لا يقل النص الرديء، في علوم الأدب، أهمية عن النص الجيّد، وربما يفوقه أهميه، طالما تعاملنا مع الاثنين كبنية متعددة الطبقات فيها من الظاهر ما يحرّض على استكشاف المسكوت عنه.
أداة القياس، هذه، تُصلح في السياسة، أيضاً، طالما تعاملنا مع الكلام في السياسة وعنها (التصريحات، والخطابات، والبيانات، والمقابلات، والتحليلات) باعتباره نصاً يُفصح عن شيء بقدر ما يسكت عن أشياء، وباعتبار الإفصاح، كما الصمت، تجليات لأشياء أهم من نوع: كيف تتوسط اللغة في العلاقة بالذات والعالم، وكيف تمارس بنية عقلية بعينها آليات الانتخاب والإقصاء، وكيف تتخلّق استراتيجيات المعنى والتعبير.
ومن المُخيّب للآمال، بالتأكيد، أن نُمهّد بهذا كله، للتعليق على مقابلة أجرتها فضائية عربية، يوم الهجوم على مخيّم اليرموك بالطائرات، مع ناطق باسم الجبهة الشعبية ـ القيادة العامة في دمشق. ويغفر لنا، في هذا الشأن، أن ما قيل كان كلاماً في السياسة، وهذا الكلام نصٌ وإن كان رديئاً.
قال الناطق الهمام في معرض الرد على سؤال حول قصف المخيّم بطائرات بشّار الأسد: إن ما حدث اليوم يمثل اعتداء على حق العودة، ومؤامرة على اللاجئين لحرمانهم من هذا الحق. (يقصد، بهذا، دخول الجيش السوري الحر إلى المخيّم، لكنه نسي الكلام عن الطائرات، ولم ينس، بطيعة الحال، التذكير بالمؤامرة التي تستهدف سورية..الخ).
ما العلاقة بين دخول الجيش السوري الحر إلى مخيم للاجئين الفلسطينيين في دمشق وحق العودة؟ لا شيء. هذا يشبه أن تقول لشخص ماذا تقول في هطول المطر اليوم، فيرد عليك: لقد ارتفعت أسعار الملح.
هذه الفوضى الدلالية مفيدة على خشبة مسرح للعبث، ومفيدة في تحليل الكلام في السياسة وعنها، طالما حافظنا في الذهن على حقيقة أنها فوضى دلالية أولاً، وأنها لا يمكن أن تتجلى إلا في مسرح للعبث ثانياً، أن ضياع الفرق بين الكلام في السياسة وعنها وبين مسرح العبث يدل على احتكار ومصادرة الحقل السياسي، أي موت السياسة، ثالثاً.
وهذه الدلالات كلها يمكن العثور عليها مع تفاوت في الدرجة لا في النوع في الحقل السياسي الفلسطيني، الذي احتكرته وصادرته وأغلقته الفصائل والميليشيات الفلسطينية على مدار عقود أصبحت طويلة. التفاوت في الدرجة لا في النوع ناجم عن شتات الفلسطينيين في أماكن مختلفة، واستحالة ممارسة آليات الضبط والسيطرة، والانتخاب والإقصاء بطريقة مركزية ومباشرة.
وعلى الرغم من ضعف تلك الآليات، إلا أن الفلسطينيين يعانون من حالة “تجريف” (ابتكر المصريون هذه المفردة لتشخيص ما أصابهم من دمار وبوار قبل الثورة) لا تختلف، بالمعنى الاجتماعي والسياسي والفكري، عمّا أصاب بقية الشعوب في العالم العربي.
للتدليل على أمر كهذا، ولتكن حادثة “اليرموك” و”القيادة العامة” وسيلة إيضاح، يمكن القول إن ما لا يحصى من التعليقات التي أعقبت الهجوم على مخيّم اليرموك، فشلت في التذكير بحقائق من نوع أن السيد أحمد جبريل، يشغل منصب الأمين العام للقيادة العامة منذ ثلاثة وأربعين عاماً، وأن ظاهرة الرئاسة مدى الحياة في بعض البلدان العربية يقابلها أمانة عامة مدى الحياة في الحقل السياسي الفلسطيني، خاصة إذا وضعنا في الاعتبار حقيقة أن “جبريل” ليس العضو الوحيد في أولمب الأمناء العامين مدى الحياة.
وفي السياق نفسه، فشلت بعض ردود الفعل الغاضبة على تحالف جبريل مع نظام آل الأسد، والتي شككت في فلسطينية جماعته، وأشارت إلى دوره في الحرب على المخيمات الفلسطينية في شمال لبنان في العام 1983، في التذكير بحقائق من نوع أن لا الهوية “الفلسطينية” ولا الدور في شمال لبنان، كانا في يوم من الأيام موضوعاً للتساؤل، أو الاستنكار، أو التحقيق القضائي، ولا حتى التحقيقات الصحافية.
يصدر هذا الفشل المزدوج عن البنية العقلية نفسها التي سوّغت لشخص ما أن يرد على سؤال محدد وواضح المعالم حول قصف بشّار الأسد لمخيم اليرموك بالطائرات، بجواب ينتمي إلى فصيلة أسعار الملح. بمعنى آخر، لا يطال التجريف الذي أصاب الحقل السياسي الفلسطيني مَنْ هم “ضدنا”، بل ومَنْ هم “معنا” أيضاً.
وإذا شئنا الكلام عن فضيلة من فضائل ثورات الربيع العربي (بما فيها الثورة السورية ضد نظام آل الأسد) فإنها تتمثل في خلق حساسية خاصة إزاء الشرعية السياسية، ومصادرها، وطرق الحصول عليها، والتعبير عنها.
وفي ظل حساسية كهذه تفقد الصياغات الأيديولوجية، والأبقار المقدّسة، قدرتها على التجنيد والإقناع، فهي ليست أكثر من قناع: المؤامرة، والإمبريالية، وحق العودة، والتحرير، ودماء الشهداء.
وما علاقة كل هذه الأشياء بطائرات قصفت مخيماً للاجئين، وقد كان في مقدور الناطق الهمام تبرير ما حدث بظروف خاصة أملتها طبيعة المعركة، وضرورة طرد “الإرهابيين” من المخيم، مع رش قليل من السكر على الجرح: الاعتذار وتقديم التعازي.
هذا أفضل ألف مرّة من الكلام عن حق العودة. ولكم لماذا لم يحدث ذلك؟ لأن الكلام عن حق العودة يمنح الناطق قوّة الشرعية، بينما الاعتراف بالواقع يفضح ما لديه من شرعية القوّة. فإذا نضبت الأولى، ووهنت الثانية، أصبح الواقع، وبقدر ما يتعلّق الأمر بأدوات التعبير عنه، مسرحاً للعبث تسكنه الفوضى، وتنطق باسمه لغة لا ترضى بأقل من قناع المُقدّس، ولا تُقدِّس سوى بضاعة الكذب. ولدينا في فلسطين والعالم العربي من هذا وذاك الكثير، فكلما سألنا عن المطر تطوّع ناطق ما للقول: ارتفعت أسعار الملح.
khaderhas1@hotmail.com
كاتب فلسطيني
رام الله – برلين