منذ عدة أيام احتفل داعية السلام الإسرائيلي يوري أفينري بعيد ميلاده الخامس والثمانين بين مئات من أنصاره ومُعجبيه. وحينما سؤل، كالعادة في هذه المناسبة، عن أمنية “عيد الميلاد”، قال “أن تُرزق إسرائيل أوباما، يُحقق لها السلام مع الفلسطينيين”!
ولمن لا يعرف من القرّاء العرب، فإن يوري أفينري هو أحد مؤسسي حركة السلام الإسرائيلية، التي ناهضت الاحتلال الإسرائيلي للآراضي العربية، ودعت لصيغة الدولتين، عودة لروح قرار التقسيم (1947). وكان أفينري أصغر أعضاء الكنيست (البرلمان) وهو دون الأربعين من عُمره، حينما غامر وقابل ياسر عرفات، رئيس فتح ومنظمة التحرير الفلسطينية، وسط استهجان وإدانة واسعة من بقية السياسيين الإسرائيليين. وجرت مُحاولات لإسقاط عضويته في الكنيست ومُحاكمته بتهمة “الخيانة”. ولكن الرجل صمد، وظل أميناً لدعوة التعايش السلمي بين الشعبين والدولتين. وهو ما أصبح العالم كله، بما في ذلك مُعظم الساسة الإسرائيليين يأخذون به كحل أمثل، لهذا الصراع المُمتد.
وللدقة والأمانة، فإن أفينري إسرائيلي وطني، وكان قد حمل السلاح في الحرب العربية ـ الإسرائيلية الأولى عام 1948. أي أنه من جيل مؤسسي الدولة اليهودية. شأنه في ذلك شأن شيمون بيزير، وإسحق شامير وين جوريون وإسحق رابين وجولدا مائير. وكان عُمره وقتذاك في الخامسة والعشرين. ولكنه رأى مُبكراً، وقبل غيره من أبناء ذلك الجيل، أن تحقيق الحلم الصهيوني بإعادة تأسيس الدولة اليهودية، بعد 2000 عاماً، جاء على حساب شعب آخر هو الشعب الفلسطيني. لذلك أخذ على عاتقه البحث عن صيغة مُثلى (وليست مثالية) لتصحيح هذا الخطأ التراجيدي، وصياغة مُصالحة تاريخية بين الشعبين اللذين يُحبان نفس الأرض. وفي ذلك، ظل يوري أفينري يسبح ضد التيار ـ سواء في إسرائيل التي كان مُعظم الرأي العام فيها ما يزال يحلم “بإسرائيل الكُبرى من البحر (المتوسط) إلى النهر (الأردن)”، أو الرأي العام العربي الذي كان مُعظمه ما يزال يحلم بإزالة إسرائيل واسترجاع فلسطين التاريخية كاملة “من النهر إلى البحر”. وظل أفينري يُغرّد مُنفرداً لربع قرن، إلى أن قام الرئيس الراحل أنور السادات بزيارته التاريخية للقدس عام 1977.
وفي الكلمة التي ألقاها يوري أفينري في احتفال عيد ميلاده، رصد الرجل إنجازات الدولة اليهودية في شتى الميادين، وهي عديدة، وجعلت من إسرائيل بلداً تُصنّفه كل المنظمات الدولية في عداد بُلدان العالم الأولى. ولكنه أضاف في المُقابل فشلها التاريخي الكبير، وهو الإخفاق في مواجهة المسألة الفلسطينية بالحسم والإنصاف، حينما كانت هناك فُرص عديدة لذلك. وأضاف أن هذا الإخفاق سببه الانتهازية السياسية على الجانبين. فهناك من يستفيدون من بقاء الأمور على حالها. بل هناك من يستفيدون أكثر من رفع درجة حرارة التوتر والصراع المُسلح. واختتم أفينري بتفسير أمنيته في ظهور أوباما على المسرح الإسرائيلي لكي يُحدث ثورة في المفاهيم والمُمارسات، ويُحقق المُصالحة التاريخية في الشرق الأوسط، والتي أصبحت كل عناصرها معروفة، بل ومتواجدة بالفعل، وهي: دولتان مُتعايشتان سلمياً، بحدود مُتصلة، عاصمة إحداهما القدس الغربية وهي إسرائيل، وعاصمة الثانية القدس الشرقية وهي فلسطين، وعودة رمزية لعدة آلاف من اللاجئين إلى فلسطين ما قبل 1948، وانسحاب إسرائيل من مُرتفعات الجولان السورية ومن مزارع شبعا، وذلك كله في مُقابل اعتراف عربي جماعي بالدولة اليهودية والتطبيع الكامل مع إسرائيل.
لم يمض على ترديد أفينري لحلمه بظهور أوباما إسرائيلي، وكأنه المسيح المُنتظر، إلا عدة أيام، وإذا بحكومة بلاده تُشن غارات جوية مُكثفة على قطاع غزة (27/12/2008)، تقتل فيها في أيامها الثلاثة الأولى أكثر من ثلاثمائة فلسطيني، وتجرح أكثر من ألف، مُدعية أن هذه الغارات هي دفاع عن النفس في مواجهة “صواريخ القسّام” التي عادت حركة حماس على إطلاقها على المدنيين في جنوب إسرائيل، وقتلت مواطنة إسرائيلية… وكالعادة كان رد الفعل الإسرائيلي هذا مُبالغاً فيه بكل المقاييس… وكأن إسرائيل كانت تنتظر هذا السلوك من حركة حماس لتُشن هذه الغارات الكثيفة، التي أدانها كثيرون حول العالم، وخرجت مُظاهرات حاشدة للاحتجاج عليها في عديد من مدن العالم… وهذه هي ربما الغارة المائة على القطاع خلال الأربعين عاماً الماضية، وإن كانت الأكثرها دراما ودموية، وتأتي قبل عدة أسابيع من الانتخابات العامة الإسرائيلية (فبراير 2009)، ويتنافس فيها على رئاسة الوزراء كل صقور تل أبيب: من بنيامين نيتانياهو إلى أيهود باراك. وكل ما يحدث في غزة هو مصداق لما نبّه إليه، وتحسّر عليه داعية السلام الإسرائيلي يوري افينري في عيد ميلاده الخامس والثمانين… والذي أطلق فيه حلمه بظهور أوباما إسرائيل، يُحقق السلام الإسرائيلي الفلسطيني، في حياته، التي قاربت نهايتها!
وفي غياب أوباما إسرائيل في الوقت الحاضر، والمستقبل المنظور، تتجه الأنظار إلى باراك أوباما، الأصلي الذي اُنتخب رئيساً للولايات المتحدة في نوفمبر 2008، ويتولى مقاليد الأمور رسمياً في غضون أسابيع قليلة (20 يناير 2009). يقول يوري أفينري أن أوباما يملك القبول العالمي، ويتمتع بالكاريزما، والسلطة الأدبية الهائلة، والقدرات السياسية الخارقة، والتي أحدثت إنقلاباً غير مسبوق في الولايات المتحدة… فهو المؤهل قبل أي سياسي آخر في العالم، على تحقيق حلم السلام في أرض السلام. وها هو الاختبار الأول لباراك أوباما في غزة… فهل سينجح في انتهاز الفرصة ـ ويُحقق حلم أفينري، وأحلام الملايين من العرب واليهود وغيرهم حول العالم، إن غداً لناظره قريب.
semibrahim@gmail.com
من سفر المنفى في أشبيليه