– “الشفّاف”، بيروت
مع اقتراب موعد إقفال باب الترشيحات في السابع من نيسان المقبل بدأت الحماوة الانتخابية. واللافت أن هذه الحماوة هي مسيحية بامتياز، إذ خارج الدوائر المسيحية تكاد الحركة الانتخابية تكون معدومة، لأن المعارك في الدوائر الإسلامية شبه محسومة عمليا، ما يثبت مقولة أن الصوت المسيحي هو المرجح والحاسم والمقرر. واللافت أيضا أن مسيحيي 14 آذار، وبعد انكفاء وتردد طويلين وغير مبررين، استعادوا في عطلة نهاية الاسبوع المنصرم المبادرة السياسية-الانتخابية بشكل مفاجئ ومهم في آن، إن من خلال إطلاق نداءي زغرتا وكسروان أو عبر توجه الدكتور سمير جعجع إلى مدينة زحلة، وقد وصفت خطوته بـ”ضربة معلم”، أو من خلال إعلان أمين عام قوى 14 آذار الدكتور فارس سعيد ترشحه عن المقعد الماروني في جبيل في لقاء شعبي حاشد وكلمة سياسية جددت التأكيد على ثوابت 14 آذار.
إن استعادة المسيحيين دورهم التاريخي على المستوى الوطني، هذا الدور الذي حوّره النائب ميشال عون عن مجراه الطبيعي لإبقاء لبنان ساحة مستباحة لسوريا وإيران، شرطه الأساس عودة الوزن الانتخابي-السياسي لمسيحيي 14 آذار، أي إثبات حيثيتهم التمثيلية في الدوائر المسيحية. وهذا الأمر غير ممكن ما لم يصار إلى استنهاض الرأي العام المسيحي على أساس خيارات وطنية واضحة المعالم، وتحويل المعركة الانتخابية معركة سياسية بين خيارين ومشروعين.
معركة المسيحيين اليوم تكمن في استرداد قرارهم السياسي الذي اختطفه عون في العام 2005 تحت عناوين وشعارات سيادية ونَقَلَه، أي نقلَ قرار المسيحيين، من قلب الشرعية اللبنانية والشرعيتين العربية والدولية إلى محور دمشق-طهران الذي يريد استخدام لبنان لتحسين دفتر شروطه في المفاوضة مع الولايات المتحدة الأميركية. فالعنوان الأساسي للمعركة، إذاً، إثبات أن خيار عون مرفوض من المسيحيين، وأن خيارهم، كما دائما، هو الدولة لا الدويلات.
لا يمكن الحديث عن شراكة فعلية وليس صورية بين المسيحيين والمسلمين قبل إسقاط الحالة العونية وعودة المسيحيين رأس حربة في الدفاع عن مشروع الدولة في لبنان. وأي كلام عن الشراكة قبلذاك هو كلام حق يراد به باطل. لأنه إذا كانت الشراكة في غياب السيادة مستحيلة، فهي كذلك مستحيلة في غياب وحدة الموقف المسيحي وليس الصف بطبيعة الحال، لأن ما يميز البيئة المسيحية هو تنوعها السياسي. أما المقصود بوحدة الموقف فهو أن تفرز الانتخابات القادمة أكثرية مسيحية يكون توجهها السياسي، على غرار توجه الأكثريتين السنية والدرزية، محسوما باتجاه خيار 14 آذار.
ثمة فرصة نادرة يقتضي بالمسيحيين التقاطها بغية حسم الالتباس السياسي الناشئ من الانتخابات السابقة ونزع رداء الإحباط والاستقالة من الحياة السياسية واستعادة دورهم المحوري والريادي على المستويين اللبناني والعربي. فالظروف الموضوعية والذاتية التي دفعت المسيحيين إلى الانكفاء بشكل أو بآخر في العام 2005 عن معركة تثبيت السيادة والاستقلال، ودفعت المسلمين في المقابل إلى تصدر وقيادة المواجهة السيادية، لم تعد هي نفسها. ليس فقط من زاوية أن وضع مسيحيي 14 آذار اختلف عما كان عليه بعد انتخابات 2005، وأن هذا الفريق استعاد حيويته السياسية المعهودة، إنما من زاوية أن المعركة النيابية داخل المناطق المسيحية غير مرتبطة بهواجس أمنية خلافا للوضع على الساحة الدرزية بعد أحداث السابع من أيار الماضي ومحاولة حزب الله اجتياح جبل لبنان الجنوبي، وغير مرتبطة أيضا بأجندة وحسابات إقليمية خلافا للوضع على الساحة السنية التي يستحيل عليها فصل وضعها في لبنان عن عمقها العربي وتجاهل مناخ المصالحات والتهدئة القائمين.
الاستهداف المنهجي الذي تعرض له المسيحيون على يد السوريين بين عامي 1990 و2005 انتقل بين 26 نيسان 2005 و7 أيار 2008 إلى الجناح المسلم داخل 14 آذار لأنه أخذ على عاتقه الاستمرار في معركة السيادة بعد انكفاء المسيحيين نتيجة الصفقة التي أبرمها عون مع السوريين. وبالتالي، إن مجرد إسقاط الجناح المسلم يعني العودة إلى ما قبل الانسحاب السوري من لبنان. ولكن عندما تبين للنظام السوري أن كل محاولاته لإسقاط السرايا الحكومية بالتظاهرات والاعتصامات حينا والسلاح أحيانا باءت بالفشل، نظرا للامتدادات الإقليمية لتيار “المستقبل” التي توفر له المظلة الواقية لوجوده، انتقل مجددا إلى الساح المسيحية، وهو يعتبر أن محطة الانتخابات النيابية مفصلية في هذا السياق، باعتبار أن انتصار فريق 14 آذار يعني إقفال الساحة اللبنانية أمام عودته السياسية والعسكرية وتطويق وعزل حلفائه في لبنان، بينما انتصار فريق 8 آذار يعني استعادة سوريا للـ”الورقة” اللبنانية.
إن مصيرية المعركة مردها إلى رفض اللبنانيين عودة عقارب الساعة إلى الوراء، وبالتالي على رغم الهواجس الأمنية للنائب جنبلاط والحسابات الإقليمية للنائب الحريري، ثمة تفويض، ولو غير معلن، من جانب مسلمي 14 آذار لمسيحيي الانتفاضة من أجل استكمال معركة الاستقلال وحسم الازدواجية القائمة بين الشرعية واللاشرعية، وخصوصا أن الصوت المسيحي هو المرجح في الاستحقاق المقبل. ومن معالم هذا التفويض الخروج في مؤتمر “بيال 2” ببرنامج سياسي موحد حدد بشكل واضح عنوان المعركة بـ”العبور إلى الدولة”، أي تحويل المعركة من مناسبة لتحديد أحجام الأحزاب السياسية والزعامات المسيحية، إلى مناسبة لتحديد حجم التيار الاستقلالي على مستوى الوطن. ولا يبدو أن المسألة ستقتصر على البرنامج السياسي المشترك، على أهميته، إنما ستتوج في اللوائح الموحدة ومن خلال تضمين هذه اللوائح لا سيما في المناطق المختلطة والمشتركة مسيحيين حزبيين ومستقلين يجسدون الشراكة بين مكونات انتفاضة الاستقلال.
ما حصل في اليومين الأخيرين من نداءات ولقاءات سياسية ما هو إلا بداية وسيعيد خلط الأوراق والحسابات بدءا من جبل لبنان الشمالي مرورا بشمالي لبنان وصولا إلى زحلة، لأن الدينامية السياسية الاستنهاضية للشارع المسيحي التي تم إطلاقها من قبل مسيحيي 14 آذار لن تعرف الراحة قبل حسم الانتخابات وربحها في السابع من حزيران المقبل.
charlesjabbour@hotmail.com