أصل الحكاية: مُخبر صحفي كسول، أو ربما لا يملك الوقت الكافي لإعادة النظر في ما يكتب، أرسل خبراً إلى وكالة أنباء محلية عن مقتل فلسطيني في غزة في غارة إسرائيلية فكتب: استشهاد المواطن المسن (فلان).
وبما أن الكثير مما يتبادله الناس في أربعة أركان الأرض من أخبار، وأفكار، ومواقف وتعليقات، وانطباعات، وتحليلات، ونصوص “إبداعية”، يعتمد تقنية القص واللصق، فقد نشرت الخبر نفسه، بالمفردات نفسها، إضافة إلى اسم الشخص المعني، صفحات لا تحصى على الإنترنت، ونشره أشخاص على صفحات التواصل الاجتماعي، وغرّدوا به على تويتر، ونشرته جرائد، ووكالات. وربما ورد في نشرة متلفزة.
المقصود أن تقنية القص واللصق وصفة مضمونة لبلادة الذهن، وتبلّد الإحساس، وعطالة العقل. فقد كان من الممكن تحرير الخبر، وصياغته بطريقة جديدة. وهذه التقنية، بالمناسبة، ليست سمة من سمات الأزمنة الحديثة، بل سمة لازمت الإنسان منذ ظهوره على ظهر البسيطة، ومنذ ظهور اللغة، وحتى قبل اكتشاف الأبجدية والكتابة.
الطريف في الأمر أن القص واللصق قبل اكتشاف الأبجدية والكتابة، غالباً ما وقعا بطريقة مبتكرة، نتيجة ألاعيب الذاكرة، أو جنوح الخيال الإنساني وميله إلى المراوغة واللعب. وهذا، من حسن حظ البشرية، فتح المجال واسعاً لولادة وتوليد الأساطير. أما الأبجدية فأسهمت في تقييد العقل، طالما أننا نستطيع العودة إلى النص الأصلي، إذا اختلف الرواة. والرواة، بالمناسبة، هم الأداة الاجتماعية المعنية والموكلة بعملية القص واللصق، التي اعترفت بها مجتمعات وثقافات وذكرتها تواريخ كثيرة.
المهم، ثمة علاقة بين تقنية القص واللصق (وهي كما قلنا تاريخية، وسمة ثقافية ملازمة للإنسان) والأيديولوجيا. فمن يعتنق أيديولوجيا مُعيّنة يعتقد بأنه يمتلك أداة لفتح مغاليق الكون، وما استغلق من مشاكل اجتماعية وسياسية، وثقافية، وإنسانية (وما شئت) ولكنه لا يفعل في الواقع أكثر من القص واللصق. قص أفكار شائعة، وإعادة لصقها.
أذكر، في سبعينيات القرن الماضي (وليس في القرون الوسطى) جماعة يسارية كانت تعادي في أدبياتها ما تدعوه بالثرثرة الحزبية، وتحذّر من مخاطرها وشرورها، بكثير من التسامي والاستنكار، كما يحذّر الوعّاظ من مرض الإيدز. بمعنى آخر، وصريح العبارة: كانت تعتبر قص “موقفنا” ولصقه، الوظيفة الأسمى للكادر الحزبي، الذي يحظر عليه استخدام عقله، فهو مجرد ناقل للموقف السياسي باعتباره خلاصة معرفة لا تحتمل التساؤل، أو التفكير المستقل، وإعادة النظر. وهذا موقف ديني في الجوهر.
يمكن الاستطراد في هذا السياق، بكل ما فيه من تحريض على تأمل الكوميديا السوداء، والكلام عن العلاقة بين الشمولية وتقنية القص واللصق، وكذلك الأمر بين مجتمع الاستهلاك (الذي يخلق إنساناً من بعد واحد) والتقنية نفسها.
ولكن ما يعنينا يتمثل في العلاقة بين تقنية القص واللصق، وانفجار وسائل وتقنيات وأدوات الاتصال، والحصول على المعلومات، في العالم. فما كان مقتصراً في وقت مضى على مجتمعات وشرائح بعينها بعينها، أصبح سمة سائدة على صعيد العالم كله، بفضل الكومبيوتر، والآيفون، والإنترنت، وتويتر، والفيس بوك، وما لا أعرف مما سيظهر غداً من برامج وابتكارات جديدة.
ثمة مليارات من المفردات في صفحات، واتصالات، لا تحصى. ومع ذلك، إذا اجتهد أحد في غربلة تلك المليارات سيجد أن الجديد والمُبتكر، والفردي، والمستقل فيها قليل، وما عدا ذلك قص ولصق. وهذا مخيف بشكل خاص عند التفكير في الطريقة التي يتشكّل بها الرأي العام، وفي طريقة الأفراد، وحقهم، في الحصول على المعرفة.
ومخيف أكثر عند التفكير في حقائق من نوع أن ثمة ثقافات تمثل تقنية القص واللصق بطانتها العميقة، وجهاز مناعتها الخاص، الذي مكّنها عن عبور قرون طويلة دون تحوّلات جذرية. وفي هذا السياق تبدو الثقافة العربية مرشحة طبيعية للفوز بالمركز الأوّل. وبهذا المعنى، ليس من قبيل المصادفة أن يكون القص واللصق أكثر شيوعاً في وسائل الاتصال والتواصل والتعبير باللغة العربية منه في لغات أخرى. انظروا إلى الجريدة، والتلفزيون، والفيس بوك والتويتر بالعربي..!!
كان من الممكن تفادي الآثار الكارثية لأمر كهذا (فكروا في انهيار العالم العربي، واشتعال النار في سفينة تغرق، وطفح مجاري التاريخ كلها دفعة واحدة) لو نجح مشروع التنوير العربي، ولكن هذا لم يحدث. ولسنا بصدد الكلام عن الأسباب التي حالت دونه، كل ما في الأمر أن تقنية القص واللصق تسهم في تعطيل وعطالة العقل.
لهذا السبب، وبقدر ما يتعلق الأمر بالحرب في غزة وعليها، تبدو الأفكار النقدية أقل إن لم نقل غائبة، من المقصوص والملصوق. وكل ما في الأمر، أيضاً، أن شخصاً كسولاً، أو لا يملك ما يكفي من الوقت، كتب عن استشهاد مواطن مسن، فقص خبره وألصقه ما لا يحصى من الناس دون تفكير أو تدبير. فمن يقص لا يقرأ، ومن لا يقرأ يستسهل اللصق. وفي الحالتين ثمة ما هو أبعد من استشهاد المواطن المُسن.
khaderhas1@hotmail.com