشاملا ايضا القوى السياسية في كل منهما.
ثانيا : في إعادة بناء الوطن والدولة
أثبتت المراحل المتعددة من تاريخ لبنان، منذ الاستقلال إلى اتفاق الدوحة، مرورا بالحرب الأهلية واتفاق الطائف، أن التسويات الداخلية التي أقامت النظام السياسي على أساس المحاصصة آلت كلها إلى استيلاد الحروب والنزاعات، تحت شعارات مختلفة، كلها سامية الأغراض والأهداف، لكنها جميعها لم تصب الهدف المنشود، وهو تخليص لبنان من بؤرة التوتر الدائمة الملازمة لنظامه السياسي، نعني بها المحاصصة، أي الصيغة التي كانت تستظل التنوع الطائفي في لبنان فتجعله وبالا ونقمة بدل أن يكون مصدرا غنيا من مصادر ثروتنا الوطنية. وإذا كان تكرار الفشل يعود إلى تكرار الأسباب، فإن تجدد مخاطر الحروب الأهلية ناجم من تجدد صيغة المحاصصة في النظام السياسي التي، باسمها تتوزع سيادة الدولة على سيادات ممثلي الطوائف والأحزاب الطائفية، وعلى القوى والزعامات المحلية، وعلى القوى الأجنبية ومواقع نفوذها الداخلي. لذلك ترى الحكومة اللبنانية أن المخرج من هذه الدوامة هو في العمل على بناء دولة القانون والمؤسسات بديلا من كل صيغ المحاصصة المجربة أو المتخيلة، التي بلغت أسوأ مراحلها في آليات تشكيل هذه الحكومة.
إن أول ما ينبغي أن تقوم به هذه الحكومة هو الشروع في تعميم ثقافة سياسية تحمي الوطن والدولة من الإساءة إلى مفهوم الدولة ومن الالتباس المعمم بين مفهومي الدولة والسلطة. وأول ما ينبغي الاهتمام به، على هذا الصعيد، هو إقناع الناس والقوى السياسية بأن الدولة شخصية معنوية وأنها هي شيء والسلطة شيء آخر، وأن أفضل تجسيد لها، إن صح تجسيدها، هو القانون، فسيادة القانون هي هي سيادة الدولة، وسيادة الدولة هي هي سيادة القانون.
إن غياب هذه الثقافة السياسية قد يكون أحد الأسباب التي تدفع كل ذي مطمع بلبنان من القوى الخارجية، وكل طامع في سلطة من القوى الداخلية، أن يقتطع من سلطة الدولة حصة له، في منطقة جغرافية أو إدارية أو طائفية أو في وزارة أو في قضية، ما يشجع على طروحات تتنوع في اساليبها وأهدافها المعلنة، لكن نتيجتها واحدة، وهي الانقسام الوطني على أساس طائفي أو مذهبي أو على أساس القضايا السامية التي ينبغي أن تكون عامل توحيد للبنانيين لا عامل انقسام وتناحر وتنابذ وحروب أهلية كامنة ومتجددة.
دولة القانون هي دولة اتفاقية الطائف ودستورها. الدولة التي يشعر المواطن فيها أنه تحت سلطة القانون وتحت حمايته وحده ودون سواه من حمايات الطوائف والأحزاب والقوى الإقليمية والدولية. وهي الدولة التي يسود فيها القانون على امتداد حدود الوطن وعلى امتداد مساحته الجغرافية. من هنا تجد الحكومة أن من أولى مهماتها العمل على بسط سيادة القانون فوق كل الأراضي اللبنانية وإلغاء المربعات الأمنية الفلسطينية أولا ثم اللبنانية، مع استثناء المخيمات الفلسطينية وسلاح المقاومة اللذين يحتاجان إلى معالجات سياسية أكثر تعقيدا من مجرد بسط سيادة القانون. وفي إطار هذه المهمة يصبح من الملح تعزيز سلطة القضاء وحماية استقلاليته وتحصينه ليكون اليد الساهرة على تطبيق القانون في حق كل المنتهكين والفاسدين.
كما أن على الحكومة أن تبادر إلى فتح نقاش صادق وصريح حول التعديلات الضرورية على الدستور والقوانين اللبنانية، بما يؤمن أفضل الظروف لتحقيق الاستقرار السياسي ولتأمين استمراره.
ثالثا: تعديل قانون الانتخابات
إن تعديل قانون الانتخابات النيابية هو المدخل السليم في عملية الاصلاح السياسي، ولا سيما بعد أن صارت الانتخابات، في ظل القوانين المعتمدة، ساحة للمبارزة وقياس الأحجام فحسب، لا تحترم فيها حرية المواطن ولا يؤخذ بنتائجها، بل تستخدم مطية لإلغاء المواطنية والمؤسسات والدولة، الخ. كل ذلك يجعل مهمة تعديل قانون الانتخاب بمثابة حجر الزاوية في عملية الإصلاح السياسي كلها، ولن تنطلق الحكومة الحالية فيه من فراغ، بل هي ستكمل وتطور ما بدأته وتوصلت إليه الحكومة السابقة.
لقد بات من الثابت أن مبدأ النسبية هو ما تجمع عليه القوى السياسية اللبنانية، كما بات من الثابت أن سلبيات القوانين الانتخابية السابقة تكمن في كونها قوانين تلتف على الديمقراطية وتلغي مفاعيلها وتلغي الخيار الحر لدى المواطنين في اختيار ممثليهم، وتلغي مواطنية اللبنانيين وتحول انتماءاتهم إلى انتماءات مذهبية وطائفية. لذلك ترى الحكومة اللبنانية أن المدخل إلى الإصلاح هو إقرار نظام انتخابي يقوم على النسبية و يعتمد لبنان كله دائرة واحدة، مع الحفاظ على القيد الطائفي، حتى لا تطغى طائفة على أخرى، إلى أن يتمكن المجلس النيابي من تنفيذ البند المتعلق بإلغاء الطائفية السياسية. إن مثل هذا القانون الانتخابي من شأنه أن ينفس الاحتقانات التي كانت تنجم عن الانتخابات في المرات السابقة، أو التي كات تتسبب بها تلك الانتخابات، ومن شأنه أن يشكل أساسا صالحا لترسيخ قيم الديمقراطية والتناوب على السلطة والفصل بين السلطات وبناء دولة المؤسسات. كما من شأنه أيضا تأمين الظروف الصالحة لتجديد الحياة السياسية بما يتلاءم مع تطورات العصر، والظروف الصالحة كذلك لإجراء كل الإصلاحات الأخرى الضرورية في الدستور والقوانين.