تُشير استطلاعات الرأي الأخيرة إلى بروز شعور قوى بالوحدة الوطنية لدى الكثير من الإسرائيليين وذلك في أعقاب هجوم حماس. ورغم أن ثقة المواطنين في القيادة السياسية لا تزال منخفضة، إلا أن ثقتهم في الجيش والشرطة بشكل عام ما زالت مرتفعة.
في خضم كل المستجدات المروعة الواردة من إسرائيل وغزة، تبرز نقطة بيانات جديدة مهمة: أظهر استطلاع ذو مصداقية عالية أجراه “المعهد الإسرائيلي للديمقراطية” أن نسبة اليهود الإسرائيليين الذين يقولون إنهم “متفائلون” اليوم بشأن مستقبل بلادهم قد ارتفعت في الواقع بشكل كبير منذ الهجوم الإرهابي المفاجئ الذي شنته حركة “حماس” في 7 تشرين الأول/أكتوبر، لتبلغ 66 في المئة، مقارنةً بنسبة 52 في المئة في حزيران/يونيو 2023.
تطرح هذه النتيجة غير المتوقعة إلى حد كبير أربعة أسئلة مهمة على الأقل.
أولًا، ما الذي قد يفسر هذه النتيجة اللافتة؟ من شبه المؤكد أن الحرب المفاجئة جددت حس الوحدة الوطنية والتضامن الاجتماعي لدى الكثير من اليهود الإسرائيليين، فحلّ محلّ الانقسامات العميقة حول “الإصلاح” القضائي التي كانت سائدة في البلاد طوال العام السابق.
ثانيًا، ما مدى صحة هذه النتيجة؟ تبدو هذه النتيجة صائبة للغاية لعدة أسباب، أولها أن النتائج الأخرى في الاستطلاع عينه ترسم صورة أكثر دقة، وبالتالي أكثر مصداقية، للرأي العام الإسرائيلي. على سبيل المثال، في أعقاب هجوم “حماس” المفاجئ مباشرة، تراجعت الثقة العامة في الحكومة الحالية لدى اليهود الإسرائيليين والعرب الإسرائيليين إلى أدنى مستوياتها منذ عشرين عامًا، وبلغت 14 في المئة فقط. ولم يحرز رئيس الوزراء نتنياهو ووزير الدفاع غالانت سوى نتائج أفضل بقليل، وسجّلا 22 في المئة و35 في المئة على التوالي.
لكن الثقة في القوات القتالية في الجيش الإسرائيلي لا تزال مرتفعة عند 87 في المئة. كما أن ثقة الجمهور في الشرطة الوطنية الإسرائيلية، التي تغلبت على انقساماتها السابقة لتساعد في الدفاع عن المدنيين الإسرائيليين في الكثير من البلدات المتاخمة لغزة، ارتفعت بشكل ملحوظ لتبلغ 59 في المئة في تشرين الأول/أكتوبر مقارنةً بـ 35 في المئة فقط في حزيران/يونيو.
تدعم هذه النتائج أيضًا نتائج استطلاع آخر جديد ذي مصداقية أجراه “منتدى الشرق الأوسط” وشركة Direct Polls Ltd، ويُظهِر إجماعًا واسعًا بنسبة 70 في المئة، ولكن ليس كتلة متجانسة بما يثير الريبة، يؤيّد هدف إسرائيل المعلن المتمثل في “القضاء على “حماس” بالكامل”، بدلًا من مجرد “نزع سلاحها” أو تحرير المئات من الرهائن الإسرائيليين والأجانب. ومن اللافت للنظر أن تأييد الأغلبية هذا يشمل حتى 54 في المئة من الإسرائيليين الذين صوتوا لصالح حزب سياسي عربي في الانتخابات الوطنية الأخيرة.
وبعيدًا عن استطلاعات الرأي، تدعم أدلة دامغة إضافية هذه النتائج أيضًا. فالاحتجاجات الحاشدة الأسبوعية في الشارع ضد حكومة نتنياهو توقفت. في الواقع، انتقل ما يقدر بحوالي 15 ألفًا من منظمي الاحتجاجات فجأةً إلى التطوع وتقديم المساعدات الإنسانية الطارئة لربع مليون مواطن إسرائيلي من النازحين والجرحى والمفجوعين. وقد التحق ما يقارب 400 ألف من جنود الاحتياط، ومن بينهم الكثير ممن احتجوا سابقًا ضد حكومتهم، بالخدمة العسكرية. كما تم تجنيد أكثر من 2000 رجل أرثوذكسي متشدد للمرة الأولى في الأسبوعين الماضيين فقط، وهذا عدد صغير نسبيًا، إلا أنه يساوي مجموع العام السابق بأكمله. وفي المدن والبلدات العربية أو المختلطة الإسرائيلية، تكاد تنعدم التقارير عن أعمال شغب طائفية على غرار تلك التي شهدها النزاع الأخير مع “حماس”، في حزيران/يونيو 2021.
أما السؤال الثالث الذي تطرحه كل هذه البيانات فيتعلق أكثر بالمنهجية، ولكنه لا يزال مثيرًا للاهتمام: هل يمكن الاعتماد منطقيًا على الاستطلاعات التي تجري في ظل ظروف حرب قاسية مماثلة؟ يتمتع المؤلف بأكثر من ثلاثة عقود من الخبرة الشخصية المباشرة في الإشراف على هذا النوع من الاستطلاعات تحديدًا، والإجابة هي نعم بشكل لا لبس فيه. على سبيل المثال، في عام 1991، عندما أطلق صدام حسين العشرات من صواريخ “سكود” على مدينة تل أبيب الكبرى، كنت رئيس قسم أبحاث الشرق الأدنى في وكالة المعلومات الأمريكية، ووجدت مستطلعًا للآراء يمكنه إجراء مسح سريع للمواقف الإسرائيلية تحت النيران. وكانت الحكومة الأمريكية ترغب في معرفة ما إذا كان الرأي العام الإسرائيلي يريد الانضمام إلى المعركة ضد صدام حسين. وتبين على نحو مثير جدًا للدهشة أنه لا يريد ذلك، بفارق حوالي اثنين إلى واحد. وعندها، ظهر وزير الدفاع الإسرائيلي موشيه أرينز في البيت الأبيض، مدعيًا أنه كان يتعرض لضغوط شعبية هائلة للرد على صواريخ “سكود” التي أطلقها الرئيس العراقي.
وبناءً على ذلك، كما أفاد توم فريدمان في صحيفة “نيويورك تايمز” في ذلك الوقت، سحب الرئيس جورج بوش الأب حرفيًا استطلاع الرأي الذي أجريته من جيبه، قائلًا: “لدي معلومات مؤكدة هنا تشير إلى الاتجاه المعاكس”. وعلى أي حال، أبطل رئيس الوزراء الإسرائيلي إسحق شامير، وهو من مؤيدي الخيارات العسكرية، قرار وزير دفاعه، فامتنع عن التدخل العسكري المباشر في العراق كما طلبت الولايات المتحدة. وتُعتبر أوجه التشابه مع الجدال الدائر اليوم حول ردّ إسرائيلي واسع النطاق ضد “حزب الله” وغيره من مصادر النيران على الجبهة الشمالية واضحة، ولكنها موضوع آخر.
رابعًا وأخيرًا، والأهم، ما مدى استمرارية هذه اللحمة الوطنية الإسرائيلية المتزايدة؟ بصراحة، لا يمكننا معرفة الإجابة بشكل مؤكد. لكن مثال أوكرانيا يشير إلى أن الوضع قد يستمر لعدة أشهر، حتى في ظل الهجوم الوحشي. وإذا اتخذت الأمور هذا المنحى، سيكون ذلك الخطأ الفادح في استراتيجية “حماس”/إيران/”حزب الله” ضد إسرائيل، ما سيمكن هذه الأخيرة من الانتصار على الرغم من التحديات الهائلة التي تنتظرها.