إستماع
Getting your Trinity Audio player ready...
|
مع تكرار الحروب والاقتتال الأهلي والاضطرابات المزمنة التي شهدها لبنان على نطاق واسع منذ الحرب الأهلية عام 1975 وحتى هذا الأسبوع، فإن إصرارَ السلطة السياسية والأحزاب، أيّاً كانت، على وجود حكومة مركزية، بل وأكثر من ذلك، على “بنية تحتية مركزية”، أمر مُحيِّر! وهو نابع إما من قِصَر النظر أو، على الأرجح، من منافع السيطرة على تلك الخدمات المركزية واستخدامها لمصلحة زبائنها وطوائفها.
لو قررت الحكومات المتعاقبة منذ العام 1983، إنشاء 3 مطارات أخرى في لبنان (في الجنوب والشمال والبقاع) لتحققت سهولة إجلاء ُاللبنانيين والأجانب المقيمين في لبنان، ولتقلَّصَت مخاوفُهم من البقاء في البلاد في أوقات الاضطرابات. ولتراجعَ بشكل جدي خطر التعرُّض للقصف إما بمجاورة مستودع ذخيرة لحزب الله أو بقنبلة من طائرة إسرائيلية (باستثناء المطار المزمع إنشاؤه في الجنوب). وكان من شأن ذلك أن يزيل سحابة من القلق والخوف والتوتر عن كثيرٍ من العائلات وكثيرٍ من السكان، ولكانت المساعدات المدنية والإنسانية قد وصلت إلى شواطئنا بشكل أسرع وبأحجام أكبر.
ولو أن الحكومات المتعاقبة منذ العام 1983، قامت بترميم كل المرافئ البحرية في لبنان في صيدا وبيروت وجونية وطرابلس بأرصفة للركاب، وبوسائل بحرية – سُفن وحوّامات – لإجلاء الناس ونقل البضائع، لكانت النتائج المفيدة نفسها (باستثناء الجنوب، مرة أخرى).
ولو قامت الحكومات المتعاقبة منذ عام 1983 ببناء مستوصفات ومستشفيات ومصحّات وّ”بنوك دم” ومستودعات مناسبة لمساعدة النازحين، وليس بالضرورة بناء مراكز إيواء، بل ما يكفي من الأماكن العامة (مدارس، ملاعب ، صالات ومباني عسكرية وغيرها) لتلاشت صورُ بؤس العائلات اللبنانية، مع كبار السن والأطفال والنساء وغيرهم من اللاجئين في بلدهم، تهيم على وجهها من منطقة إلى أخرى، ومن شارع إلى شارع، ومن مبنى إلى آخر. أو على الأقل، كان يمكن أن يتقلص حجم الكارثة بسبب وجود مرافق جاهزة أو مجهزة بسرعة لاستقبال هذا الكم الهائل من النازحين.
ولو أن الحكومات المتعاقبة منذ عام 1983 أعطت للمناطق أو الأقضية الأموال الكافية والوسائل الكافية لتأمين التمويل من الضرائب المحلية، بدلاً من اكتناز أموال البلديات على مستوى الحكومة المركزية، لكان بإمكان هذه المناطق والأقضية والبلديات التابعةلها أن تنشئ ما يكفي من الملاجئ، خاصة في القرى الأمامية المواجهة للحدود الجنوبية، وإنشاء فرق إطفاء الحرائق، وصفارات إنذار (تفتقر إليها حتى الحكومة المركزية، والتي كانت موجودة قبل عام 1975) للإيواء وتنبيه السكان من الهجمات القادمة والأخطار الأخرى التي تواجه سكانها المدنيين.
إن غياب “اللامركزية” – ناهيك عن “الفيدرالية” – ليس كما يظن معارضوها، أو حتى مؤيدوها، سياسياً وطائفياً بحتاً. بل هو نابع أيضاً من رغبة النخبة السياسية في الاحتفاظ بـ”كعكة“ الغنائم المركزية لتكون كبيرةً بما يكفي حتى تستمتع بمنافعها.
لذا، لم تكتفِ “وزارة المُهجَّرين” بمعالجة ملفات السكان الذين تركوا قراهم بعد حرب الجبل الرهيبة عام 1984، بل عالجت أيضاً “ملف المهجَّرين في سوليدير“، فأعطت من يسيطر عليها ثروات هائلة. ولم تُترك أموال البلديات لتُصرف محليًا، بل كان هناك حساب مركزي يتلقى جزءًا من هذه الأموال لتمويل خدمات إدارة النفايات التي توقفت محليًا وتم التعاقد عليها في أجزاء كبيرة من البلاد. ونفس الشيء بالنسبة للمطار والميناء والمستشفيات الحكومية ووزارة الصحة والتعليم، ناهيك عن وزارة الاتصالات.
إذاً، كل من كان في السلطة، سواء الماروني أو السني أو الشيعي أم الدرزي، عارضَ اللامركزية والفيدرالية بشدة، ليس فقط من منظور وطني أو سياسي، وفقَ حججٍ واهية وغير قابلة للاستمرار، وليس من منطلق الحفاظ على وحدة البلاد، فالدولة الاتحادية هي دولة موحدة وليست مجزأة. ولكن، والأهم من ذلك، لأن الغنائم في النظام اللامركزي موزعة على مستوى الأقضية الأصغر، والتي بدورها تكون أكثر مساءلة أمام السكان المحليين، وبالتالي مع الوقت ستتصرف بمسؤولية أكبر وليس بالحصانة التامة التي تتمتع بها الحكومة المركزية.
والآن، ومع الواقع المرير للحرب المدمرة بين إسرائيل وحزب الله، هل سيُدرك الشعب – وليس السياسيون الفاسدون وغير الأكفاء أن اللامركزية والفيدرالية ضرورة حيوية (ليس سياسيا فقط)وليست ترفاً لبلد مثل لبنان يعيش على حافة الهاوية ويغرق في حروب مدمرة كل 10 أو 20 عاماً؟
وهل يملك السياسيون الفاسدون والعاجزون الشجاعة ليقولوا “إنني ايقنت اخيرا” ولم يعد بوسعي الاختباء خلف “لو كنت أعلم”؟
سألت أحد العارفين عن “ملف المهجّرين في سوليدير” الذي يشير إليه الكاتب فقيلَ لي أن “سوليدير” دفعت 250 مليون دولار لإخراج بضع مئات أو الوف من “المُهجّرين” (أكراد وشيعة بمعظمهم) من منطقة “وادي أبو جميل” وغيرها، وأن 150 مليون دولار من ذلك المبلغ ذهب، في الحقيقة، إلى جيوب السادة وليد جنبلاط ونبيه برّي وإيلي حبيقة، الأوّلين لتسهيل إخراج “المهجّرين” والأخير تعويضاً له عن سقوط “الإتفاق الثلاثي” الذي رعاه حافظ الأسد.
هذا أول موضوع أقرأه عن “اللأمركزية” يتناولها من ناحبة “المنطق”، ومن زاوية “الصالح العمومي” (المفهوم الذي ابتكرته إحدى “عاميات” جبل لبنان في القرن الـ19)، أي صالح المواطنين، وليس بموجب اعتبارات “القيد الطائفي” في تذكرة الهوية اللبنانية. الكاتب هنا يلاحظ مصلحة إبن عكار، أو إبن البقاع، أياُ كانت طائفته، في استخدام مطار “محلي” يوفّر عليه إضاعة 7 ساعات للوصول إلى مطار بيروت للقيام برحلة جوية، إلى قبرص مثلا، تستغرق اقل من ساعة. ويلاحظ الكاتب، عن حق، أن الدُول “اللامركزية” ليست مجزّأة بل موحّدة. وهذا يصحّ على سويسرا، والولايات المتحدة، وألمانيا، ودولة الإمارات. وقد انتقلت فرنسا، التي ظلت “يعقوبية” منذ الثورة الفرنسية… قراءة المزيد ..