ألقى الملك محمد السادس، قبل زهاء شهر، عن موعد إجراء الانتخابات التشريعية القادمة، حجرا كبيرا، حسبما ما يبدو، في البركة السياسية المغربية الراكدة والآسنة.
كيف لا، وقد عمد إلى إقالة (تم إخراج الأمر على أنه استقالة) كبير معاونيه، ضمن الكوكبة الأوليغاشية الضيقة للحكم، ونعني به فؤاد علي الهمة، حيث غطى المُستجد إياه على كافة مجريات الأمور، بدءا بموعد استئناف المفاوضات مع البوليساريو (كان يترأس وفدها المفاوض علي الهمة نفسه) الذي حل يوم الجمعة الماضي، ناهيك عن الترتيبات الحكومية والحزبية إعدادا للانتخابات القادمة، التي سيحل موعدها يوم السابع من سبتمبر المقبل. حيث أن الطبقة السياسية بكل مكوناتها، تركت كل ما كان في يدها من انشغال واهتمام، لتفغر أفواهها أمام المستجد المخزني الجديد.
لم يعد ثمة أي شيء يستحق الاهتمام، عدا “استقالة الهمة” لتنطلق العقول والألسن، في محاولة قراءة المستجد إياه، وكل يدَّعي أنه يقول ما يقوله، انطلاقا من معرفة دقيقة بعقلية المخزن. فمن قائل أن لغة “الاستقالة” محبوكة بأسلوب مخزني معروف قوامه، صرف “ظريف” للمعني، من حظوته كرجل ثان في هيكل النظام، وذلك بعد “غلطة” فادحة قد يكون اقترفها، وسيكون أمامه عبور إجباري لصحراء “وجودية” عقابا له، قبل أن يعود سيرته الأولى، معزِّزين رأيهم، بأن هذا النمط “التدبيري” كان دائما من دأب المخزن، ومقدِّمين أمثلة حديثة، وقديمة، من مثل ما حدث لمدير ديوان محمد السادس، قبل بضع سنوات، رشدي الشرايبي، حيث تمت “مكافأته” على غلطة شخصية بإبعاد غير ظريف تماما، من زمرة الحكم الملكي الأوليغارشي، بعدما كان “زميله” وغريمه في ذات الآن “علي الهمة” قد أفلح، في إيغار صدر الملك عليه. وكان ما كان من رحلته الصحراوية الوجودية، لكنه عاد في نهاية المطاف، إلى مهمته في الديوان الملكي “ذلك – يقول أحد العارفين – لأن المخزن لا يُفرط أبدا في أبنائه” مضيفا: “صحيح، فهو قد يسومهم سوء العذاب، لكنه لا يُفرِّط فيهم إطلاقا، وهذه نقطة قوة، يتفوق بها الحكم المخزني في المغرب، على كل التشكيلات السياسية” ( أنظر مقالنا: ” الصراع في بلاط الملك محمد السادس: البقاء لـ … لأكثر مكرا ” في مكان آخر من موقع “الشفاف”).
أصحاب هذا الرأي، يستدلون أيضا بما سبق أن حدث للملك الحسن الثاني، مع صديقه الصدوق، وركيزته الأساسية في تدبير شأن الحكم، أحمد رضا اكَديرة. وكان الخلاف بين الملك وصديقه، مرتبطا بتدبير أمر الانقلابيين العسكريين، في بداية سبعينيات القرن الماضي، حيث كان الملك يرى ضرورة إنزال أشد العقاب بهم (إعدامات، أحكام طويلة بالسجن، وحبس في أماكن مجهولة: تازمامارت..) في حين كان رضا كَديرة رأي غير ذلك، انطلاقا من قناعته بأن “حرمان الناس من الحرية” هو ما أدى إلى الحدثين الانقلابين (سنتي 1971 و 1972) وبالتالي وجوب إحداث انفراج بترك القضاء – وهو في وضع مستقل حقا – يقول كلمته في الانقلابيين، مع مراعاة حق المتهمين في محاكمة عادلة. لم يصل الملك وصديقه حينها إلى كلمة سواء، فكان الشقاق ثم البعاد، حيث عبر مستشار الملك ووزير داخليته، وقبل هذا وذاك، صديقه الحميم، صحراءه الوجودية، الطويلة، قبل أن يعود سيرته الأولى في كنف المخزن، ويتفرغ لسرقة المال العام، وحبك الدسائس ضد الذين ازورُّوا عنه في محنته.
يرد آخرون، على المستشهدين بما وقع بين الحسن الثاني واكَديرة، بالقول: “كيف تقارنون بين ما حدث لمحام كبير ومثقف وإعلامي ذكي، واسع الاطلاع، وسياسي محنك، مثل رضا اكَديرة، مع الحسن الثاني، بما يُمكن أن يكون قد وقع، بين محمد السادس، وصديقه فؤاد علي الهمة، مضيفين: إن هذا الأخير يستطيع بالكاد أن يرتجل بضع عبارات مختصرة، بواحدة من اللغتين العربية والفرنسية، خلال اللقاءات الرسمية، فكيف أن يكون له رأي عتيد، يُخالف به أوامر سيده وولي نعمته الملك؟
أصحاب هذا الطرح يقولون بأن الأمر يتعلق بنزوة غضب – وما أكثر مثيلاتها – من طرف الملك على ساعده الأيمن في الحكم. والسبب؟
هنا تتضارب الآراء، فمن قائل أن “الهمة تجاوز حدوده، بالتدخل في شؤون صغيرة، لتأكيد سطوته العَرَضِية والعميقة، في دواليب الدولة، إلى قائل بأنه – أي الهمة دائما – لم يستسغ صفعة، أو لكمة، من ولي نعمته (وهذا أمر كثير الحدوث من الملك المغربي تجاه مساعديه الأقربين) وقد يكون عبَّر بشكل من الأشكال، عن رفضه لهكذا سلوك، مما جرَّ عليه “الاستقالة” الاضطرارية… إلى غيرها من الروايات، الأقرب من التخمين، والأبعد عن اليقين.
وفي الضفة المقابلة، أي غير المتفقة مع هذه التخمينات “الكواليسية” نجد أصحاب “التحليل السياسي” للحدث، الذين يرون أن الملك الذي أضجرته سكونية المشهد السياسي، وفتور الحماس حزبيا وشعبيا، تجاه موعد الانتخابات القادمة (عبَّر عن ضجره هذا، بشكل صريح في خطابه الأخير) أراد أن يمنح حدثا “جديرا بالاهتمام” للطبقة السياسية، ومجالس الحديث بمختلف مستوياتها، الشعبية والرسمية، ليرتفع تيرمومتر التكهن والمضاربة، من قبيل: “هل سيكون الفوز حليف فؤاد الهمة في الانتخابات القادمة، وبالتالي يكون أهلا لمنصب وزير الداخلية، أم الأكثر من ذلك، سيتم إلباسه قبعة سياسية لتوليته منصب الوزير الأول، ضمن أغلبية برلمانية تتم فبركتها، بتواطؤ بين الملك والطبقة الحزبية، المنتمية للأغلبية الحكومية الحالية، وذلك لقطع الطريق على حزب العدالة والتنمية الإسلامي “المعتدل”؟
وإذا كان ذلك سيجري على هذا النحو – يتساءل المخمنون، عفوا المحللون، في هذا الاتجاه – فماذا سيكون مصير طموح الأحزاب التقليدية، نظير “الاستقلال” و”الاتحاد الاشتراكي”، اللذين يعضّ أميناهما العامان، بالنواجذ على أحد وعود الملك، المتمثل، في أن الوزير الأول القادم سيكون سياسيا لا تيقنوقراطيا، أي منحدرا من أحد أحزاب الأغلبية؟ وبالتالي فركهما لأيديهما، منذ مدة غير يسيرة.
هكذا تتناسل “التحليلات” والتكهنات والتخمينات، وفي أثرها توقعات جديدة، و”طموحات” شرهة لدى الطبقة السياسية. ومن الأولى، أن كلاما يشيع في الصالونات الحزبية عن وجود تنسيق وثيق، بدأ منذ مدة، بين فؤاد الهمة و “اليساريين التائبين” (الموزعين على دستة أحزاب صغيرة، بقادتها الممروضين الممعودين، من الحرب، التي كانت قد شنتها عليها أحزاب الأغلبية الحكومية الحالية، بغاية حرمانها من المشاركة في الانتخابات القادمة، خلال مناقشة مشروع القانون المنظم لهذه الأخيرة) الذين يطمحون للعب أدوار سياسية أساسية، عقب اقتراع السابع من سبتمبر القادم، وبالتالي عملية التنسيق مع الدولة في شخص صديق الملك “الهمة” من أجل أن يكون عرابا لحكومة قادمة، أي وزيرا أول، في المحتمل، أو وزيرا للداخلية في المرجح.
أما من الثانية – أي الطموحات الشرهة – فإن أحزاب الأغلبية الحكومية، تخوض نزاعا صامتا من أجل الظفر بـ”شرف” منح تزكية الترشح للانتخابات، لصديق الملك. ومن ذيول هذه المعركة الساخنة – الباردة أن حزب “الاتحاد الاشتراكي” عبَّر عن امتعاضه، من الإشاعات التي تناسلت خلال الساعات القليلة الماضية، حيث تُرِك يروج بين الناس أن “الهمة” سيتقدم للانتخابات تحت يافطة حزب “التجمع الوطني للأحرار”.. الحزب الذي كان قد أنشأه الملك الحسن الثاني، في سنة 1977 لكسر الشوكة الانتخابية لحزبي الاستقلال، والاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية.
هكذا تسير الأمور السياسية في بلد المملكة الشريفة، حيث ما زال “المخزن” يصنع الحدث السياسي، فهو يعرف عبر تجربته الطويلة، في صنع المشهد السياسي، أن امتلاكه لزمام المبادرة، يمنحه قصب السبق، في حبك وطبخ، الشكل السياسي المريح لنوع حكمه، الشمولي، ويبدو من خلال المستجد الجديد: “استقالة الهمة” أن “الوصفة” ما زالت صالحة، بل وأمامها أوقات أخرى جميلة قادمة.
mustapha-rohane@hotmail.fr