الممانعة غيرالمواجهة: سبق أن كتبنا في الفرق بين الممانعة والمواجهة (في كتابنا: اغتيال الدولة)، أن الممانعة هي صيغة لتأجيل الاستسلام أو لتمويهه، ذلك “لأن حركة التحرر الوطني العربية كانت قد اختارت في صراعها مع جبهة أعداء الخارج سلوكا هجوميا بدأ مع تأميم قناة السويس واستمر حتى حرب حرب تشرين 73، وكانت آفاق تلك السياسة مفتوحة على مشروع التحرر، وبعده على تجاوز المشروع الرأسمالي. بعد هذا التاريخ ساد في أدبيات الصراع مصطلح الممانعة، وهو يعني البقاء في موقع الصمود، من غير التصدي، إزاء ما يطرح من مشاريع لتسوية القضية الفلسطينية وقضية الأراضي العربية المحتلة. والممانعة تعني عدم الاستسلام لمخططات أعداء الخارج. لكنها، في ظل سياسة الصمت وعدم المبادرة، كانت تعني انتظار تغييرات في معطيات الصراع من دون أن يكون لحركة التحرر أو لما تبقى منها أي فعل فيها أو تدخل أو مبادرة لتعديل هذه المعطيات لصالح القضية العربية، ما جعل سياسة الممانعة تعني تأجيل الاستسلام فحسب وليس رفضه.إنها إذن استسلام مبكر، أو استباقي، راحت تعكر صفوه سياسة مواجهة لبنانية فلسطينية، نعتت حينذاك بأنها سباحة ضد التيار، واستمرت حتى الاحتلال الإسرائيلي لبيروت، لتبدأ حلقة جديدة من المواجهة جسدتها المقاومة الوطنية اللبنانية ضد القوات الصهيونية. وبهذا المعنى لم يكن إعلان قيام جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية أمرا ثانويا، وبهذا المعنى أيضا بدت المقاومة الاسلامية في لبنان موزعة بين خياري الممانعة و المواجهة، وهو ما أكدته أحداث ما بعد تحرير الجنوب اللبناني.”
لم يعد سرا أن التنافس بين سياسة الممانعة و سياسة المواجهة أفضى إلى انتصارحققته الأولى فألغت المقاومة الوطنية ودجنت المقاومة الإسلامية، وسعت إلى إرجاء كل المعارك، تحت شعار “لا صوت يعلو فوق صوت المعركة” لأن “أم المعارك” لدى الممانعين مؤجلة بانتظار الاستسلام الرسمي، أو التسوية الرسمية.
وقائع الممانعة تفسر اتفاق الدوحة
صار من نافل القول إن مجموعة عوامل دولية وإقليمية ومحلية هي التي أفضت إلى اتفاق الدوحة، وهي نوعان، نوع هو من بديهيات الوقائع السياسية، والثاني من قبيل الفرضيات والاستنتاجات . أما عوامل النوع الأول فمنها، على سبيل العد لا الحصر:
1- العلاقات الأميركية الإيرانية، وهي، من جهة، صراع على النفط وعلى التخصيب النووي وعلى النفوذ في أفغانستان والعراق ومنطقة الخليج ولبنان، ومن جهة ثانية مفاوضات جارية بين الطرفين، عبر الأزمة العراقية وسواها أو عبر الممرات الدبلوماسية، وكان آخرها ما تناولته وسائل الإعلام عن عروض سخية تقدمت بها إيران ورفضتها أميركا لأنها تريد المزيد، أو قيل إن أميركا تقدمت بها وإيران تريد المزيد.
2- العلاقات الأميركية السورية، وهي، من جهة، صراع على النفوذ في لبنان وفلسطين والعراق، ومن جهة ثانية، مفاوضات مكشوفة بين إسرائيل وسوريا عبر تركيا، ورغبات سورية بنيل البركة الأميركية، وأميركا تريد المزيد.
3- التنافس التركي الإيراني على النفوذ في المنطقة العربية، كاستعادة للنزاعات القديمة في العصر الوسيط.
4- الصراع العربي الإسرائيلي وتجلياته وما يتحدر منه من نزاعات عربية عربية، منها ما يحصل داخل فلسطين المحتلة بين حماس والسلطة الوطنية، وامتدادات ذلك إلى المحيط العربي الإيراني.
5- الصراع الدولي على النفوذ في المنطقة، وعودة الدور الروسي مجددا بعد غيابه في العقد الأخير من القرن الماضي، وفي هذا الإطار يمكن أن يندرج التنافس المضمر أوالتعاون القائم بين أوروبا والولايات المتحدة الأميركية.
6- الصراع الداخلي على مستقبل الدور اللبناني في قضايا المنطقة: الصراع بين الوطن والساحة، وتجليات ذلك في الانقسامات المذهبية والطائفية: بين دولة القانون ودولة المحاصصة.
7- الصراع ضد الإرهاب، والصراع على موضوع المقاومة، الخ…
هذه العوامل هي من الصنف السهل الذي بإمكان أي مبتدئ في السياسة (فكيف بالخبير؟) أن يغرف منه وأن يضيف إليه عوامل أخرى من نوع منعطف الولاية الرئاسية في أميركا، وكذلك الانتخابات في إيران، أو الأزمة الاقتصادية العالمية وتجلياتها الحالية في ارتفاع غير مسبوق في أسعار النفط، الخ، وهي أزمة تذكر الثوريين دوما بأزمة العشرينات من القرن الماضي ، الخ…
أما العوامل المضمرة فهي فرضيات نبني عليها تحليلنا ونستخلص منها استنتاجاتنا.
أولا: الأحادية القطبية
مع انهيار الاتحاد السوفياتي، انتهى، أو أرجئ إلى أجل غير مسمى، عصر الثورات والانقلابات الثورية، وكذلك عصر الانقلابات الرجعية. فالثورتان الفرنسية والاشتراكية وحدهما هما الثورة أما سواهما فليس إلا مجرد انقلابات كانت تقودها الجيوش أو الانتفاضات الشعبية(إننا نعتمد مقولة سمير أمين بوجود ثلاث ثورات فحسب في العصور الحديثة، الفرنسية والسوفياتية والصينية). ثورات النوع الأول زعمت أنها كانت تغير، أو تسعى إلى تغيير بنية المجتمع سياسيا واقتصاديا وثقافيا، وتنقله من نمط إنتاج إلى نمط آخر، فيما النوع الثاني كان يكتفي بتغيير السلطة الحاكمة دون المساس ببنية النظام، ولذلك فهو كان يكتفي من الثورة بشبهتها. وللدقة، كانت أشباه الثورات تأخذ من الاشتراكية أسوأ ما فيها، أي الاستبداد المخابراتي وحكم الحزب الواحد، ومن الرأسمالة أسوأ ما فيها، أي البيرقراطية والفساد والاستغلال المتوحش. ثوراتنا العربية التي حكمت عقولنا قرنا أو ما يقربه، هي مسخرة الثورات. بل تشويه للمعاني الثورية في كل ثورة. ثم جاءت الثورة الإيرانية لتضيف إلى انقلابات الحركة القومية العربية انقلابا جديدا (الخمينية في إيران تشبه إلى حد كبير الناصرية في العالم العربي) . وما أحداث القرن الماضي في شرقنا العربي سوى انقلابات أو تنويعات على الانقلابات العسكرية، سيان إن قام بها أصحاب القبعات العسكرية واللحى اليسارية الثورية أو أصحاب العمائم والقلنسوات واللحى الدينية التراثية.
يبدو هذا في نظر البعض تفاصيل من خارج الموضوع. لكنه، في نظرنا، يمثل جوهر المشكلة. الثورة، بما هي تغيير جذري (مزعوم أو حقيقي) كانت تفتح أفقا على المستقبل أو تزعم ذلك، وتخترق الحدود التي ليست حدودا زمانية فحسب، بل حدود مكانية بالدرجة الأولى. فالثورة الفرنسية، أي الرأسمالية، انطلقت من أوروبا لتعم العالم، وأطلقت حضارة لا يمكن لها أن تسود إلا إذا عمت العالم (ماركس). والثورة الاشتراكية كانت تطمح بدورها إلى أن تعم العالم. أما أشباه الثورات فقد اندلعت داخل آفاق مغلقة، ولم تكن تملك من المقومات ما يمكنها من اختراق حدود زمانها ومكانها. إنها مجرد محاولات ارتدادية لاستعادة مجد ضائع وحق سليب، بل هي تكرار مضحك لتجارب السلف، الصالح أو الشرير، سلف الدولة السلطانية أو الإمارات أو الممالك أو الأمبراطوريات، أو إن انحدرت، فهي دولة القبيلة أو دويلات العائلات والبطون والأفخاذ.
الصراع على لبنان هو، في جزء منه، صراع ضد من يحاول اختراق حدود الزمان والمكان، أي ضد الثورة الرأسمالية، ضد أعلى مراحلها، أي الإمبريالية بحسب التعبير اللينيني، وضد ربيبتها إسرائيل، وضد أشباه الثورات؛ أما الذين يواجهون الامبريالية فهم يواجهونها بآفاق محدودة بل مقفلة، وهم يحاولون فتحها بالوهم. بالوهم لأنهم إن فتحوا تلك الآفاق فسيجدون أنهم قاتلوا الامبريالية ليقعوا بالذات في حضنها، أو ليدوروا في فلكها، أو ليكونوا في أحسن الأحوال جزءا من منظومتها. إذن إن صراعهم معها هو صراع على السلطة والنفوذ، و ليس صراعا من أجل تغيير العالم نحو الأفضل، على غرار ما فعلت الرأسمالية أو حاولت الاشتراكية، أو من أجل مشروع للبشرية اكثر إنسانية وأقل توحشا. لهذا كان محكوما على الذين يقاتلون، داخل لبنان، وعلى الذين يقاتلون خارجه، على المنوال ذاته، تحت شعارات العداء للامبريالية والصهيونية والاستعمار (اي على غرار من يكبر حجره، أو عدوه تمثلا بعنترة) أن يذهبوا إلى الدوحة (وغدا قد يذهبون إلى سواها) ليوقعوا هدنة أو اتفاقا أو صلحا، والأسوأ إن سموه صلحا، لأنه صلح وعناق وتعاون!!! مع “عملاء الامبريالية والصهيونية والاستعمار”.
في المعارضة اللبنانية طرف يزعم أنه يقود “ثورة” أو أنه امتداد لثورة. لكنه أخذ من الثورة طموحها وأحلامها، وأخذ منها مأزقها أيضا. ومأزقها متعدد الوجوه. أولا هي ليست ثورة بل مجرد انقلاب قام به المعممون، ولم يطرحوا برنامجا للتغيير إلا على مستوى السلطة. اقتصادهم توليفة من الرأسمالية والاشتراكية، وسياستهم، مهما تطرفت واستعانت بعلم الغيب، محكومة بالقوانين الوضعية وبموازين القوى الأرضية والعلوم السببية؛ ثانيا هي محدودة في جزء من الجغرافيا الشيعية، إذن هي ليست ثورة إلا في وهم أصحابها، وبالتالي فهي من غير أفق. وهي حتى لو قيض لها أن تنجح عسكريا داخل حلبات صراعها فلن يكون أمامها إلا أن تدير شؤون الأرض التي تسيطر عليها، من ضمن الخيمة العالمية وليس خارجها، أي خيمة القوانين الدولية وموازين القوى المحلية والاقليمية والدولية.
إذا كان هذا هو شأن من يملك، ولو وهما، مشروع ثورة، فكيف بأطراف أخرى داخل المعارضة اللبنانية لا يملكون مشروعا، بل يكتفون بكونهم وكلاء لسواهم ممن يملكون مشروعا. إنهم جميعا محكومون إذن، بالمضي نحو الاتفاق مكرهين بإرادة سواهم ، إن لم يكن في الدوحة ففي سواها من العواصم.
ثانيا: إسرائيل وتبديل الدور والموقع
كرست حرب الخليج الأولى الأحادية القطبية والهيمنة الأميركية على العالم. بفعل هذه الهيمنة وبفضلها (للأسف) حصل مؤتمر مدريد واتفاقه، وبموجبه حصل انقلاب جذري في السياسة الدولية وفي موقع إسرائيل من خريطة العالم الرأسمالي.
قبل مدريد كانت إسرائيل مشروعا صهيونيا بالدرجة الأولى، ومشروعا يخدم مصالح الرأسمالية العالمية، أي الإمبريالية، بالدرجة الثانية. بعد مدريد تبدلت الأولويات: صارت إسرائيل في نظر الغرب مشروعا إمبرياليا بالدرجة الأولى وبإمكانه أن يوظف إمكاناته، التي هي إمكانات إمبريالية، في خدمة المشروع الصهيوني، وهذا ما يفسر قبولها رسميا (وليس عمليا) بالأرض مقابل السلام. يعني أنها أقرت بالتراجع عن سياسة التوسع (وهي السياسة التي تميز بها المشروع الصهيوني، منذ البداية) لحساب توسيع رقعة المشروع الإمبريالي الذي سميت نسخته المحلية بالشرق الأوسط الجديد. ذلك لأن الولايات المتحدة الأميركية لم تعد بحاجة إلى وسيط يلعب دور الهراوة في الشرق العربي، خصوصا بعد انهيار المعسكر الاشتراكي وتحول حلفائه وحلفاء أميركا معا إلى فريق واحد، إن اختلف أفراده، فهم يختلفون تحت الخيمة الأميركية وإن اتفقوا، فهم يتفقون تحت عباءتها.
مؤتمر مدريد سعى، بموازين القوى الجديدة التي كرسها، أن يجعل الصراع مع إسرائيل صراع حدود فحسب لا صراع وجود. غير أن الفريق المتشدد في إسرائيل أصر على مشروعه الأصلي (الأصولي)، أي الصهيوني، ولم يرض بأن تصير إسرائيل دولة كسائر دول المنطقة تابعة للمشروع الإمبريالي، وتمسك بمقولة شعب الله المختار ودولته المختارة ؛ كما أن فريقا من المتشددين العرب، ثم الإيرانيين مؤخرا، رفضوا العرض الأميركي، الذي من دونه لم يكن ممكنا لمنظمة التحرير الفلسطينية أن تدخل إلى الأرض المحتلة وتقيم عليها حكما ذاتيا وإن بشروط إسرائيلية أميركية.
.
المتشددون على طرفي الحدود حاولوا، لكي يواجهوا المشروع الأميركي، أن يغيروا شروطه. حاولوا إلغاء الاتفاق بإلغاء الموقعين. إسرائيليون قتلوا رابين، أما ياسر عرفات فحوصر بهدف تحجيمه شعبيا وسياسيا، وقيل إن حصاره من قبل إسرائيل كان يبغي اغتياله، أما حصاره عربيا فلتجريده من صفته التمثيلية.
منذ مدريد تغير مضمون الصراع العربي الإسرائيلي، فلم يعد أفق الانتصار الإسرائيلي (إن حصل) مفتوحا على احتمالات التوسع الجغرافي، ولا الانتصار العربي أو الإيراني (إن حصل) مآله إزالة إسرائيل (حتى لو كانت تصريحات الرئيس الإيراني تخالف ذلك). ضاقت إذن مساحة المناورة، وانحصرت الأهداف السياسية من أية معركة عسكرية ضمن حدود تحسين شروط المفاوضات.
لم يعد للسلاح إذن لا الدور ذاته ولا الجدوى ذاتها. بل صار الهدف من استخدامه (خصوصا بعد الانسحاب الاسرائيلي من لبنان، باستثناء مزارع شبعا) محصورا في تحسين شروط التسويات المحتملة. إذن كان من الطبيعي، بعد الإعلان عن مفاوضات مكشوفة بين سوريا وإسرائيل، عبر تركيا، وبين إيران وأميركا، ضمن القنوات الدبلوماسية، أن يرتد السلاح إلى الداخل اللبناني، على صورة استعراض قوة مسدودة آفاقه بالحدود المرسومة بين الطوائف، وبالتصميم على تفادي الحرب الأهلية، وبات من الطبيعي بالتالي أن تضغط الظروف الإقليمية الميالة إلى أجواء التفاوض على المعارضة اللبنانية للتوقيع على اتفاق الدوحة. لكن ما لم يبد طبيعيا هو أن المعارضة اللبنانية لم تنتبه إلى أن توقيعها على الاتفاق لم يكن فحسب ترجمة لموازين قوى جديدة نجمت عن الاستعراض العسكري في بيروت بل، قبل ذلك،عن الضغوط الخارجية ، التي بدأت على شكل نصيحة سورية وانتهت بتدخل إيراني مباشر أكثر من مرة خلال مؤتمر الدوحة.
ثالثا: أوهام المشاريع الدينية والعسكرية
المشروع الوحيد الذي يتوهم أصحابه أن آفاقه مفتوحة على المستقبل، ومفتوحة على الجغرافيا، هو مشروع حزب الله المتعلق بولاية الفقيه والمهدي المنتظر. وهو ليس مشروعا لسائر أطراف المعارضة اللبنانية. وإذا كان تحقيق هذا المشروع يشبه اليقين الإيماني لدى أصحابه، فهو في نظر حلفائه السياسيين وخصومه الدينيين والسياسيين مجرد اعتقاد ديني، بل مذهبي، يشبه كل المعتقدات الغيبية السائدة لدى كل الفرق الدينية التوحيدية وغير التوحيدية.وبالتالي فإن حشر هذا الاعتقاد داخل متاهات السياسة اللبنانية والشرق أوسطية لن يكون في مصلحة المعتقد ولا في مصلحة مشروعه السياسي. لذلك كان من الطبيعي أن ينكفئ طموح أصحاب المشروع، بل أن يفرض عليهم الانكفاء بمجرد احتكاك الفكرة بالواقع اللبناني المعقد الذي سبق لمشروع المارونية السياسية أن تحطم على صخرة تعدده الطائفي، وتراجع بعد أن كلف لبنان أثمانا باهظة.المشروع السياسي الشيعي يشبه مشروع المارونية السياسية، ومن الضروري أن تستفيد الشيعية السياسية من تجارب سواها، وأن تستفيد،على نحو خاص، من حقيقتين اثنتين:
الأولى: انسداد الأفق أمام الانقلابات الطائفية والعسكرية في لبنان، لأنه وطن قائم على التنوع
الثانية: حل الأزمة اللبنانية رهن بقيام دولة القانون والمؤسسات، دولة الحريات الديمقراطية والعدالة الاجتماعية والكفاءة وتكافؤ الفرص، وفي ظل هذه الدولة السيدة المستقلة تتحدد سياسة لبنان الخارجية التزاما بالقضايا العربية، وفي الطليعة منها قضية فلسطين، وتتحدد علاقاته الدولية الأخرى خصوصا علاقاته مع إيران.
أما المهزلة الأكبر فتتمثل، لا في كون الثورة مجرد وهم في رؤوس أصحابها، بل في تحولها إلى كابوس في رؤوس سواهم من خصوم الشيعية السياسية، الذين راحوا يعدون العدة لمواجهتها. إنها لا تحتاج إلى مواجهة، بل إلى تسهيل طريقها لتصطدم وحدها بحائط الحقيقة (حسنا فعلت قوى الأكثرية التي لم تواجه عسكريا). إنها موجة، ولو طويلة المدى، لن تتكسر إلا على شاطئ الواقع، وهي ككل موجة، لا تتكسر في منتصف طريقها إلى الشاطئ، بل هي لا تتكسر إلا إذا بلغت مداها واصطدمت باليابسة. كان على الذين واجهوها أن يبحثوا عن “دوحة” ما، لا أن يستدرجهم الوهم مثلما استدرجها إلى شوارع بيروت. كان عليهم أن يستدرجوا انقلاب الممانعة إلى شاطئ الحقيقة الوحيد، وهو أن لبنان عصي على الثورات والانقلابات وأشباه الثورات، وعلى كل أنواع الاحتلالات، وأن الديمقراطية فيه تبقى حية بفضل التعدد الطائفي. أما نحن العلمانيين، فعلينا أن نتعلم أيضا من مهزلة ” نضالنا ” ضد الطائفية، ومهزلة ما آل إليه هذا النضال، تكريسا لمذهبية ما داخل النظام، لأننا جعلناه ضد الطوائف، أو ضد بعضها بعضا، وأغفلنا الدور الخطير الذي كان يقوم به المحاصصون من ممثلي الطوائف.إن علينا إذن أن نكف عن قتال الطوائف، وأن نواجه من يتحاصصون السلطات ويتوزعونها ليهيئوا الوطن إلى حرب أهلية كل عقد أو عقدين، وأن نبحث عن سبل تعزز قيام وطن ومواطنية، وتعزز وجود دولة، لا ضد الطوائف بل عابرة للطوائف، وضد المتاجرين باسم الطوائف.
moukaled47@hotmail.com
* كاتب لبناني