عند انطلاق فعاليات دمشق عاصمة للثقافة العربية، مطلع السنة الماضية، أصدر عدد من المثقفين السوريين المتواجدين في الخارج (محمد علي أتاسي، سليم بركات، بشير البكر، فرج بيرقدار، نوري الجراح، بطرس حلاق، منهل السراج، رفيق شامي، المثنى الشيخ عطية، برهان غليون، رنا قباني، علي كنعان، فاروق مردم بك، فايز ملص، خليل النعيمي، وكاتب هذه السطور) بياناً في المناسبة، ذكّروا فيه الضيوف المشاركين بـ”مسؤولية مبدئية، أخلاقية وإنسانية، لا يستطيع أيّ مثقف حرّ أن ينفض يده منها أو يسكت عنها”.
ثمة، من جانب أوّل، عدد كبير من خيرة مثقفي سورية يقبعون في المعتقلات “لا لذنب ارتكبوه سوى أنهم عبّروا، بوسائل سلمية مشروعة يقرّها الدستور السوري، عن الحلم بسورية أفضل، ديمقراطية مزدهرة منيعة، متحرّرة من الإستبداد، يتمتع أبناؤها بالحرّية والعدل والكرامة”. وثمة، من جانب ثانٍ، عمليات تهديم منظّم لعدد من “معالم دمشق الأثرية وأسواقها العريقة، خصوصاً تلك التي تصنع خصوصية المدينة التراثية والمعمارية، كما تُبقي الكثير من تقاليدها الإنسانية والثقافية والتاريخية حيّة وحيوية”.
وقال البيان، في فقرته الختامية: “ونحن، إذْ يثلج صدورنا أن تزوروا بلدنا فيلتقي بكم شعبنا المضياف، ويتعرّف على آدابكم وفنونكم وأفكاركم؛ فإننا نناشد المشاركين في أنشطة هذه الإحتفالية أن لا يعودوا من دمشق دون إيماءة تضامن ملموسة وصريحة وشجاعة: مع معتقلي الرأي، محبّي الحرّية والحقّ والجمال من أبناء سورية الصابرة، أوّلاً؛ ثمّ مع دمشق الشام ذاتها، الأقدم في التاريخ، حيث الطريق إليها مستقيم حقّ لا ينبغي له أن يمرّ بالمعتقلات والسجون وأقبية التعذيب”.
وفي حدود ما أعلم، وأرجو أنّ الحدود هذه لا تُلحق غبناً بأحد، كان مارسيل خليفة هو الوحيد الذي اتخذ موقفاً علنياً من مسألة الحريات، حتى إذا كان قد وضعها في الإطار العربي العريض، وليس السوري مباشرة. ففي واحدة من الحفلات التي أحياها اختتاماً لفعاليات السنة، أهدى خليفة إحدى أغنياته إلى “السجناء العرب في السجون الإسرائيلية”، ثمّ أكمل: “وإلى السجناء العرب في السجون العربية”، حين اشتعلت الصالة بالتصفيق. ورغم أنّ هذا الموقف لم يكن غريباً على فنّان ملتزم تقدّمي مثل خليفة، فإنّ تلك الإنفرادة اكتسبت مغزى بالغ الخصوصية بالمقارنة مع الصمت المطبق الذي اختاره عشرات الكتّاب والفنّانين والمثقفين العرب الذين شاركوا في الفعاليات على مدار السنة.
ليس هذا تأثيماً لأحد، البتة؛ ولا هو انتقاص من قيمة معظم ما قُدّم من آداب وفنون؛ بل هو محض عتب مشروع كما نعتقد، نحن الذين نعرف أنّ ضمائر الغالبية الساحقة من الضيوف العرب ينبغي ـ من حيث المبدأ، في الأقلّ ـ أن تكون متعاطفة مع زملائهم المثقفين السوريين، المعتقلين أو الملاحقين. ونعرف، إلى ذلك وقبله، أنّ نقل يقين الضمير إلى نطق اللسان أو بيان القلم ليس يسيراً دائماً، وليس توفّره أو غيابه رهن اعتبارات بسيطة أو مبسطة، ولهذا لا نشتقّ معايير أو أحكام قيمة فنّية جرّاء غياب الموقف، وإنْ كنّا نرى الكثير من التثمين الأخلاقي في حضوره.
وأعرف شخصياً أنّ عدداً من الكتّاب والفنّانين والمثقفين العرب، بينهم كبار في أيّ تصنيف متفق عليه، اعتذروا عن المشاركة دون تردّد، رغم الإلحاح الشديد، ورغم أنّ الإعتذار كان ينطوي على أكثر من مستوى للحرج، بعضه سياسي أيضاً. ولست أمتنع عن ذكر الأسماء إلا لاعتبار أوّل يخصّ حقّ هؤلاء في إعلان ذلك الموقف بأنفسهم، وليس عن طريق طرف ثالث غير المدعوّ والجهة الداعية؛ ولاعتبار ثانٍ يتفادى، ببساطة، فخّ المقارنات القِيَمية بين حضور زيد وغياب عمرو.
ويبقى أنّ حصيلة السنة تلك كانت هزيلة من حيث الخطة الإجمالية والإنتاج الثقافي ونطاق ونوعية المشاركات، مع حفظ استثناءات قليلة للغاية تُحتسب في باب الحدّ الأدنى. ولعلّ مثال الإصدارات النقدية التكريمية، عن عبد السلام العجيلي ونزار قباني وحنا مينة وأدونيس وسعيد حورانية وغادة السمان، يحضر إلى الذهن قبل سواه، في مضمار هزال الخطة. صحيح أنّ هذه الأسماء تستحقّ التكريم، ولكنّ المشكلة تكمن في انتمائهم جميعاً إلى الإبداع الأدبي وحده، مقابل غياب أسماء كبرى تستحقّ التكريم في ميادين ثقافية أخرى، كالمسرح والتشكيل والسينما. هذا لا يطمس حقيقة إصدار عناوين كثيرة، بينها نتاجات إبداعية للشعراء الشباب خاصة، وسلسلة مسرحية، وأعمال في أدب الأطفال، ودراسات تاريخية متنوعة. ولكنه لا يطمس، في الآن ذاته، ما تردّد من أنّ الرقابة السياسية ـ الأمنية منعت أية صيغة للتعاطي مع أعمال الروائي والناقد الراحل هاني الراهب، والشاعر والروائي سليم بركات، ليس لأيّ سبب إبداعي كما يمكن للمرء أن يتخيّل!
وأمّا دمشق الشام نفسها، العاصمة صاحبة الإحتفالية، فإنّ ذئاب الفساد واصلوا الإمعان في تهديم تاريخها الحضاري والتاريخي والمعماري في مواقع عريقة عتيقة مثل سوق الطويل والبزورية والمناخلية والعمارة، في كلّ يوم من أيام السنة. وليس عسيراً معرفة الصوت الذى طغى على الإحتفالية، في نهاية المطاف: عواء الذئب خلف جرّافة الهدم، أم قصيدة الشاعر على المنبر.
(s.hadidi@libertysurf.fr
• كاتب سوري- باريس